الأستاذ الدكتور يان إلهان كيزيلهان*
لا تنتهي الصدمة بآخر طلقة. الصمت بعد الحرب ليس صمتاً أبداً، إنه مليء بالأصداء. تستمر المعركة الحقيقية حيث يتلاشى الضجيج: في أحلام الناجين، في أجسادهم المرتعشة، في الروابط الهشة للعائلات، في ظلال الذاكرة الجماعية.
الحرب والنزوح والاضطهاد - تترك وراءها أكثر من مجرد أنقاض. تترك وراءها آثارًا تُعلّم الأجيال، ندوباً غير مرئية ولكنها تحترق. تستقر في الأعصاب، في الذاكرة، في سلالات الدم. يصبح ألم اليوم خوف الغد، ما لم نجرؤ على مواجهته.
لكننا لسنا عاجزين. الشفاء ممكن. الإنسانية ليست محكومة بالتكرار اللانهائي. يمكننا أن نفهم. يمكننا أن نتحول.
شهادتي الخاصة تشهد على هذه الحقيقة. خوف أجدادي، عدم اليقين لدى والدي، لم يُحكَ أبداً بالكلمات، لكنه كان حاضراً دائماً مثل جو في الغرفة: قلق، اغتراب، صمت. ومع ذلك، من هذا الصمت انبثقت بصيرة. لا يختزل الإنسان أبداً في ما فُعل به. لا بالخوف، لا بالأصل، لا بالخسارة.
الإنسان ليس ماضيه. إنه دائماً أكثر. إنه إمكانية، اتصال، أمل.
الشفاء، مع ذلك، ليس منفرداً أبداً. الطب يهدئ، لكنه لا يكفي. الشفاء يحتاج إلى الوجود البشري. يحتاج إلى الأمان. يحتاج إلى مجتمع. لقد جلست مع نساء عانين من العنف الجنسي، مع رجال تعرضوا للتعذيب، مع أطفال لم يعرفوا سوى العنف لأنهم لم يروا الحنان قط. ومرة بعد مرة لم أرَ الألم فقط. رأيت المرونة. القرار الهش ولكنه عنيد بعدم التعريف بالرعب. مطلبهم بسيط. يطلبون ما يجب أن يكون أبعد من النقاش: الكرامة، الحماية، مكان في العالم.
التاريخ يكرر درسه الوحشي. مراراً وتكراراً، يتعرض الناس للاضطهاد، ويُحرمون من حقوقهم، ويُطردون، ويُقتلون. ليس لما فعلوه، ولكن لمن هم. الإبادة الجماعية ليست صدفة. إنها تتبع سيناريو: تحويل الآخر إلى شيء حتى يمكن تبرير موته. في جوهرها يكمن قتل التعاطف. يجب على المرء أن يتعلم ألا يرى الآخر كإنسان من أجل تدميره. التجريد من الإنسانية ليس مجرد أيديولوجية؛ إنه أيضاً درع الجاني. لأنه إذا شعرنا حقاً في الآخر بما نشعر به في أنفسنا، فلن نتمكن من القتل. سنبقى بشرًا، مع التعاطف، والندم، والمسؤولية.
لكن الإبادة الجماعية لا تسلب الأرواح فقط. إنها تمزق المجتمعات من نسيج التاريخ. إنها تترك وراءها غياباً وصمتاً وشللاً. يحمل الناجون ما لا يوصف في أجسادهم، في نظراتهم، في خوفهم. لمواجهة هذا، يتطلب الأمر أكثر من مجرد إيماءات. إنه يحتاج إلى ذاكرة نشطة. اعتراف سياسي. حماية اجتماعية. بدونها، يظل الألم خاصاً، وتنهار المجتمعات على نفسها.
ما هو السلام إذن؟
في كثير من الأحيان نختزله في المعاهدات والمناطق والمفاوضات. لكن السلام الحقيقي يبدأ قبل ذلك بكثير - عندما نلتقي ببعضنا البعض كبشر. عندما لا يقرر جواز السفر ولا الدين ولا اللهجة من ينتمي. عندما لا يكون الآخر تهديداً بل إمكانية علاقة. هذا السلام عالمي أو لا يكون على الإطلاق. في تركيا، تقاتل الأقليات من أجل اللغة والذاكرة. في سوريا، لاتزال المجتمعات التي مزقتها الحرب تنجح في التعايش في الحياة اليومية. في إفريقيا، لا تزال أشباح الاستعمار تطارد. في أميركا الجنوبية، يتم إسكات الثقافات الأصلية بالربح والسلطة.
وفي الغرب؟
تآكل بطيء للتعاطف. القومية ترتفع مثل الحمى. الشك يحل محل التضامن. الكلمات تقسم العالم إلى "نحن" و"هم". خطاب يخفي اللامبالاة على أنها قوة.
لكن الثمن باهظ. من ينغلق على نفسه يفقد الانفتاح. من يخشى الاختلاف يفقد الثراء. من يدفن التعاطف يفقد إنسانيته. يبدأ السلام في كل واحد منا؛ بقرار عدم العيش في خوف، بل في مسؤولية. ليس في العداء، بل في العلاقة. ليس في السخرية، بل في الأمل.
في مناطق الحرب، في العيادات، في المحادثات مع الناجين، رأيت ما لا يوصف. ومع ذلك أعود دائماً إلى نفس الدهشة: أولئك الذين يختارون الحياة رغم كل شيء. أولئك الذين ما زالوا يمدون يد العون للآخرين. أولئك الذين يحافظون على التعاطف حياً. أتذكر امرأة تعرض طفلها للتعذيب في الشمس على يد الجنود. سألتني: "لماذا يفعل الناس مثل هذه الأشياء؟" لم يكن لدي إجابة. فقط سؤال آخر في صمت: "لماذا يساعد الآخرون رغم كل شيء؟" كلاهما صحيح. البشر يدمرون والبشر يشفون. ينسون ويتذكرون.
كتب تولستوي ذات مرة: "من يختلق الألم فهو حي. من يشعر بألم الآخرين فهو إنسان". تلخص هذه الجملة حقيقة كاملة: المعاناة يمكن أن تعزلنا، لكن التعاطف يربطنا. أن تكون إنساناً ليس مجرد النجاة من جروح المرء، بل أن تفتح نفسك على جروح الآخرين.
الإنسانية ليست مثالية سامية. إنها مقاومة. مقاومة ضد اللامبالاة، ضد الصمت، ضد الخدر. إنه القرار الهادئ بالبقاء متجهاً نحو الآخر، حتى عندما يؤلم. الشفاء هو التذكر. التذكر هو البقاء إنساناً. والبقاء إنساناً هو مساعدة الآخرين على أن يكونوا كذلك أيضاً.
*يان إيلهان كيزلهان هو بروفيسور في علم النفس، ومؤلف وخبير في علم الصدمات النفسية، الإرهاب والحرب، والطب النفسي عبر الثقافات، والعلاج النفسي والهجرة، وهو حاصل على الوسام الوطني الفيدرالي في ألمانيا.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً