كوروواي.. قبيلة تعيش كما كانت الحياة قبل 11 ألف سنة

20-08-2023
روژ علي زاله
مراسل رووداو روز علي زاله وسط قبيلة كوروواي
مراسل رووداو روز علي زاله وسط قبيلة كوروواي
الكلمات الدالة قبيلة كوروواي
A+ A-
 
رووداو ديجيتال

تعيش قبيلة (كوروواي) في أعماق ثالثة كبرى الغابات المطيرة في العالم، غابة (بابوا) في إندونيسيا، وقد أثارت منذ عشرات السنين انتباه الإنثروبولوجيين والباحثين بأسلوب حياتها وتقاليدها الاجتماعية ومعتقداتها الدينية وتناول لحوم البشر، ولأن صعوبة الوصول إلى أعماق الغابات ومواطن الكوروواي حالت دون إجراء دراسات حول تقاليدهم وفهمهم للعالم، لكن بعض الدراسات التي تناولتهم ونشرت في الإعلام العالمي تشير إلى أنهم آخر القبائل التي تتناول لحوم البشر. شبكة رووداو الإعلامية كانت القناة الإعلامية الشرق أوسطية الوحيدة التي توجهت إلى تلك المنطقة وأنتجت فيلماً وثائقياً عن هذه القبيلة، نود هنا أن نعرض تفاصيل زيارتنا للقبيلة وبعض التفاصيل التي لم يتسن التطرق إليها في الوثائقي:
 
قبيلة كوروواي
 
كان الانثروبولوجي الأميركي بيتر فان آرسديل، أول من عثر على قبيل كوروواي سنة 1974، وقبل ذلك التاريخ لم يكن العالم يعرف أن قبيل تعيش داخل تلك الغابة، والأهم من هذا أن تلك القبيلة أيضاً لم تكن تعلم بوجود عالم آخر خارج الغابة، فعندما سألت رئيس القبيلة (بابا ماركوس) هل تعرف ما هي إندونيسيا؟ أجابني يقول: "رأيت بعض ذوي البشرة البيضاء، وعندما سألت لماذا هم كذلك؟ قالوا: هؤلاء إندونيسيون. منذ ذلك الوقت عرفت بوجود إندونيسيا"، وسألته: وماذا يوجد خارج إندونيسيا؟ اكتفى بابا ماركوس بهز كتفيه مشيراً إلى أنه "لا يعرف".
 
الكوروواي قبيلة لا تزال إلى الآن تتبع أبسط أساليب الحياة البشرية، وبالتحديد يعيشون كما كان يعيش البشر في مرحلة الصيد (انتهت حقبة الصيد قبل نحو 11 إلى 12 ألف سنة من الآن، ليبدأ عصر الزراعة) لكن الكوروواي لم يبلغوا بعد مرحلة الزراعة ويؤمنون احتياجاتهم من خلال الصيد وجمع الطعام من الغابة. الزراعة الوحيدة التي يمارسونها هي بستنة بسيطة يقومون فيها برعاية بعض أشجار الفاكهة والخضار التي تنمو في الغابة للاستفادة من ثمارها عند النضج. يمتنع الموروواي عن تناول لحوم الكلام فقط ويصطادون كل الحيوانات الأخرى في الغابة ويتناولون لحومها وخاصة الخنازير وطائر كاسوار (طائر يشبه النعام ولا يطير).
 
الكوروواي قبيلة شبه رحالة وتتألف من أسر صغيرة (من عدد صغير من الأفراد) تقوم بتنظيف بقعة من الغابة، ومن الأمور التي تميز الكوروواي بيوتهم التي يبنونها فوق الأشجار على ارتفاعات تبلغ 30 إلى 40 متراً. بناء البيوت على الأشجار، وإلى جانب دوافع نفسية والحاجة إليه في حياة الغابة، له دوافع دينية حيث يعتقد الكوروواي بوجود الجن والأرواح الشريرة في الغابة وأن وجودهم فوق الأشجار يحميهم من تلك الأرواح، وسأتحدث في ما سيأتي بتفصيل أكثر عن معتقداتهم الدينية.
 

 

 

الرطوبة التي تعم الغابة سبب آخر يدفعهم لبناء بيوتهم فوق الأشجار، فالجو في الغابة هو نفسه على مدار السنة ومستقر إلى حد ما وهناك أمطار مستمرة (خاصة في وقت مبكر من الصباح) ما يرفع نسبة الرطوبة داخل الغابة إلى نحو 80%، وبيوتهم التي فوق الأشجار تساعدهم إلى حد ما على الهروب من الحر والرطوبة في الغابة. من الأسباب الأخرى كثافة الذباب والبعوض في الغابة، فرغم استخدامنا ثلاثة أنواع من مضادات البعوض كان لا يزال علينا اللجوء إلى الخيم لنحمي أنفسنا من البعوض، في حين كانوا ينامون نوماً هنيئاً فوق الأشجار.

 
الحرب بين القبائل والخوف من الهجمات القبلية سبب آخر يدفع الكوروواي لبناء منازلهم في أعالي الأشجار. تبدو بيوتهم وكأنها أبراج تطل على الغابة، وفي حالة وقوع هجوم من قبائل أخرى، يدركون بصورة أفضل وأسرع وقوع هجوم ما يمنحهم القدرة على الاختباء بشكل أسرع وأفضل. أخبرني بابا ماركوس أنه عندما كان طفلاً كانت هناك معارك مستمرة بين القبائل، لكنها قلت في السنوات الأخيرة.
 
مقاطعة بابوا
 
تقع مقاطعة بابوا في جزيرة بابوا. جزء من الجزيرة دولة مستقلة تسمى (بابوا نو غيني) وتسيطر إندونيسيا على الجزء الآخر منها. يُعرف الجزء الذي تسيطر عليه إندونيسيا باسم بابوا الغربية. تعيش هناك 312 قبيلة. بعد اكتشاف موارد عديدة ثمينة في المنطقة، انتقل عدد كبير من الناس من أجزاء أخرى من إندونيسيا إلى المنطقة. خاصة الذين يعملون في صناعة الأخشاب، أو الذين يستثمرون في صناعة المطاط. في السنوات الأخيرة، انتقل عدد كبير من الناس إلى المنطقة للعثور على الذهب على ضفاف أنهار المنطقة. قبائل المنطقة تختلف من حيث لغتها ولونها وثقافتها وعاداتها وحتى دينها. أغلب السكان الأصليين في المنطقة لديهم دينهم الخاص، لكن الكثير منهم مسيحيون، خاصة بعد عقود من الجهود التي بذلتها المنظمات المسيحية، التي لديها حوالي خمس طوائف مسيحية منظمة في المنطقة تحاول كسب سكان المنطقة لصالح طوائفها.
 
تقاتل بابوا الغربية من أجل الاستقلال منذ عقود وهي عضو في منظمة الأمم التي لا دول، وإقليم كوردستان عضو فيها. المقاطعة لديها علمها الخاص، لكن رفعه محظور في المقاطعة وفي جميع أنحاء إندونيسيا. يشبه لون وشكل العلم إلى حد كبير العلم الكوبي، لذلك ترى أهالي المقاطعة يرسمون أحياناً العلم الكوبي على قمصانهم وقبعاتهم كوسيلة قانونية للتعبير عن رغبتهم في استقلال مقاطعتهم.
 
الوصول إلى موطن الكوروواي
 
يعيش الكورواي في منطقة بابوا الإندونيسية، وهي منطقة نائية في إندونيسيا ولا توجد طرق مواصلات في جزء كبير من الغابة. بعد استخدام سبعة مطارات وعدة طائرات صغيرة، عليك الوصول إلى مطار صغير في الغابة (مطار ديكاي)، ومن هناك تختفي طرق السيارات، وعليك السفر عبر أنهار الغابة باستخدام القوارب. بعد يوم في القارب وصلنا إلى أعماق الغابة حيث تم بناء قرية لبعض عائلات القبيلة التي تركت حياة الغابة.
 

 

 

أنشأت الحكومة الإندونيسية القرية في العام 1992 لمساعدة أفراد القبائل على مغادرة الغابة والاستقرار في قرية على ضفة النهر، وتبرر الحكومة هذا بأن الحياة في الغابة صعبة تنعدم فيها الخدمات، لكن في الحقيقة، هناك أسباب أخرى تقف وراء مساعي الحكومة، منها محاولة تقليص عدد قواعد جماعة مسلحة تسعى إلى تحقيق الاستقلال للمنطقة.
 
ينتشر عدد كبير من قوات الجيش والقوات الجوية بالقرب من الغابة. لدى وصولنا إلى المطار، كنا الأجانب الوحيدين على متن الطائرة الصغيرة. عندما ترجلنا من الطائرة، كان ثم ضابط ينتظرنا عند بابها. قدم نفسه على أنه ضابط في القوة الجوية الإندونيسية وطلب منا توضيح سبب زيارتنا للمنطقة. كنا قد حصلنا مسبقاً على موافقة الشرطة من العاصمة الإقليمية للذهاب إلى تلك المنطقة من الغابة. بعد إبراز أوراقنا ووثائقنا، طلب منا ضابط القوة الجوية الذهاب إلى مركز شرطة المنطقة التي يوجد فيها المطار.
 
على الرغم من أننا اتبعنا جميع الإجراءات القانونية ولدينا رخصة، إلا أن الشرطة في المركز لم تكن تريد السماح لنا بدخول الغابة. كانوا يدعون أن هناك جماعة مسلحة نشطة في ذلك الجزء من المنطقة ولا يريدون السماح لنا بدخولها حفاظاً على سلامتنا. تنشط مجموعة (منظمة الحرية لبابوا) في المنطقة وضمن حديثي فيما سيأتي عن السلامة في الغابة سأورد المزيد من التفاصيل عنها.
 
بعد موافقة الشرطة، كان علينا شراء جميع المواد الغذائية والإمدادات لبضعة أيام في الغابة من سوق بالقرب من المطار، والعثور على قارب لنقلنا عبر نهر برازا لنقلنا إلى موطن الكورواي، والعثور على بعض العتالين لحمل ما معنا من مؤن وتجهيزات أثناء السير في الغابة.
 
بابا وانما، يمتلك قارباً مصنوعاً من الألياف الزجاجية (فايبر كلاس) ذا محرك صغير. على الرغم من أنه لم يكن متأكداً من قدرته على إيصالنا بأمان إلى الغابة، لكنه أخبرنا بأنه سيراقب مستوى النهر ليلاً وسيعلمنا إن كان بإمكانه إيصالنا أم لا. كان مستوى النهر منخفضاً عندما كنا هناك. فإلى جانب التماسيح كان النهر بعج بالأشجار. يشكل بعض الأشجار خطراً حقيقياً على القوارب وعلى ركابها. لأن النهر موحل للغاية، والأشجار غير مرئية وعند اصطدام القوارب بها تشكل تهديداً لسلامة القارب والركاب. وضع بابا وانما حفيده ريسال في مقدمة القارب ليحذره إذا رأى شجرة. عندما كنا هناك، كانت هناك ضوضاء مفاجئة في الليل. اصطدم أحد القوارب بشجرة ذات طرف حاد في النهر اخترقت القارب وكسرت ساق قائدها من عدة أماكن. تم نقل قائد القارب إلى عيادة صغيرة بالقرب من المطار وتم نقله بطائرة في الصباح إلى العاصمة الإقليمية لتلقي العلاج.
 
بعد يوم من ركوب القوارب في النهر، وصلنا إلى جزء من الغابة كان علينا السير فيه ليوم آخر. العتالون الذين جاءوا معنا، كانوا يحملون سكاكين كبيرة، ويتقدموننا لتنظيف الطريق من الأشجار. وعندما كنا نصل إلى الأنهار والوديان، كانوا يبنون جسوراً موقتة، وهكذا وصلنا إلى الكوروواي.
 
حياة الكوروواي وثقافتهم
 
فهم الحياة والموت والجمال والفن والزواج والقبيلة والعالم بشكل عام عند الكوروواي مختلف تماماً عن مفاهيم العالم الحديث. إنهم يعيشون حياة طبيعية أكثر. يصنعون جميع أدواتهم من أشجار الغابة ويكنون احتراماً كبيراً للطبيعة.
 
عندما كنا هناك، كانوا يلتقطون ويحرقون أي قطعة من النايلون أو البلاستيك المهمل يرونه. ليست لديهم نفايات بلاستيكية بأنفسهم. يصنعون الملابس (بقدر ما يرتدون) من الأوراق وجذوع الأشجار. يلف الرجال ورقة صغيرة يغطون بها جزءاً من أعضائهم التناسلية ويصنعون مئزراً من جذوع الأشجار. المئزر يستخدم كجيب أكثر منه لتغطية الجسد. أحياناً يحملون سكاكينهم وفؤوسهم في مآزرهم، خاصةً عندما يصعدون سلالم منازلهم ويحتاجون إلى اليدين كلتيهما لتسلق الأشجار. تصنع النساء شالاً من جذوع وأوراق الشجر لتغطية الجزء السفلي من أجسادهن، لكنهن لا يغطين الجزء العلوي على الإطلاق.
 
تتشكل الملابس من البيئة التي يعيش فيها الإنسان. في بداية ظهورها، كان اتقاء البرد والحرارة والطقس أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت البشر إلى تغطية أنفسهم.
 

 

تتمتع منطقة كوروواي بمناخ مستقر، رطب وحار نوعاً ما على الدوام. لذلك لم تجبرهم الاحتياجات البيئية على ابتكار الملابس، بل على العكس، فإن غياب الملابس يساعدهم على التكيف بشكل أفضل مع جو الغابة.
 
ومع أن أفراد القبيلة شبه عراة، فإن العري ليست له دلالة جنسية عندهم. فالرجال يلفتون انتباه المرأة من خلال قوة العضلات وقوة الشخصية، وتجتذب النساء الانتباه من خلال الوشوم، خاصة على وجوههن.
 

 

تعدد الزوجات جزء من ثقافة الكروواي، يمكن للرجل أن يتزوج عدة نساء، لكن المرأة لها زوج واحد فقط. على الرغم من أن تعدد الزوجات مسموح به بين الكوروواي، إلا أن أفراد القبيلة قالوا إن العديد من رجال كوروواي لديهم زوجة واحدة فقط، ويرجع ذلك أساساً إلى غلاء المهر.
 
لكي يحصل الرجل على زوجة، عليه أن يعطي ثلاثة إلى خمسة خنازير كمهر لأهل المرأة، وهذا ثمن باهظ للكروواي. قدم بابا ماركوس ثلاثة خنازير وقلادة مصنوعة من أنياب 20 كلباً مهراً لزوجته. يتزوج الرجال وهم في أوائل العشرينات من العمر، لكن النساء يتزوجن بمجرد اقترابهن من سن المراهقة ومع أول دورة شهرية لهن. في حالة وفاة زوج المرأة يتزوجها شقيقه ويرعى أولادها. الأرض والنساء ملك للرجال، وفي كثير من الأحيان، كان القتال بين قبائل القبيلة (خاصة في الماضي) من أجل الأرض (موارد الغابة) والنساء.
 
كانت زوجة بابا ماركوس تلبس القلادة بفخر، فامتلاك مثل هذه القلادة الغالية دليل على السيادة والمكانة الرفيعة لمن تتقلدها. عندما سألت زوجة بابا ماركوس، نوب، عما إذا كانت قلادة بابا ماركوس جعلتها سعيدة عندما تزوجته، كانت الإجابة غير متوقعة: "لقد تزوجته لأني أحببته، وليس لأجل القلادة. ورغم أن منطقة الكوروواي غنية بالذهب الطبيعي، وتأتي الشركات والأشخاص من أجزاء أخرى من إندونيسيا إلى المنطقة للعثور على الذهب، فإن أنياب الكلاب أكثر قيمة من الذهب في ثقافة الكوروواي.
 
بابا ماركوس هو زعيم ذلك الجزء من القبيلة. يسيطر على مساحة كبيرة من الغابة، ويجب أن يحصل أي شخص يمر أو يرغب في استخدام هذا الجزء من الغابة على موافقته. وإلا فإنه ذلك سيعد هجوماً على قبيلته.
 
الأخ الأكبر للقبيلة ينادى باسم "كاكا"
 
رئاسة القبلية عند الكروواي لا تنظمها قواعد وقوانين محددة. بل يصبح الرجل ذو القوة والعامل والقائم على رعاية القبيلة رئيساً للقبيلة. يانوب هو الأخ الأكبر لبابا ماركوس، لكن بابا ماركوس هو زعيم القبيلة. وينادي بابا ماركوس أخاه يانوب بكلمة "كاكا". في لغة كوروواي، يُدعى الأخ الأكبر كاكا.
 
لغة الكروواي فقيرة نسبياً ولم تتطور. الكلمات معلومة وتكرر كثيراً والأرقام ليست بلغتهم، أو عندهم القليل جداً من الأرقام. بقدر ما تحتاجه الحياة في الغابة. ربما هذا هو سبب كون الكروواي لا يعرفون كم يبلغون من العمر. هناك، عندما كنا نسأل عن شيء يحتاج إلى عدّ، على سبيل المثال، العمر، لم يكونوا يفهمون السؤال.
 
تنتمي لغة الكورواي إلى عائلة لغات جنوب شرق بابوا، أو إلى عائلة لغة آويو-دوموت. أنشأ مبشر هولندي قاموساً وقواعد للغة الكروواي، لكن اللغة لا يتحدث بها سوى القبيلة، التي تراجع عدد أفرادها الآن إلى حوالي 3000 فرد، وهي من اللغات المهددة بالفناء فالبيانات تشير إلى أن عدد المتحدثين بها في العالم يتراوح بين 2007 و3500 شخصاً من بينهم أفراد القبيلة وغيرهم ممن تعلموا اللغة.
 
العقيدة الدينية للكوروواي
 
تحفل النظرة الدينية للكروواي بالإيمان بالأشباح والجن والأرواح الشريرة أو ما يسمونه "خاخوا". يؤمن الكروواي بوجود إله واحد خلق العالم واسمه "كيمكي". وفقاً للكروواي، فإن كل مخلوق آخر يأتي إما من كيمكي أو يرضخ له، ولكن ما ينظم الحياة الاجتماعية والدينية للكروواي هو اعتقادهم بالتناسخ. إنهم يعتقدون أنه عندما يموت الناس، يذهبون جميعاً إلى مكان واحد ثم يعودون إلى الغابة. قد يطلب الأقارب من المتوفى العودة إلى الغابة كروح، أو أن يولد من جديد كطفل جديد في القبيلة. لأن الكروواي يعتقدون أن احترام أسلافهم وثقافتهم أمر مهم للغاية. يريد الأسلاف أن يكون أفراد القبيلة أشخاصاً صالحين وألا ينحرفوا عن ثقافتهم. إذا انحرفوا عن ثقافتهم، كأن يرتدوا ملابس حديثة مثلاً، أو يستخدموا أدوات حديثة، فسيغضب أسلافهم وقد يرسلون روحاً شريرة إلى الغابة لتعذيب المنحرف. هذا الاعتقاد الديني هو الذي دفع الكوروواي إلى بناء منازلهم على الأشجار على ارتفاع عشرات الأمتار، لأنهم يعتقدون أن الأرواح الشريرة تبقى في الجزء السفلي من الغابة. ورغم أن بناء المنازل على هذا الارتفاع هو لأسباب أخرى واحتياجات أخرى، إلا أنهم جعلوه جزءاً من ثقافة القبيلة بمعتقداتهم الدينية.
 

بسبب هذا الاعتقاد الديني، كان كاكا يخشى شرب القهوة، وكان بابا ماركوس قلقاً للغاية من اندثار ثقافتهم. كاكا يعتقد أنه إذا شرب القهوة، فسوف يرى أسلافهم أنه ابتعد عن ثقافة الكوروواي، وبالتالي قد يرسلون إليه الخاخوا. ولو عادت روح شريرة إلى الغابة، فقد تسكن في جسد أحد أعضاء القبيلة، ولإعادة الروح العدوانية إلى أسلافهم، يجب قتل الشخص ذاك وأكل لحمه.
 
أكل لحم البشر
 
وفقاً لبعض الدراسات والتقارير الإعلامية، كان الكروواي آخر القبائل الآكلة للحم البشر، ولا يزال اللحم البشري يعامل بهذه الطريقة في أعماق الغابة، ومع وجود علامات استفهام حول صحة هذه القضية، فقد نقل العديد من وسائل الإعلام والصحفيين الغربيين في العقد الأول من القرن الحالي قصة الكروواي الذين يأكلون اللحم البشري إلى القراء والمشاهدين في العالم. يعتقد الكروواي أنه عندما يخطف خاخوا جسد شخص ما، فإن الشخص لن يبقى نفس الشخص بل يبقى جسده فقط في الغابة. لذلك لا يرون في قتل هذا الشخص قتلاً للإنسان، بل قتلاً وإتلافاً لخاخوا. ويرون أن أكل لحم الميت هو وسيلة لإعادة الخاخوا إلى حيث تم إرساله. أما طريقة تحديد من هو خاخوا فغير واضحة. إحدى الطرق هي قول شخص يحتضر إنه رأى خاخوا وعرف شخصاً ما على أنه خاخوا. ستصدق القبيلة أن ذلك الشخص خاخوا فيقضى عليه. من الأسباب الأخرى لقتل الناس وأكلهم هو الاشتباه بكونه ساحراً، وإذا رأت القبيلة أن شخصاً ما ساحر، فإنهم يقتلونه ويأكلونه.
 

جهود الحكومة الإندونيسية في السنوات الأخيرة، لاعتقال أو التهديد باعتقال الذين يقتلون ويأكلون إنساناً آخر ساهمت في تغيير آراء القبيلة قليلاً. عندما سألت الزعيم وأعضاء القبيلة الآخرين عن مسألة التحول إلى خاخوا وأكل البشر. قال بابا ماركوس إنه لم ير أي شخص يؤكل في حياته، وطلب مني أفراد القبيلة الآخرون، مع خوفهم الشديد عندما ذكرت خاخوا، تغيير الموضوع، قائلين إن هذا غير صحيح.
 
شجرة ساغو الشائعة في الغابة، لها قدسية خاصة في معتقدهم الديني. لب الشجرة يحوي مادة بيضاء غنية بالكربوهيدرات وأحياناً عندما تتعفن الشجرة وتتقدم في العمر، تظهر فيها يرقات ديدان بيضاء غليظة. يستخدم الكوروواي لب الشجرة كدقيق والديدان كمصدر للبروتين في الغذاء. على كل فرد من الكوروواي المشاركة في عيد شجرة ساغو. يحتفل الكوروواي بعيد شجرة ساغو، أو مهرجان ساغو، سنوياً للتعبير عن امتنانهم واحتفالهم بثمار وخيرات الغابة، وحتى في أوقات الشدة أو الصلاة يحيون هذا العيد ليتجاوزوا محنتهم وآلامهم وأحياناً يضحون بالخنازير، وتنقل الثقافة والمعتقدات الدينية هذه للأجيال التالية من خلال الأغاني والقصص والأساطير الشعبية.
 
مخاطر زيارة الكوروواي
 
من مخاطر زيارة هذه القبائل التي لم تلتق البشر المعاصرين، الخطر الذي يمكن تعريضها له. فأجسامهم لن تتعامل مع البكتيريا خارج الغابة والبكتيريا التي تكيفت لأجيال من المضادات الحيوية، وقد يكون تعرضهم لها مميتاً لهم.
 
نحن، كفريق رووداو، اتخذنا عدة إجراءات لتقليل هذه المخاطر على أفراد القبيلة. حاولنا الابتعاد عن أفراد القبيلة قدر الإمكان، وكنا نغسل كل الأشياء التي استخدمناها، ولم نخلط طعامنا ومقتنياتنا مع مقتنياتهم، وأبقينا أماكن نومنا بعيدة عنهم.
 
من الطرق الأخرى لحمايتهم من البكتيريا الحديثة أننا ذهبنا للغابة بفريق صغير من ثلاثة أجانب فقط. أنا ومصور ومرشد إندونيسي، لكنه لم يكن من الكوروواي. كل العتالين والطهاة وغيرهم ممن كانوا معنا كانوا من الكوروواي. استقروا في قرية مجاورة للغابة وأصررنا على أن يكونوا معنا كعتالين وطهاة، بدلاً عن نأتي بغرباء عن القبيلة.
 
بالمقابل، كانت هناك تهديدات لفريقنا، وهي أكبر.
 
فمن أكبر التهديدات عند زيارة منطقة الكوروواي، جماعة أورغانسيسي بابوا مارديكا المسلحة. عندما كنا نزور الغابة، أخذ أعضاء المنظمة طياراً نيوزيلندياً كرهينة ويطالبون بالاعتراف باستقلال بابوا الغربية في مقابل إطلاق سراحه. المجموعة أشعلت النار في الطائرة، ولم يتأكد بقاء الطيار على قيد الحياة، إلا من خلال بضع صور. وإذا رأوا أجانب آخرين، فمن المحتمل أيضاً أن يتم اختطافهم وأخذهم كرهائن، وقد أخبرتنا الشرطة المحلية أنها لم تسمح لأحد يدخول الغابة سوانا في العام 2023.
 
كانت هناك مخاطر أكبر، بالإضافة إلى التعب وعدم توفر مياه الشرب النظيفة وقلة الطعام، وكلها تضعف جهاز المناعة في الجسم وتزيد من خطر الإصابة بالأمراض، كما أن البعوض في الغابة يسبب أحياناً الملاريا وأمراضاً أخرى خاصة بالمنطقة، وكانت أجهزتنا المناعية ضعيفة وغير معتادة على بكتيريا وأمراض المنطقة وفي حالة المرض، كان يستغرق منا عدة أيام للوصول إلى أقرب عيادة، والتي كانت صغيرة جداً. لذلك، كان علينا أن نحرص باستمرار على تلافي التعب ونشرب الماء ونتناول الفيتامينات أثناء وجودنا هناك.
 
الأكثر خطورة كان نظرة القبيلة إلينا. لم نكن متأكدين من نظرتهم إلينا أو ما الذي سيثير غضبهم. ومع أننا حاولنا تعلم بعض عاداتهم وبعض الكلمات من لغتهم ونحن في الطريق، إلا أن القبائل لا تزال لديها عاداتها وثقافتها الخاصة التي قد لا يألفها الأجانب بسهولة. على سبيل المثال، في الثقافة الكوردية، قد يزعج الشخص من حوله بطريقة جلوسه ووضع قدميه. وبالمثل، ربما كان الشيء الطبيعي جداً في ثقافتنا يرى عندهم على أنه أنه عدم احترام لهم. كنا نتحدث إلى أفراد القبيلة من خلال مترجم من الإنكليزية إلى الإندونيسية (والذي كان أيضاً مرشدنا) بالإضافة إلى مترجم من لغة الكوروواي إلى الإندونيسية. ومع كل سوء فهم، كان يستغرق وقتاً طويلاً ليعود الوضع إلى طبيعته.
 

 

 

كان هناك خطر آخر يتمثل في فهمهم للسحر. كنا هناك مع معدات وكاميرات وأجهزة آيفون وغيرها من ضروريات التصوير الجديدة. لم نكن متأكدين مما إذا كان أحد أفراد القبيلة لديه تفسير مختلف للمعدات ويطن بأننا سحرة. في الليل وخلال محادثة، كنت أتحدث معهم عن خاخوا، فأشار إلي المترجم الإندونيسي مازحاً وقال ربما تكون أنت خاخوا. نظر إلي بابا ماركوس وحدث صخب. صرخ بابا وخافت النساء وعمّ صمت قليل. ضحكت وأكدت لهم بصوت عالٍ أنني لست خاخوا وغيرت الموضوع إلى الحديث عن الزواج والاحتفال والمرح، وهكذا مر ذلك الجزء من المحادثة.
 
الكوروواي، ورغم أنهم يعيشون في مرحلة الصيد وليسوا على دراية بالزراعة والتكنولوجيا والحياة الحديثة، إلا أنهم مضيافون للغاية وكان بابا ماركوس وجميع أفراد القبيلة الآخرين سعداء للغاية بزيارتنا لهم. لقد كانوا حريصين جداً على إطلاعنا على أسلوب حياتهم وثقافتهم وطريقة نصب الفخاخ وصيد وجمع ديدان ساغو.
 
الأمر لفت نظري ونال احترامي أكثر من غيره، هو معاملتهم لبيئتهم وغابتهم. فمع أنه لا يبدو أنهم مطلعون على تدهور بيئة الأرض، ومشاكل البلاستيك ودخان المصانع، إلا أنهم كانوا حريصين جداً في تعاملهم مع البيئة. يستخدمون فقط ما يحتاجون إليه ويبذلون قصارى جهدهم لحماية بيئتهم وعدم رمي القمامة وتلويثها. يلتقطون كل قطعة صغيرة من النايلون أينما رأوها ويحرقونها، دون أن يسألوا لمن هي النايلون ولماذا كانت هناك. عندما صنعوا سلة من أوراق الشجر لصيد السمك، أعادوا استخدام نفس السلة عدة مرات لتجنب الاضطرار إلى قطع أوراق أخرى. رسخوا قدسية شجرة ساغو والغابة في معتقداتهم الدينية حتى تحترم القبيلة بأكملها وأجيالهم القادمة الغابة.
 
أسلوب حياة الكوروواي هو بمثابة نافذة لرؤية ودراسة حياة الإنسان منذ آلاف السنين، لكن مع التصنيع والهجرة من أجزاء أخرى من إندونيسيا وتناقصهم عددياً، يشعر علماء الأنثروبولوجيا ومراقبو القبائل بالقلق من أن تتلاشى تماماً أو تختفي ثقافتهم وأسلوب حياتهم خلال العقود القليلة المقبلة.
 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب