تقييم وضع أمني
من هيأ لتفجيرات الكرادة؟
قراءة في إشكالية الصراعات السياسية في العراق الجديد
د.آزاد أحمد علي
مركز رووداو للدراسات
10-7-2016
الملخص
التفجير الذي وقع في ساعات الفجر من يوم 3 تموز 2016، خلال شهر رمضان المبارك داخل سوق في حي الكرادة ببغداد، تسبب في مقتل (292) شخص، من مختلف الإنتماءات، إذ يقدر عدد الكورد بين الضحايا بحوالي ثمانين شخص، إضافة إلى (200) جريح، إلى جانب الخسائر البشرية نتجت عن التفجيرات خسائر مادية هائلة من بينها تدمير وإحتراق سبع مباني. ضخامة هذا الحدث أثار الكثير من التساؤلات ومازالت تداعيته السياسية تتفاعل، ثمة شكوك حول طبيعة التفجير، نوعية المواد المستخدمة فيه ومصدرها، وبذلك فتح الحدث الباب من جديد للصراعات السياسية والتشكيك المتبادل بين أطراف الطبقة السياسية في العراق. أول نتائج الفجير كان إستقالة وزير الداخلية محمد الغبان، تبعها إقالة قائد عمليات بغداد ومسؤولي الأمن والاستخبارات في بغداد من مناصبهم، لكن المؤشرات تفصح أن مرحلة جديدة وجانبية من الصراعات البينية قد دشنت، مما يولد المزيد من التوترات والتجاذبات على الساحة العراقية. يعد حي كرادة مريم حيا تجاريا مهما، مختلط سكانيا، مازال يحتفظ بالتقاليد الحضرية البغدادية، كان يقطنه عدد من القادة العراقيين كالرئيس عبدالكريم قاسم، كما يقطنه القادة وحكام العراق الجدد، خاصة الشيعة والكورد، لذلك وعلى ما يبدو استهدف الحي ليكون منطقة جديدة للصراع على النفوذ وتوزيع القوى داخل توازنات بغداد العاصمة. فقد سبق أن غادرها العديد من سكانها بعد المضايقات والتهديدات، كما تلمس سكان آخرون بأن ثمة صراع عميق يدور حول السيطرة وللتحكم بسوقها المالية، ولتولي حمايتها وأمنها في المحصلة. ما حدث في الكرادة لم يكن تفجيرا إعتياديا وقد صنف بأنه الأكبر والأعنف على الاطلاق في السنوات الأخيرة.
ما زالت ردود الفعل تتفاعل بشدة، لدرجة قد تكون ذات تأثير على العملية السياسية في الأشهر القادمة، فثمة من يتحدث عن مسؤولية رسمية مشتركة مع الارهاب في القتل، في حين كانت الجهات الحكومية تربط نهاية الارهاب في الفلوجة مع نهاية التهديدات على أمن بغداد، بل اعتبر البعض أن الفلوجة مصدر تصدير الارهاب على بغداد، لكن الواقع أفصح عن غير ذلك، فالمفاجأة حدثت بعد تحرير الفلوجة، إذ تبين بأن الارهاب عاد كما كان بل أكثر شدة، ليسرق فرحة العديد والإنتصارات العسكرية، ليكشف عن تخبط الطبقة الحاكمة، وضعف قراءاتها للمشهدين الأمني والسياسي. الخوف يتصاعد بعد هذا الحدث من استخدام امكانيات الدولة لتحقيق المزيد من التباعد بين المكونات العراقية، حيث تعمل الحكومة العراقية والاحزاب التي تقف خلفها على تفكيك القوى السنية والكوردية بجذب أطراف من تلك المكونات واستخدامها ضد الأطراف الأخرى من نفس المكون، ليزداد المشهد تعقيدا، وبالتالي دفع العراق نحو المزيد من الصراع لصالح تعزيز مكانة وهيمنة الميليشيات المذهبية. لا يمكن إحالة تفجير الكرادة المروع إلى غزو خارجي داعشي فقط، بل يجب عدم فصله عن سياقات صراع عنيف على التوازن العسكري والأمني داخل مدينة بغداد نفسها، بل هو أحد أوجه وتجليات هذا الصراع الداخلي.
هذه الورقة تحاول قراءة الحدث في سياقه السياسي والأمني العام، وإلقاء المزيد من الضوء على تفاصيله من داخل ميدان الجريمة، وخاصة بعد زيارة ومعاينة موقع التفجير من قبلنا، فضلا عن استبيان آراء أهالي المنطقة والوقوف عند معاناتهم.
أولا: الكرادة وما حدث فيها
الكرادە تسمیة قديمة تعود إلى العصور الوسطى والمصطلح له جذور لغوية وحضارية كلدانية، كا له بعد ديني مسيحي حسب أغلب المصادر، إذ كان معظم سكانها من المسيح الكلدان والصابئة والكورد واليهود. بعد تأسيس الدولة العراقية اشتهرت الكرادة أكثر وأصبحت بمثابة مركز لبغداد، فالكرادة منطقة كبيرة مترامية الأطراف، تأخذ تسميات عديدة منها كرادة شرقية والداخل والخارج وكرادة مريم وعرصات الهندية وغيرها، حيث لكل فرع تسمية قديمة تأتي من إسم العائلات الشهيرة فيها على الأغلب، على الرغم من التغيرات الكبيرة التي رافقت الكرادة الا أنها بقيت محافظة على أهميتها، فهي تضم مراقد ومدارس مسيحية كثيرة، لكنها تختلف عن الأعظمية والكاظمية وباب الشيخ بأنها منطقة لم تأخذ مكانتها من بعد ديني، أو كتجمع طائفي، بل كانت ولا زالت منطقة مدنية مستقرة تستمد مكانتها من التجارة والصناعات المحلية واليدوية، ومازالت محل إهتمام كل الأوساط الحضرية. هذا وتحتوي الكرادة على شارع أبي نواس، أحد أشهر شوارع بغداد وشارع الجادرية، هذا وتضم كرادة مريم جميع المراكز الأساسية للدولة العراقية، بالاضافة إلى العديد من المنشأت المهمة والمؤثرة في العراق. جدير ذكره أن الكورد يسكنون في الكرادةن حيث كانوا دائما يمثلون أحد أبرز اوجه الهوية البغدادية المركبة.
فما الذي حدث فيها مؤخرا؟ جريمة نكراء لم يستطع أحد أن يكشف عن تفاصيلها حتى الآن فثمة روايات عديدة وافتراضات كثيرة تحاول أن تجيب على العديد من التساؤلات التي حيرت الجميع، فقد تم تدمير شارع كامل بكم كبير من المتفجرات، فكم كان عدد السيارات المفخخة؟ لماذا حدث اطلاق نار من سلاح ناري؟ ولماذا بعض الشهداء وقعوا بسبب طلقات نارية؟ كيف إحترقت كل هذه المحلات وباي مادة حارقة؟ أين كانت وسائل الحماية من الحرائق؟ ولماذا لم يستطع أحد النجاة من بوابات الطوارئ؟ أين هي الحفر التي تسببها عادة الانفجارات الناتجة عن السيارات الملغمة بهذا الكم من المواد المتفجرة؟ فمن المتفرض أن يصل عمق الحفرة بعد التفجير إلى عدة امتار!؟ لماذا الحريق اكبر من التدمير؟ لماذا تم فتح الطرق للعربات قبل الانفجار بنصف ساعة؟ لماذا لم تفجر الجهة الأخرى من الشارع بفعل العصف على الأقل؟ البنايات التي حدثت فيها الفاجعة بنايات مفتوحة على شوارع خدمية خلفية، لماذا لم يهرب منها الناس وإلتهمهم النيران؟ في حين ومنذ عدة سنوات هذه الطرق يتم إغلاقها خاصة قبل العيد؟ كما أن مرور عربات الشحن ممنوع منذ عشر سنوات في هذه المناطق قبيل المناسبات بسبب الازدحام المروري. لماذا التباطؤ في الوصول الى موقع الحادث من قبل قوى الامن والدفاع المدني؟! في الصباح وصل الساسة كي يظهروا على شاشات التلفزة، حيث الغضب والمرارة في قلوب الناس، وكل (كرادي) مقتنع بأن الإرهاب قد اشترك مع الاحزاب في قتل الفرحة في الكرادة وبغداد كلها، لماذا بعد الانفجار تم غلق مداخل الحي لكي يعاني المنقذون المتطوعون صعوبة في عمليات الانقاذ؟ عشرات التساؤلات، عشرات القصص والرويات كلها تتحدث من منظور أصحابها، مشوبة كلها بالبكاء وتتسم بالعفوية، تتحدث دون أي مجاملة، عن مسؤولية رسمية مشتركة مع الارهاب في قتل أبناء الشعب، متسائلين لماذا؟ كلهم يقولون لقد تآمروا على الأبرياء، يرددون: "لقد قتلتنا الحكومة والارهاب، لقد رأينا بأم أعيننا كيف تواطؤا ضدنا، لا حول لنا ولا قوة. حسبي الله ونعم الوكيل". بينما الإعلام الحزبي الطاغي، والحكومي الخشبي لا يبرزان أي مؤشر ولا ينقلون الحقائق.
قد تظهر الأيام ما هو أحلك، قد يتم الإجابة على حملات التشكيك، وقد يتم تفكيك عقدة خيوط الجريمة المعقدة. علما أن داعش أعلنت مسؤوليتها عن الإنفجار، فإما توجد جهات أخرى متعاونة معها وتتحمل جزء من المسؤولية، بقيت ساكتة ولم تعلن عن أي شئ سوى الاستنكار والوعيد بالثأر! أو تم التسهيل للمنفذين بعلم أو دون علم لتنفيذ الجريمة.
وبهذا الصدد يمكن التساؤل لماذ لا توجد رواية رسمية مقنعة لأهل الكرادة الذين شاهدوا المجزرة؟ حيث بعد الإنفجار باتت الكرادة محتلة من قبل الميليشيات، مع انسحاب ملفت للقوى الأمنية، مقابل تدقيق الميليشيات في هويات أهالي الكرادة ومحيطها لدرجة أن اصبحت بغداد منطقة مغلقة!
ثانيا: المتاجرة بمصاب الكرادة
تعرضت الكرادة إلى هجمات إرهابية عديدة حيث تم تفجير العديد من السيارات المفخخة فيها، فكرادة مريم وكرادة داخل وكرادة خارج نزفت خلال السنوات الماضية دماء زكية في تفجيرات متكررة نفذتها جهات إرهابية عديدة. لكن الإنفجار الأخير يعد الأكثر فتكا وضررا، بسبب توقيته وعدد الضحايا، درجة تشوههم فحوالي 177 من الضحايا مازالوا مجهولي المعالم وبالتالي الهوية، إضافة إلى تأثيراته الاستراتيجية البالغة الخطورة في المستقبل، لم تخلف تفجيرات الكرادة فقط شهداء ومشوهين، بل خلفت أيضا جرحا وتشوها في النفس العراقية، وقتلت الأمل في إمكانية النجاة من الإرهاب خلال وقت قصير، بينت بصيغة ما أن المعركة لا زالت طويلة، إضافة إلى انها تسببت في خسائر مادية واقتصادية كبيرة، فالكرادة مركز تجاري كبير في العراق وسوق نشط، تعد من الأسواق التي يسيل لها لعاب القوى السياسية التي تهدف إلى الحصول على الأتاوات، ثمة من يردد بأنه هنالك من يريد سرقة أهالي الكرادة، أموالهم وبالتالي سوقهم، بحجة حمايتهم من الهجمات المحتملة. لكن هذا الجانب هو الجانب الأقل ظلمة في القصة، فمنذ اليوم الأول للانفجار بادر الساسة إلى الاستعراض في الكرادة، فتصدت لهم الجماهير الغاضبة، انتفضوا ضدهم، فبينما يحاول الساسة الفاشلون استمالة عواطف أهل الكرادة، ويكسبوا أصواتهم، يعمل آخرون على التهويل وتخويف المناطق الاخرى من بغداد، في رسالة تهديد مبطنة ترجح إحتمال تعرضهم لنفس المأساة.
إقتصاديا الوضع في السوق مضطرب فأصحاب المولات (المحلات التجارية الكبيرة) باتوا يتخوفون على مستقبل أعمالهم، أما الساسة وقادة الميليشيات فيعرضون أنفسهم كمنقذين، ويلوحون بأن للانقاذ أيضا ثمنه. الذي يستشفه المواطن العادي من مصيبة الكرادة يصح وقد يجري على العراق بأجمعه.
ثالثا: الكرادة والإشكالية الأمنية العراقية
أظهرت كارثة الكرادة على السطح "اشكالية العقيدة الأمنية العراقية" ومخاطر إنزلاقها نحو مزيد من التفكك والانحدار نحو هاوية الـ(لبننة)، وهذا ما يتم تلمسه في أحياء بغداد، كما سببت هذه العقيدة الأمنية سابقا ب(بلقنة) مناطق العراق الأخرى، إذ تسارع ساسة العراق إلى إتهام الاجهزة الامنية بمختلف تشكيلاتها بالتقصير في أداء مهامها، لذلك طرحوا حلولا تثير الفزع والمخاوف التي قد تسببه هذه الحلول البديلة نفسها، حيث تتمحور الحلول الرسمية وشبه الرسمية من قبل القوى الحاكمة على المسارين التاليين:
1) أن يتم ضخ الجيش في أحياء بغداد بشكل أكثر كثافة إلى حد إستدعاء الاحتياطي، وأن يتم اجراء تنقلات في مواقع الضباط، هذا الحل يدل على مخاطر من نوع آخر، تكمن في إخضاع العاصمة إلى إرادة معينة، تلك التي تستخدم موقعها الرسمي في فرض هيمنتها، خاصة وأنها في موقع تحس بأنها أقوى من السابق، وتفترض أن تهديد داعش بإحتلال بغداد أصبح بعيد المنال، لذا شرعت في إعادة ترتيب الاوراق داخل العاصمة.
2) أما الحل الثاني فجاء على لسان ميليشيات الحشد الشعبي التي أطلقت رغبتها ونيتها في الحضور الفاعل في المشهد الامني في بغداد، على أن تكون حاضرة في بغداد كقوة رئيسية لحماية أمن مناطقها وأن تقوم بتشكيل كتائب جديدة من سكان المناطق التي تقوم بحمايتها، عمليا وخلال يوم الأول اصبحت ميليشيات الحشد الشعبي تسيطر بشكل كامل تقريبا على الكرادة.
ثمة تساؤل بصدد هذين الحلين، فهل يسعى الحشد الشعبي إلى أن يكون من ضمن قوة مؤقتة، تشكلت أصلا لتلبية نداء الجهاد الكفائي الذي أطلقته المرجعية لحماية المراقد المقدسة للطائفة الشيعية، أم ستتحول إلى قوات دائمة لتسيطر على المجتمع العراقي، وتتغلل داخل كافة تفاصيل مسائل العراق الشائكة، لتخلق المزيد من التعقيدات وتضيفها إلى المشهد الخاضع إلى صراعات القوى، سواء المرتبطة بالحكومة أو المعارضة لها، وبالنتيجة دخول الحشد إلى الكرادة ينذر بمخاطر جمة على مستقبل ما تبقى من بغداد والعراق.
رابعا: الانفجار واشكالية تحمل المسؤولية
رغم أن الانفجار تم تبنيه من قبل تنظيم داعش الارهابي، وتفاخر به، إلا أن التحليل والتأويل طال جهات أخرى إذ نسجت العديد من الروايات خلال الأيام التي تلت الانفجار، حول حقيقة المنفذين وعلاقتهم ببعض القوى السياسية بمن فيهم من يقود البلاد ويشاركون في الحكم، وتصاعدت حدة التكهنات وتداخلت مع الإتهامات الصريحة ووصولا إلى مقترحات للثأر من تلك القوى، حتى الرد بالثأر يحمل مؤشرات على المزيد من التدهور، فكل التوقعات باتت محتملة، بل الواقع بات ينطوي على فواجع قادمة. ليس ثمة تقدير للخطر القادم والذي يستفحل مع حدوث هكذا تفجير هائل الحجم وكبير النتائج، فلا الأحزاب اجتمعت ولا مجلس الوزراء تحرك ولا مجلس الامن العراقي إهتز، فقط تم قبول استقالة وزير الداخلية محمد الغبان، تبعها إقالة كل من قائد عمليات بغداد الفريق عبد الأمير الشمري، ومسؤولي الأمن والاستخبارات في بغداد من مناصبهم، مع معلومات تفيد عزل آمر فوج الشرطة الاتحادية في الكرادة, حجز وعزل مدير استخبارات الكرادة ومدير الأمن الوطني فيها, فضلاً عن أوامر بحجز وعزل ضابط مرور الكرادة ومدير نجدتها.
يبدو أن الاتهامات تطلق بهدف المزيد من التنكيل والتحجيم لبعض الأطراف المتصارعة، بل بهدف ترسيخ المزيد من السيطرة والهيمنة لبعض الأطراف الأخرى، الكل ينتقد، لكن وزير الداخلية قد كشف عن مقدار التشرذم وهشاشة الملف الأمني وكذلك سرية الجهة المسؤولة عنها فعليا، فوزير الداخلية اعترض وطالب أن يكون له السيطرة على الملف الأمني، ووزير الدفاع يتسائل عن موقعه ومسؤليته، فمن يا ترى يسيطر على الملف الامني؟! إلى أي مستوى سينزلق العراق؟ يبدو أنه من حق الجميع التساؤل، إلى أي درجة من التشضي ستقود القوى الحاكمة بغداد؟ هل يعيدون تجربة الحرس القومي، أو تجربة الحرس الثوري؟ أم لجان الحماية الشعبية؟ هل هم بصدد خطة لتأسيس مليشيات حزبية تتحكم كل منها بمنطقة نفوذ محصورة داخل مدن العراق وبين أحيائها؟ هل سيتبع انفجار الكرادة إعادة توزيع للسيطرة وترسيم مناطق النفوذ؟! هل أصبح مصاب الكرادة مدخلا لتطبيق هذه الأجندات الجديدة؟ لماذ يرافق كل انفجار انهيار في بعض جوانب البنى الرسمية للدولة، وتتراجع سيادة الدولة أكثر لصالح سطوة الميليشيات؟!
خامسا: بعد كل إنفجار يعقبه إنحدار
خلال سنوات الحكم في العراق الجديد تعود العراقيين على الاستجابة غير الموفقة للقوى السياسية الحاكمة في بغداد لعمليات التفجير، تلك التي لا تؤدي إلى موت الأبرياء فحسب، بل إلى المزيد من التحكم من قبل الأحزاب الطائفية في تفاصيل حياة العراقيين، فتفجير مراقد الائمة في سامراء وما رافقه من تصفيات طائفية طالت معظم المرافق المدنية في الدولة، مما أدى إلى فصل وإبعاد الآف من الموظفين، لكي يتسنى للأحزاب الحاكمة من تنشيط نظام المحسوبية، وأن تزج بعناصر موالية لها في في مواقع حساسة. لقد طرأ إثر كل خرق أمني زيادة في عدد المسلحين خارج الإطار الدستوري للقوى الأمنية، حتى أصبحت القوى الأمنية التابعة للدولة في مواقع ثانوية أمام تضخم عدد الميليشيات ضمن المشهد الأمني العام، فبعد عشر سنوات على ظهور علني لأولى الميليشات في العراق، البلد الآن يعج بعشرات أنواع الميليشيات، من مختلف الزمر وعلى كافة المستويات، حتى بات معها الأمن اكثر ترديا وتعقيدا، حيث بعد كل خرق أمني وفاجعة يزداد الانقسام والتشظي في العراق على المستوين الشعبي والرسمي.
سادسا: تحرير الفلوجة وانفجار الكرادة
لم يكن تحرير الفلوجة عملية عسكرية لتحرير إحدى بقاع أرض العراق التي إحتلت من قبل قوة إرهابية استقطعتها وضمتها الى دولة أخرى مفترضة، بل كانت مباراة لعرض وفرض التصورات والأجندات، شاركتها قوى محلية وأخرى اقليمية، حتى الدولية رافقت العمليات بصيغة أو أخرى. على الرغم من بشاعة المعركة نفسها، ثقلها على أفراد القوات المسلحة وحجم تضحياتهم التي تجاوزت مئات الشهداء وآلاف الجرحى، فقد كان عدد الشهداء والضحايا بين المدنيين أكبر، فعلى مدى أشهر والعراق يعيش تفاصيل المعركة السياسية، بل الاعلامية، فالاقتصادية والعسكرية سواء في الأنبار أو الفلوجة، لكن المصيبة تكمن في أن الجهات الرسمية ربطت نهاية وجود الإرهاب في الفلوجة مع نهاية التهديدات على بغداد، بل اعتبروا أن الفلوجة مصدر تصدير الإرهاب على بغداد، لكن الواقع أفصح عن غير ذلك، المفاجأة حدثت بعد تحرير الفلوجة، إذ تبين بأن الإرهاب عاد كما كان، ففجر قلب بغداد بطريقة أكثر شدة، ليسرق فرحة العديد ويكشف عن تخبط الطبقة الحاكمة، وضعف قراءاتها للمشهدين الأمني والسياسي.
سابعا: تفجيرات الكرادة وسياسات الهيمنة الحكومية
ظاهريا تحظى الحكومة العراقية بتأييد شعبي، يتم دعمه من مكونات الشعب المنهك، الذي لا يريد أي شيء من الحكومة سوى أن تقوم بأبسط وظائفها، وخاصة دورها في المحافظة على أمن المواطن، وبات العراقيين يائسين من الاعتصام والتظاهر والمطالبة بالديمقراطية، وعلى الرغم من أن المكونات العراقية أصبحت يائسة أيضا من الحكومة العراقية، فهي لم تعد حيادية تحترم حقوق كل المكونات. والغريب مازالت الحكومة العراقية تنال دعم دولي متمثل في التحالف الدولي بقيادة امريكا، في نفس الوقت الذي تحظى بدعم روسي، اي بمعنى آخر، معظم دول العالم تقف مساندة لهذه الحكومة، لكن هذه الحكومة تعمل جاهدة من أجل استغلال هذا الدعم لفرض هيمنة ميليشياتها وقواها الخفية، توفر بيئة لتسلط أحزابها على مفاصل الدولة وتفاصيلها المجتمعية، فتستغل كل حدث سياسي وكل فاجعة عراقية لكي ترسخ من سيطرة حكومتها الموازية على عموم العراق، في سياق متصل فهي مازالت منهمكة في استخدام امكانيات الدولة لتحقيق المزيد من التباعد بين المكونات العراقية، حيث تعمل الحكومة العراقية والاحزاب التي تقف خلفها على تفكيك القوى السنية والكوردية بجذب أطراف من تلك المكونات واستخدامها ضد الأطراف الأخرى من نفس المكون، مثل ما يحدث في كوردستان حيث تقدم الحكومة العراقية على تفكيك القوى الكوردية ودفعها للصراع ضد بعضها عبر تلاعبها باستخدام موارد الدولة المالية، فهي تقطع على بعضها المال وتغدق على بعضها الآخر، مما أدى إلى تأجيج الصراع، مثلما فعلت مع القوى السنية سابقا، لكن هذه السياسات غير المتزنة ستوجه البلاد الى المزيد من الصراع والاصطدام وليس الوفاق، فالحكومة تقودها قوى تخطط لفرض إرادتها السياسية على جميع أنحاء العراق، مستغلة الدعم الدولي والإقليمي، مستفيدة من خطر الإرهاب على جميع أنحاء العراق والعالم.
ثامنا: إنفجار الكرادة واشكالية المؤسسات العراقية
كشف الإنفجار عن اشكالية العلاقة بين مجموعة من المؤسسات والجهات الرسمية في العراق، فوزارة الداخلية تتهم رئاسة الوزراء بأنها قد ميعت الملف الأمني، كما أن نواب في البرلمان اتهموا ضباطا كبارا بالتقصير الميداني والاستخباري، وزارة العدل أيضا اتهمت رئاسة الجمهورية، رئاسة الجمهورية ردت برفع دعوى، وزير الداخلية إستقال، لأن بعض القوى السياسية إتهمت الوزارة بالتقصير، وهكذا وربما حتى يتم التمهيد لإستلام الحشد الشعبي الدور الرئيس والمفصلي في الملف الأمني العراقي عموما ولمدينة بغداد خصوصا، هذا يأتي على حساب تراجع الحكومة عن دورها، فثمة عدم تنسيق وفوضى داخل مؤسساتها، إذ لم تتخذ خطوات رسمية واضحة، فرئيس الوزارء يتخذ عادة خطوات ذات طابع شخصي، بمنعه لمسائل معينة والسماح لأخرى يرفضها وزير الداخلية جملة وتفصيلا، دون أن نلمس أي بادرة عملية بالتنسيق بين مؤسسات الدولة أو تأطيرها في اطار عمل متكامل، حسب الأصول القانونية والدستورية، خاصة لمنع وقوع كوارث مشابهة. بقيت الحكومة المركزية متخبطة في إتخاذ موقف مؤسساتي متكامل وكل سياسي من جانبه يحاول إستغلال الفاجعة لكي يزيد من رصيده الشعبي عبر إطلاق العنان لخياله في الإتهام والإيهام للأطراف الأخرى وبما يحقق سياسته ومصالحه.
تاسعا: ما بعد فاجعة كرادة
بعد الفاجعة التي حلت في الكرادة، توالت الانفجارات في أماكن أخرى من العراق، بل وفي يوم الإنفجار حصلت انفجارات في جسر ديالى والشعب وبعدها في الكريعات، ومدن أخرى من العراق، ثم حدث عمل إرهابي من نوع آخر، إذ قام مسلحون بقصف مطار بغداد، وكذلك معسكر ليبرتي الذي يضم معارضين ايرانيين بالصواريخ، إنطلاقا من منطقة عكركوف المحاذية لبغداد، وصل عدد تلك الصواريخ الى حوالي (50) الخمسين، في عملية عسكرية نوعية بحاجة إلى أعداد كبيرة من المقاتلين لنقل تلك الصواريخ ونصبها وتوجيهها، حسب ضوابط عسكرية تحتاج أيضا إلى خبرات وإحداثيات دقيقة. القوى الأمنية العراقية لم تكن قادرة على كشف الجهة التي نفذت عملية الهجوم على كامب ليبرتي، علما بأن عكركوف تقع غرب بغداد، في حين كانت الحكومة تقول بأن التهديد يأتي عموما من جهة الفلوجة التي تقع على بعد أكثر من (60) كم عن الموقع الذي تم منه الهجوم بالصواريخ. تداعيات كل هذه الهجمات الإرهابية لم تؤثر بالشكل المطلوب على أداء الحكومة العراقية الأمني والسياسي، فوجود قوى قادرة على قصف مطار بغداد ومعسكر اللاجئين بصواريخ متوسطة المدى، يعد تهديدا خطيرا للامن الوطني، مثل تفجير الكرادة، في المحصلة هناك على ما يبدو حلقات كثيرة مفقودة، وأمهات الثكلى والآباء المفجوعين ينتظرون على الأقل تحقيقا مهنيا بالحادث لكي يعرفوا ملابساته وهو ضمان لعدم تكراره. هذا وقد تصاعدت المطالب مؤخرا بضرورة إجراء تحقيق دولي في الحادث.
في الختام يمكن القول بأن العنف الذي ضرب العديد من المواقع العراقية في الإسبوع الماضي وخاصة بغداد، وإن لم تكن ظاهرة جديدة لكنها كشفت عن أنه لا يمكن ربط ظاهرة عودة وتصاعد العنف ميكانيكيا بعملية تحرير الفلوجة ولا إحالتها إلى عوامل الغزو الخارجي الداعشي فحسب، حيث أنه مازال يرتبط عضويا بالصراعات الداخلية على مناطق النفوذ في العراق عموما وبغداد على وجه الخصوص.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً