المكونات في مناطق شمال حلب عقود من التعايش المشترك والاحترام المتبادل

19-09-2016
علي مسلم
A+ A-

 

 
-    يقصد بمناطق شمال حلب  في هذه الدراسة كل من المناطق الادارية  التالية  ( عفرين – اعزاز – الباب – منبج –جرابلس– عين العرب "كوباني " – واطراف من منطقة جبل سمعان ومنطقة السفيرة )

    يقصد بالمكونات ( الكرد – العرب – التركمان – الشركس )

محافظة حلب أكبر محافظات سوريا من حيث عدد السكان البالغ (5,680,000) نسمة ويشكلون ما نسبته 24% من إجمالي تعداد سكان سوريا، مدينة حلب أكبر تجمّع سكانيّ في المحافظة وفي سورية ويقدر ب(2,132,100) نسمة، تليها مدن: منبج بتعداد قدره (99,497) نسمة والسفيرة بتعداد قدره (63,708) نسمة والباب بتعداد قدره (63,069) نسمة وعفرين بتعداد قدره (50,000 )وعينالعرب (كوباني )بتعدادقدره (44,821) نسمة، ويبلغ تعداد التجمّعات السكانيّة في محافظة حلب العام 2004 أكثرمن 1,400 تجمّع سكنيّ ما بين مدينة وبلدة وبلديّة وحي وقرية ومزرعة.


مدخل :

بالرغم من الظروف الاستثنائية التي مرت بها مناطق شمالحلبعبر التاريخ على مدى مئات السنين سيما المرحلة العثمانية المقيتة التي دامت اربعة قرون ومرحلة البعث الشوفيني البائد والتي يمكن وصفها بالظروف القاهرة حيث تم فيها على الدوام استبعاد مكوناتها من المساهمة في ادارة شؤونها حتى ضمن الكيانات التي تم احداثها دون ارادتهم قسرا بالرغم من ذلك بقيت المكونات محافظة على الطبيعة المتآخية للعلاقات فيما بينها والتي كانت قائمة على اساس الانتماء المتساوي للأرض والوطن بالرغم من التباين الاثني والعرقي القائم  .

وقد حاولت الانظمة المتعاقبة إحداث تغييرات بنيوية  في طبيعة التركيبة الديموغرافية السائدة  عن طريق التهجير القسري تارة وتغيير الاسماء والمسميات المحلية تارة أخرى الا أن اصرار المكونات  في الحفاظ على خصوصياتها  ذاتياً ظفرت في نهاية المطاف  وما زال التعايش المشترك سمة تتميز بها هذه المناطق ، وقد استطاعوا سوياً بناء علاقات اجتماعية متوازنة  اضفت المزيد من الاستقرار على تفاصيل حياتهم وباتوا يتلمسون المخاطر قبل وقوعها الى جانب بناء شراكات اقتصادية  هائلة في قطاعالزارعة والصناعات المتعلقة بها  ولا اعتقد أن مسار الاحداث مهما استدارت سوف تكون قادرة على التأثير في مستقبل  الشراكة المجتمعية  القائمة وستدوم هذه الشركة ما داموا قادرين على صناعة المستقبل معاً   .


مناطق شمال حلب والتركيبة الديموغرافية  القائمة : 

حين يحاول المرء المرور بتلك المناطق ولمسافة قصيرة سوف يلاحظ دون أدنى صعوبة وجود قرى وتجمعات كردية الى جوار تجمعات  سكانية عربية واخرى تركمانيةخصوصاًفيالجانبالمتاخملحدودالدولةالتركيةولعمققديتجاوزال 50 كماحياناً الى جانب وجود تجمعات كبيرة  مشتركة كما هو حاصل في مراكز المدن مثل مدينة الباب واعزاز ومنبج وجرابلسوبغض النظر عن الاسباب التاريخية  التي أحدثت هذا التداخل لكنها شكلت مع الزمن واقعاً ملموساً تقبلها الجميع  ومهدت للتعاطي معها في اطار ادارة تلك المناطق والسعي في إعادة بناء دولة سورية المنشودة ، ولا أعتقد أن من يخالف ذلك يكون على صواب فقد تم صياغة التاريخ دون ارادتنا جميعاً  واستوعبت الجغرافية  احلامنا معاً لذلك من الصواب ان نسعى جميعاً الى إعادة صياغة الواقع على انقاض ما سلف ونلملم جراحنا بحيث يشعر الجميع على أنهم ورثة لهذه الحالة على نفس القدر وعلينا الاستمرار سوياً على السراء والضراء .

باستثناء منطقة عفرين بنواحيها عموماً ومركز مدينة كوباني حتى حدود مدينة تل ابيض وناحية الجلبية التي يقطنها غالبية  كردية مطلقة تعتبر المناطق الاخرى بريفها الواسع مناطق متداخلة قومياً ويقطنها الكرد والعرب والتركمان  بنسب متفاوتة  واعداد قليلة من الشركس في بعض المواقع كمركز مدينة منبج وناحية الخناصر في ريف منطقة السفيرة واطراف مدينة حلب ومن الطبيعي جداً أن يكون هناك حالات من الاندماج قد حصلت وتجاوزت بعض التجمعات الكردية لغتها الاساسية كما حصل في مجموعة القرى الكردية بجوار موقع سد الشهباء شمال حلب 20 كم  التابعة لناحية مارع في منطقة اعزاز  على سبيل المثال لا الحصر الا ان هذا الامر لم تسقط عنهم شعورهم بالانتماء الى القومية الكردية .

على العموم وبغض النظر عن نسبة كل مكون في كل موقع سوف تبقى السمة المميزة  لتاريخ تلك المناطق هي التوافق والانسجام وسيجري التمهيد مستقبلاً  في استمرار التعايش على نفس الوتيرة مع تمتع الجميع بحقوقهم وفق دستور جديد يتم اعداده في اطار سوريا موحدة  .


الاسباب التاريخية لاستهداف الكرد في هذه المناطق من قبل العثمانيين :

لم يرق الوضع الذي كان قائماًحينها للسلطات العثمانية في ولاية كلس وأطرافها  حيث  كانت تضم غالبية كردية طاغية سيما وان الكرد في تلك المناطق حاولوامبكراً التملصمن الفرائض العثمانية من جهة التلكؤ في دفع الضرائب البالغة والتهرب من المساهمة البشرية ( كانت السلطات العثمانية تفرض على ولاية كلس في كل حرب تخوضها مشاركة قوة بشرية قوامها   الف رجل  ) في حروب السلطنة ومحاولة الاهتداء بالإمارات الكردية شبه المستقلة التي كانت قائمة في كردستان والقيام بالتعرض للقوافل التجارية التي كانت تسير عبر الفرع الجنوبي لطريق الحرير نحو انطاكية وعرقلة قوافل الحج العثمانية التي كانت تمر من تلك المناطق بغية تأمين دخل لها  الى جانب تنامي روح الرفض لديهم وقيامهم بالعديد من الثورات والانتفاضات  ضد السلطنة  وقد شكل ذلك بمثابة الحجة للسلطنة العثمانية للتخلص من النفوذ الكردي المتنامي وقاموا بأعمال عسكريةكبيرة ضدهم في حلب عام 1607 والرقة عام 1790 وكذلك في بيراجيك عام 1834 اثر العصيان المشهور ونتج عن ذلك تهجير الكرد الى الجهات الاربعة وجلب قبائل عربية واسكانهم بدلاً عنهم .


البعث مارس سياسة الذئب والحمل :

بعد استحواذ البعث على السلطة عبر الانقلاب العسكري عام 1963 وبغية تحقيق اقصى درجات الولاء حاول اللعب على وتر التباين القومي سيما في مناطق الشمال السوري وحاول استمالة البعض منهم دون الاخرين لتحقيق مكاسب  سياسية من جهة ومن جهة أخرى ضرببعضهم ببعض واتخذ في هذا السياق ابناء القومية العربية  كحاضنة لمشروعه الشوفيني عن طريق تقديم الدعم المادي واللوجستي لهم ليتحولوا مع الزمن الى ذئاب تفتك في قطيع الحملان من ابناء القوميات الاخرى وتلازم ذلك مع اتاحة المجال امامهم في تبوء الوظائف والمناصب في مؤسسات الدولة وابعاد الاخرين بحجة انهم يشكلون خطراً على امن الدولة وبذات الوسيلة استطاعلاحقاً ان يستقطب المتعلمين من ابناء القوميات الاخرى بعد دعوتهم علناً الى اسقاط الخصوصية القومية عنهم وبالتالي سلخهم عن واقعهم ومن الجدير بالذكر ان هذه السياسة الاستماليةقد تسللت الى نفوس الضعفاء منهم الى حد بعيد  لكن ذلك لم يتحول الى حالة من شأنها التأثير على السياق العام للتعايش المشترك والوجود المتنوع  باستثناء حدوث بعض الحالات  كما حصل في قرية ترحين عام 1999 حيث انحاز البعث بأجهزته الامنية المتعددة الى جانب الطاغية امين يكن سليل الاقطاع العثماني وقاموا بهدم قرية ترحين والمزارع المحيطة  بالكامل ورافقها استملاك كامل لممتلكات سكانها الكرد  وتحولت اراضيهم الزراعية  الى غابات حراجية وتم تهجير سكانها بالكامل .



الحياة السياسية في مناطق شمال حلب 


1-    المناطق المختلطة 

لم تشهد مناطق شمال حلب بما في ذلك مركز مدينة حلب والمدن الاخرى أي تبلور أو ظهور فاعل لأية حركة سياسية أو حزب سياسي  خصوصاً بعيد احداث عام1980 الدامية حيث استغلت السلطات السورية تلك الاحداث وقامت بقمع كل التحركات السياسية ابان قيام حركة الاخوان المسلمين بتمردها على الواقع السياسي السائد في سوريا  والتي بدأت احداثها كما هو معروف من مدينة حلب وامتدت فيما بعد الى المحافظات الاخرى .

ومن الجدير القول إن الحضور السياسي المعارض كان متواضعاً واقتصر على بعض المجموعات  اليسارية الشيوعية التي كانت تعمل هنا وهناك وكانت هذه المجموعات تعمل في غالبيتها عبر صفوف ما سميت  بالجبهة الوطنية التقدمية الى جانب مجموعات  عروبية ناصرية آمنت بالوحدة العربية  وعملت خارج اطار حزب البعث  نظرياً ولم تستطع لعب أي دور فاعل وبقيت مهمشة رسمياً وبالتالي فقدت أي قدرة على قيادة الحراك .

أما حركة الاخوان المسلمين والتي كانت تمتلك رصيداً جماهيرياً واسعاً ليس في مراكز المدن فحسب بل امتد نفوذهم الى أقاصي الارياف لكنها هي الاخرى بدورها لم تستطع التأثير على مجرى الاحداث بسبب القمع الشديد التي تعرضت لهاالحركة خلال مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي  وتأثير مفاعيل القانون 49 الجائر عليها ( اعدام كل من يثبت انتمائه لحركة الاخوان المسلمين )وبقيت الحركة متوارية عن العلن وعملت بالخفاء دون جسم تنظيمي واضح  وكانت على الدوام تشكل مصدراً لقلق السلطات السورية الى ان سنحت لها فرصة الظهور العلني  بعد أحداث الثورة في 15 آذار 2011 واستطاعت استغلال تلك الظروف والاستفادة من الاجواء التي أتيحت لها من جانب الدولة التركية كون أغلب قادتها كانوا يقيمون ضمن الاراضي التركية منذ نهاية أحداث عام 1980 لكن حركة الاخوان المسلمين فشلت في قيادة الحراك الثوري المتنامي كونها أرادت بالتعاون مع بعض الدوائر من خارج الحدود تطبيع الحراك الثوري بطابع اسلاموي سياسي والجري وراء الاستحواذ على السلطة بالاستناد على موروث طائفي واضح مما حدا بالاغلبية الثورية من الفئات الشبابية والنخب السورية الابتعاد عن هكذا أجواء وترك الساحة السورية عرضة لقو راديكالية خارجية للعبث بمقدرات الوطن السوري أمثال داعش وغيرهم الى جانب فشل النخب الوطنية السورية بطرح مشروعهم الوطني إبان أعوام 2011 – 2013 وهذا ما شكل نكسة في المشروع الوطني السوري الذي خرج من أجله مختلف السوريين في ثورة الكرامة والحرية .


2-    المناطق ذات الغالبية الكردية :

باستثناء المناطق الاخرى كانت المناطق الكردية في غالبيتها موالية لأحزاب قومية كردية بالرغم من ظروف القهر التي مرت بها تلك المناطق وبقيت هذه المناطق بعيدة عن تأثيرات سلطة البعث الشوفينيعلى مر سنين حكمه وكان ولاء أبناء تلك المناطق موزعاً بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديموقراطي الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني الذي انحاز بشكل صريح وواضح الى الجهة المناوئة للثورة عبر يافطات غوغائية واعتبر نفسه  يمثل تياراً ثالثاً الى جانب التيار الذي يمثل النظام وتيار المعارضة واستطاع هذا الحزب تحييد الجانب الكردي من مفاعيل الثورة الى حد بعيد بينما بقي المجلس الوطني الكردي الذي يمثل الشريحة الاوسع من أبناء الشعب الكردي بعيداً عن ساحات التأثير والفعل  كون المجلس منذ البداية انطلق من مواقع تحليلية خاطئة ولم يستطع حتى الان شق طريق له نحو مكامن الفعل والقوة وكان انحيازه الى ائتلاف المعارضة صورياً وبالتالي فشل هو الاخر في الأتيان بمشروع سياسي  واضح يضع حد لإرهاصات حزب الاتحاد الديموقراطي بالرغم من توفر الظروف الموضوعية والذاتية .


مستقبل مناطق شمال حلب على ضوء الصراعات القائمة :

بدون ادنى شك أن مناطق شمالي حلب تتعرض اليوم أكثر من أي وقت مضى  إلى جملة من التداخلات الاقليمية والدولية خصوصاً بعد التدخل التركي الى جرابلسفي 24 / 8 /2016 هذه الضغوطات التي تضع مستقبل هذه المناطق أمام إرهاصات عديدة واحتمالات متعددة  ، فمن جانب ما زال تنظيم  داعش يتحكم بجزء كبير من تلك المناطق  منذ بداية عام 2014 ومن جانب آخر ما زال النظام  السوري يتحكم بدوره بجزء آخر منها بما في ذلك القسم الغربي من مدينة حلب وكذلك قوات سورية الديموقراطية  التي باتت تسيطر على منطقة منبج  بكاملها واستحواذ الجيش الحر على جزء كبير من منطقة أعزاز منذ عام 2012  وبذلك تكون هذه المناطق معرضة الى احتمالات عديدة ومتعددة حيث يسعى كل طرف الاحلال محل الاطراف الاخرى بمساعدة قوى خارجية  بالرغم من بروز ملامح تقسيم مجمل الوطن السوري الى مناطق نفوذ دولية لذلك سوف يبقى مستقبل تلك المناطق خاضعاً للتوازنات الدولية بالرغم من إلحاح الجانب التركي ليل نهار في بسط نفوذها  هناك عبر دعوتها الى  إنشاء منطقة خالية من القوى الارهابية ( مناطق آمنة ) بغية اعادة قسم من اللاجئين السوريين إليها ، ومها يكن من امر فإن مستقبل تلك المناطق مرهون الى حد بعيد  بإرادة قاطنيها في نهاية المطاف  وثمة بوادر محلية فاعلة تدعو الى الابقاء على حالة الوئام التي كانت سائدة سابقاً مهما استدارت الامور الى جانب تمتع  كل المكونات بحقوقها القومية وفق المحددات التي ستنبثق من جنيف في المرحلة التفاوضية القادمة .

أما مستقبل القوى المسلحة التي تتحكم ببعض المواقع والممرات على الارض سوف يكون مرهوناً للتوافقات الدولية بشان تلك المناطق  وستزول بزوال الاسباب كونها حالات استثنائية طارئة لا مستقبل لها  .

حمل هذا الموضوع كملف PDF

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب