دراسة وثيقة (2)
بعد 70 سنة قراءة
مركز رووداو للدراسات
3/7/2016
• مدخل: لماذا هذه القراءة
تفترض هذه القراء المتأنية للعدد الأول من جريدة البعث أنها ستساهم في فتح نافذة على فكر الحركة القومية التي أصدرتها، كما تفيد الدارسين في تتبع مسار حزب البعث، بدءا من إصدار الجريدة، التي تحدد ملامح الحركة الأولى، حتى تحولها الأيديولوجي والسياسي لاحقا، وصولا إلى تسلمها للسلطة في كل من سورية والعراق. القراءة تذكر بإمكانية وضرورة الإعتماد على هذه الجريدة، كأحد أهم منابع ومصادر معرفة جذور حزب البعث، بصرف النظر عن أهمية المصادر الأخرى.
تنبثق أهمية هذه الجريدة أيضا بإعتبارها الأداة التنظيمية الأولى وأحد مصادر قوة الحركة القومية العربية، إثر إنطلاقتها وتبلورها في بلاد الشام، وبالتالي تهدف هذه القراءة للكشف عن أهم مفاتيح حركة "البعث العربي" من جهة، وتتبع بداية ودور الصحافة الحزبية السورية في أول نشأتها وإصدارها العلني قبل منتصف القرن العشرين من جهة أخرى.
• الوصف العام لعدد الجريدة الأول
يتكون العدد الأول من جريدة "البعث" من صحيفة ورقية من القطع الكبير، بأبعاد 40×60 سم، بأربعة صفحات فقط. في أعلى الصفحة الأولى نجد إسم الجريدة "البعث" وتحتها مباشرة شعار الحركة: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، على يمين الإسم وبالتالي في يمين أعلى الصفحة مربع دون فيه تاريخ إصدار العدد الأول حسب التقويم الهجري أولا، فمن ثم الغربي: "3 تموز سنة 1946"، وفي أسفل المربع: العدد 1 – السنة الأولى. في الجانب الأيسر من لوغو الجريدة مربع آخر يشير الى العنوان "مكتب البعث العربي – شهداء – سبكي ... في أسفل المربع الثمن 15 قرشا" ، بطبيعة الحال العنوان هو دمشق والعملة هي السورية. إلى اليمين مدون: "المدير المسؤول: صلاح الدين البيطار. على نفس المنسوب إلى اليسار، المدير السياسي: ميشيل عفلق.
إحتوت الصفحة الأولى على العناوين الرئيسية التالية، في الزاوية اليمنى: "بذور البعث"، موقعة أسلفلها بإسم ميشيل عفلق. إلى يسارها "حتى عمال أميركا يؤيدون اليهود! نقابات العمال تستنكر تدابير بريطانيا وتطالب بادخال 100 ألف يهودي". في أعلى يسار الصفحة: "نفسية العربي في تناقض بين الأنانية والمثالية" بتوقيع حافظ الجمالي. في وسط الصفحة الأولى: "امريكا تقدم جميع المساعدات لهجرة اليهود الى فلسطين – تصريح ترومان". ثم مجموعة عنوانين لأخبار متفرقة: "حزب المؤتمر يعقد جلسة سرية". "ضحايا الحوادث باليونان". طائرات الانتحار اليابانية أشد أثرا من القنبلة الذرية!. الوزراء الأربعة يحلون عقدة تريستا، الايطاليون واليوغسلافيون غير راضين. ثم أسفل يسار الصفحة: "اضطرابات واصطدامات، بلجيكا، الهند، تريستا".
في أعلى يمن الصفحة الثانية، تعريف بهوية الجريدة: "البعث جريدة يومية سياسية. دمشق. لسان حركة البعث العربي". ويبدو أن أغلب عنواين هذه الصفحة مخصصة للأخبار الداخلية، وأبرز ما دونت في هذه الصفحة من الأعلى نحو الأسفل: "الحجر الأساسي لمستشفى المواساة، تم وضعه بحفلة رائعة حضرها رئيس الجمهورية" . "ما درسه المجلس الإقتصادي الأعلى منع استيراد جميع المواد الكمالية". "إحصاء تقريبي لسكان سورية". "افتتاح المخيم التدريبي، أساتذة مصر يشتركون في التدريس والتدريب". "وزير الدفاع يعود اليوم من مصر". "البعث تشكر كل من آزرها بالمطالبة بحرية إصدار الصحف في سورية". "برقية الداخلية الى المحافظات لتوزيع الإعانات على المنكوبين"، إضافة إلى عنواين صغيرة أخرى لنشاطات حكومية وأهلية.
في الصفحة الثالثة نجد ضمن إطار أبرز عنوان: "مبادئ حركة (البعث العربي)،
1- حزب البعث العربي هو منظمة سياسية قومية شعبية إشتراكية إنقلابية، شعارها: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، استكملت في الصفحة الرابعة والأخيرة. ويبدو أن هذا المقال هو الحلقة الأولى لأيديولوجية البعث، تم نشرها على حلقات في الجريدة لاحقا. في وسط الصفحة مقال بعنوان: "متى يوضع حد لخلافات البدو؟ المؤتمرات التي عقدت لتسويتها منيت بالفشل، هلا عزفت الحكومة عن سياسة الحلول المخدرة والمؤقتة؟" موقعة بأحرف ج س، وهو على الأرجح جلال السيد، ليس لتطابق الأحرف الأولى من الإسم، وإنما للغلتها الحقوقية، وإهتمامه الشخصي بهذا الملف المتعلق بتغيير ديمغرافية الجزيرة السورية. ونظرا لأهميته التاريخية والتوثيقية، سنعيد نشر كامل هذا المقال بعض استعراض العناوين الرئيسية. في أعلى يسار الصفحة زاوية: "العالم العربي، فيها أخبار عن مصر، لبنان، العراق". في أسفل يسار الصفحة زاوية: "صوت الطلاب". في أدنى الصفحة مقال مترجم بعنوان: "سوريا أجود منطقة في العالم للاستعمار!!، هذيان كاتب فرنسي بمناسبة جلاء فرنسا عن هذا الشرق".
في الصفحة الرابعة والأخيرة، نشر تتمات: "نفسية العربي، وسوريا اجود منطقة للاستعمار، أما الزاوية الرئيسة فقد خصصت للتربية والتعليم، وعنوان المقال. "فحص الشهادة الابتدائية". في الوسط مقال رئيس بعنوان: "احرار اوربا يشرعون بإحياء مبادئهم، ممثلو ثماني دول يؤسسون دولية الأحرار". الزاوية الأخيرة هي للتربية القومية، والمقال الأخير بعنوان: "حرورهم من الخوف"، بتوقيع صدقي إسماعيل. وثمة زاوية صغيرة " في سطور" ، وردت فيها ثلاث أخبار قصيرة أهمها نافذة:
"هنالك فكرة لإسكان نصف المتحضرين من بدو الجزيرة في أملاك الدولة، ومساعدتهم جديا في التحضير العقلي، وسيخصص مبلغ 20 مليون ليرة لهذه الغاية."
• مقتطفات:
متى يوضع حد لخلافات البدو؟
المؤتمرات التي عقدت لتسويتها منيت بالفشل
هلا عزفت الحكومة عن سياسة الحلول المخدرة والموقتة؟
ديرالزور – لمراسل " البعث" الخاص:
الخطوة الأولى التي يتحتم اجتيازها لإمكان البناء هي الأمن وما دامت البادية السورية مضطربة قلقة فإن الاصلاح غير ممكن.
والبادية في شرقي سوريا غير مستقرة على الرغم من تصريح المسؤولين وعلى الرغم من انعقاد المؤتمرات واجتماع اللجان.
مؤتمر عانة
عقد مؤتمر في مدينة (عانة) العراقية لتسوية الخلاف بين قبيلتي شمر والعكيدات ، وهذا المؤتمر تتمة لمؤتمر قبله جرى فيه صلح على الأسس وانحصر مؤتمر مؤتمرعانة في بحث المنهوبات وقد كان المحكم فيه بين القبيلتين الأمير مجحم بن مهيد والشيخ عبدالرزاق العلي السليمان رئيس قبيلة الدليم العراقية المسكن، وقد انقض المؤتمر من غير أن يصل إلى نتيجة اذ امتنع المحكمان عن اعطاء حكم في الخلاف وقد تحدثت أوساط كثيرة عن موقف الأمير مجحم فاتهمته بأنه غير جاد في الوصول إلى انهاء النزاع وقد كان بإمكانه ذلك بصفته مسموع الكلمة مطاعاً من الطرفين حتى ولو جار على إحدى القبيلتين فإنها تقبل اكراماً له.
وإن (الوقوعات) التي أطلعنا عليها لا تقطع بعدم صحة ما قيل لأن الحجج التي استند اليها مجلس الحكم في تأجيل الدعوى لم تكن مقنعة ولا معجزة الى حد أنه لا يمكن تذليلها والتغلب عليها، وهكذا فإن الخلاف لم يزل على أشده بين العكيدات وشمر وليس لمن يقع من قبيلة عند القبيلة الأخرى من شفيع حتى ولا عادات العرب وما تحلو به من عفو وحلم فقد تأصل الحقد وعمق الجرح والحكومة لا تدري عن هذا الأمر شيئاً !!...
مؤتمر الحسكة
وحوالي منتصف أيار الماضي عقد مؤتمر آخر في الحسكة مركز محافظة الجزيرة بقصد تسوية الخلاف بين شمر وحلفائها (الكيكية الكردية والشرابيين وحرب) والأخيرتان عشيرتان عربيتان، وبين القبيلة البقارة ونستطيع أن نعد هذا المؤتمر فاشلاً أيضاً كسابقه مؤتمر عانة، بالرغم من أن المحكمين قد لفظوا حكما فيه وكان الحكم بالأكثرية إذ خالف الاجماع أحد الأعضاء أحمد الفياض رئيس عشيرة البو سرايا وسبب الفشل في هذا أن الحكم لم يكن مرضياً إلا من طرف واحد أما الطرف الآخر وهو (البقارة) فيعد نفسه خرج بصفقة المغبون ذلك إن عدة قرى نزعت من أحد مشايخ البقارة خالد الطلاع واعطيت إلى ميزر الجربا أحد شيوخ شمر وأن خالداً الطلاع المذكور قد حكم عليه أن لا يتجاوز نهر الخابور في تجواله نحو الشمال وأن أفراد البقارة لا يرتادون الجزيرة إلا من كان مالكاً منهم لأرضِ هناك، والبقارة تعد هذا الحكم جائراً، أما وجهة نظر شمر: فإنهم يعدون هذا الحكم هو الحد الأدنى من مجموعة مطاليبهم فهم شيوخ الجزيرة قبلاً بلا منازع والبقارة تقتل منهم ثلاثة من أبناء الشيوخ والبقارة تنهب ميزر الجربا وهو عمل ليس له مثيل في الفظاعة والتعدي، إلى ما هنالك من ذرائع يتذرع بها الطرفان !!. ولقد اتهمت شمر محافظ الفرات بأنه تحيز لجانب البقارة كما اتهمت البقارة محافظ الجزيرة بأنه شايع شمر وناصرهم ومن شدة ما حدثوا عن المحافظين كانا محاميين وليسا قاضيين مصلحين، ولا يزال وضع البادية غير طبيعي! إننا تجاه هذه الأحوال نتساءل إلى متى تظل الحكومة تعالج بالمخدرات ولا تبحث الداء من جذوره؟ وإلى متى نحن نبقى عرضةً لرجات البادية تشغلنا عن شؤوننا العليا ومتى تقبض الحكومة ناصية الحال بيد العارف النزيه المخلص؟
• الشخصيات المسؤولة عن الجريدة والمساهمون في العدد الأول
1- صلاح الدين البيطار (1912-1980)
سياسي سوري وأحد ثاني مؤسسي حزب البعث، إضافة إلى ميشيل عفلق. ولد عام (1912) في حي الميدان في دمشق لأسرة ملتزمة بالعقائد الإسلامية وتعمل في الحقل الديني. كان من المدنيين القوميين الحالمين، كما كان يهدف لتغيير المجتمع وإعادة تكوينه عن طريق التربية القومية.
سافر إلى فرنسا ودرس الفيزياء في جامعة السوربون. تعرف هناك على ميشيل عفلق، حيث جمعتهما المبادئ الاشتراكية الفرنسية، القريبة من الفاشية القومية. نشأت بينهما صداقة وثيقة، مدعومة بالمبادئ التي اعتنقاها حتى أسسا معاً اتحاد الطلبة العرب في فرنسا. بعد العودة إلى دمشق درّس علم الفلك والفيزياء، بينما درّس عفلق مادة التاريخ.
ساهم عام (1939) في تأسيس منظمة الإحياء العربي، التي تحولت في ما بعد إلى حزب البعث العربي. استقال البيطار وعفلق سنة (1942) من عملهما كمدرسين ليتفرغا للعمل السياسي. وفي عام 1947، عندما عقد البعث أول مؤتمراته انتخب البيطار أميناً عاماً للحزب. لاحقا اندمج الحزب (1953) مع الحزب العربي الاشتراكي، ليصبح اسمه حزب "البعث العربي الاشتراكي" وأصدر المؤسسان صحيفة "البعث" موضوع دراستنا.
في عام (1949) اعتقله الرئيس حسني الزعيم مع باقي أعضاء القيادة القومية للحزب، بسبب معارضتهم لبعض سياساته, أما بعد قيام الوحدة عام (1958) بين سوريا ومصر، عُيّن البيطار وزيراً للثقافة والإرشاد القومي. بعد وصول البعث إلى الحكم في 8 آذار (1963)، تولى صلاح الدين البيطار رئاسة الوزراء أربع مرات، وإثر قيام حركة 23 شباط (1966) التي قام بها صلاح جديد، اعتقل البيطار، لكنه استطاع الفرار إلى لبنان، بعدها صدر حكم غيابي بإعدامه عام (1969). في عام (1978) استدعاه حافظ الأسد، وشجعه على الإستقرار في دمشق، لتوظيفه ضد خط علفق في العراق.
لكن الأسد فشل في كسبه، تزايد نشاط البيطار في فرنسا وارتفع رصيده في العالم العربي، حتى بات يشكل خطرا على الحكم في دمشق. وهذا ما يرجح فرضية إغتياله بكاتم صوت بمدينة باريس عام (1980)، وذلك على الأرجح من قبل عملاء النظام الحاكم في دمشق. بعد مقتله، نَقل جثمانه ليدفن في بغداد.
2- ميشيل عفلق (1920-1989)
ولد في حي الميدان جنوبي دمشق لعائلة مسيحيّة أرثوذكسية. تلقّى تعليمه في المدارس الفرنسية في سورية أيام الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان.
بدأ نشاطه السياسي والثقافي مبكرا، إنتقل إلى باريس مع صديقه صلاح الدين البيطار ليلتحق بجامعة السوربون حيث تبلورت أفكاره الحزبية في باريس. انخرط عفلق في الجمعية العربية السورية وجمعية الثقافة العربية وتأثر عفلق بحركة الانبعاث الإيطالي أساسا، والتي كانت بزعامة جوزيبي مازيني، فحاول توطين أفكارها ونقلها إلى الواقع العربي، نظرا لتشابه حالتي العرب والايطاليين حسب إعتقاده. لذلك يمكن التكهن بأن الفكر البعثي لم يكن وليد ثقافة ميشيل عفلق، بل استعارها عفلق من فكرة الإنبعاث الإيطالي بأهدافه (الوحدة - الحرية - الاستقلال)، كما تأثر بالفكر القومي الشمولي الفرنسي خاصة في ضرورة بناء الأمة واصطناعها.
بعد عام (1933)، عمل عفلق والبيطار كمدرسين، وقاما بالتبشير لأفكارهما في أوساط الطلاب والشباب، كما أنه تنشط في الوسط السياسي. وفي عام (1942) تفرغ للعمل السياسي واحترفه. ساهم في تكوين أول جماعة سياسية منظمة باسم الإحياء العربي، وما لبثت هذه الجماعة أن وضعت مبادئها القومية، كما قام بمساعدة صلاح الدين البيطار وشقيقه الدكتور مدحت البيطار بعقد المؤتمر التأسيسي في دمشق لحزب البعث العربي يوم (7) نيسان عام (1947)، وانتخب ميشيل عفلق عميدا للحزب. في عامة (1952) تم دمج حزب البعث العربي مع الحزب الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني ليصبح معا "حزب البعث العربي الاشتراكي". يبدو أن حدة حماس عفلق للفكر العروبي جاء كرد فعل على مسيحيته، حيث تم اضطهاد وإقصاء أجداده من قبل حكام سورية المسلمين الأكراد أولا، ومن ثم الأتراك العثمانيين لاحقا، وهذا ما يفسر درجة حقد تيار البعث وتوافق مؤسسيه وكوادرهه الفاعلين غير المعلن على إضطهاد الكورد، وضرورة إلغاء خصوصيتهم القومية وثقافتهم، فضلا عن تفتيت جغرافية بلادهم.
3- حافظ الجمالي (1917- 2001)
ولد حافظ الجمالي في حمص عام 1917. تابع دراسته في دمشق في دار المعلمين العليا. عمل أيضا مدرساً في المدارس ومعيداً في جامعة دمشق. حصل عام (1939) على شهادة إجازة في الفلسفة من فرنسا. يعد من الشخصيات البعثية القومية المثقفة نسبيا. إذ عيّن عام (1947) عضواً في لجنة البحوث في رئاسة الوزارء بدمشق. ثم أُوفد إلى فرنسا عام (1949) لتحضير الدكتوراة في التربية. شغل منصب وزير التربية. وكذلك رئيسا لإتحاد الكتاب. ساهم في الأيام الأخيرة من عمره في ربيع دمشقد موت الأسد الأب مباشرة، وكأنه استيقظ من سبات طويل ثم مات عام (2003) دون أن يساهم بفعالية في ربيع دمشق.
4- صدقي إسماعيل (1924-1972)
روائي وكاتب مسرحي سوري ولد في مدينة أنطاكية ضمن لواء اسكندرون، هاجر عبر الحدود في عام (1937) مع شقيقه الأكبر أدهم وباقي أفراد العائلة إلى مدينة حماة، ثم درس في مدارسها الثانوية، انتقل عام (1943) إلى حلب ونال شهادة البكالوريا الثانية قسم الفلسفة. التحق بعد ذلك بدار المعلمين (1945-1948) وتخرج منها (1948)، عمل مدرساً في حلب ودمشق، وعُيِّنَ أميناً للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عام (1968)، ساهم في تأسيس إتحاد الكتاب العرب عام (1969)، ثم ترأسها حتى عام (1971). كان في شبابه من المدافعين عن عروبة لواء الاسكندرون التي غادرها، بعد ضم اللواء إداريا وسياسيا إلى الجمهورية التركية عام (1937). كان من المثقفين القوميين التبشيريين، وكان من تلامذة زكي الأرسوزي، وكان يتردد في شبابه على نادي العروبة في انطاكية ليصغي الى زكي الأرسوزي، في تلك المرحلة العصيبة من تاريخ المشرق، من حيث التوتر بين الفرنسيين والأتراك، ومناصري الاستقلال المحلي.
اصدر كتابه الأول "رامبو: قصة شاعر متشرد". وفي تلك الفترة بدأ يخط مع عدد من اصدقائه وعلى رأسهم الشاعر سليمان العيسى صحيفته الساخرة "الكلب"، التي بقي يكتبها بيده ويوزعها على اصدقائه حتى وفاته (1972). هذا وكان قد شارك في الاربعينات في تأسيس حزب البعث العربي. إلا انه ابتعد عن مراكز صناعة القرار في الحزب، وركز عمله في الحقل الأدبي.
نشر في السنوات التالية "العرب وتجربة المأساة" (1963) ثم روايته الاولى "العصاة" (1964) فمجموعة "الله والفقر" (1970)، إلى جانب دراساته الأدبية والفكرية ومقالاته. على الرغم من حياته القصيرة نسبيا، أنجز صدقي إسماعيل العديد من الأعمال الفكرية والإبداعية والنقدية والمقالات والخواطر الصحفية والزوايا الإذاعية، في الفلسفة والتراث والموسيقى والفن والنقد والأدب والتاريخ وعلم النفس والديانات.
5- جلال السيد ( 1913- 1992)
كان ناشطا طلابياً وخطيباً مفوهاً، ثم صحفياً. ومتحمسا للقومية العربية منذ شبابه. اشترك جلال السيد في مؤتمر عصبة العمل القومي عام (1933)، ثم كان عضواً مؤسساً لحزب البعث، وهو أحد أربعة شكلوا حزب البعث بالإضافة إلى صلاح البيطار ومدحت البيطار وميشيل عفلق، وثمة رواية تبين أن: "اتخذ الأربعة المذكورون من أنفسهم لجنة تنفيذية لحزب البعث العربي وأعلنوا المباشرة بالتنظيم وقبول المنتسبين" وكان ذلك عام (1943). وأصبح أميناً لسر المؤتمر التأسيسي لحزب البعث إثر إعلانه عام (1947). انتخب نائباً عن دير الزور في المجلس النيابي السوري عام (1949)، كما تسلم حقيبة وزارة الزراعة، وشغل منصب نائب رئيس مجلس الوزراء في السنوات التالية.
نشر مقالاته في عدد من الصحف العربية أبرزها: الثقافة، البعث، الحضارة، الحياة، النهار، القبس، الأيام، الإنشاء وغيرها من الصحف والمجلات، كما أصدر عدة كتب: حقيقة الأمة العربية وعوامل تجزئتها، حزب البعث العربي، الحزب وعلاج مشكلة الأمة العربية، الوحدة العربية. وخلف بعد موته كتاب مخطوط بعنوان: الصراع بين العروبة والشعوبية. ومن المتوقع أن يكون في كتابه الأخير قد عبر عن خلاصة تجربته العملية في معاداة الكورد وكوردستان.
بعكس أهالي مدينة دير الزور الحضر كان جلال السيد "يرى أن القبيلة العربية هي التي تمثل حقيقة القومية العربية، فهي ما زالت مؤتمنة على الأخلاق العربية والتقاليد العربية". وانسجاما مع فكره وطروحاته النظرية، سعى وعمل كثيرا لتوطين البدو في سهول الجزيرة السورية، واستقطابهم من عمق بادية شمال الجزيرة العربية وبادية بلاد الشام، مع الملاحظة على أنه هو من كتب المادة المتعلقة بخلافات البدو وضرورة حل خلافاتهم الجانية تمهيدا لتوطينهم في الجزيرة، سنة (1946)، ضمن العدد الأول من جريدة "البعث".
لقد مثل جلال السيد دائما الجناح الأكثر يمينية وتطرفا في حزب البعث، وقد نجح في ترجمة يمينيته بشكل مباشر في معاداة الأكراد، بل تجاوز في ذلك المزايدات القوموية والحزبية، إذ ترجم مواقفه العنصرية الشوفينية على أرض الواقع، حيث شاركه فيها عدد من أبرز رجالات البعث والوزراء، خاصة شقيقه سعيد الذي كان أيضا وزيرا للزراعة، ونائبا لرئيس الوزراء محمد طلب هلال، اللذان يعدان المسؤلان الرئيسان عن طرد الفلاحين الكورد من قراهم، والاستيلاء على أملاك الملاكين الأكراد لصالح استقدام فلاحين عرب من خارج الجزيرة السورية. كما أن جلال السيد قد خطط وطبق عمليا إجراءات نقل آلاف العوائل البدوية ونصف الرحل من البادية ومنطقة "الشامية" لتوطينها في محافظة الحسكة. ولمعرفة المزيد من التفاصيل حول سياساته العنصرية في مجال الأرض والفلاح وأملاك الدولة، التي إنصبت على تعريب الجزيرة السورية، راجع (محمد جمال باروت، التكوين التاريخي الحديث للجزيرة السورية، بيروت 2013، ص722-723)، فبالإضافة إلى رصد وتوثيق سياسات الحكم في تغيير طابع الجزيرة السورية، بين الباحث باروت أن جلال السيد مثل الشخصية الشوفينية في سلطة الحكم بدمشق.
• النتائج والانطباعات العامة
1- صدرت "البعث" كمطبوعة مرخصة بعد جهد طويل دام حوالي ثلاث سنوات، طبع ووزع عددها الأول في 3 تموز 1946 م.
2- تبدو الجريدة في خطها الأولي ذات طابع أيديولوجي، تبشيري - تربوي، تهدف إلى الإصطناع والتأسيس لقومية عربية شمولية على النمط الأوربي.
3- ظهرت كأحد الجرائد الحزبية العلنية في صيغتها المدنية الجنينية.
4- يبدو أن التيار القومي العربي قد نشأ وبرز أولا من بين أوساط المثقفين والتربويين، وبالتالي يمكن الافتراض بأن هذا التيار قد تشكل نتيجة سيرورة تاريخية، تنشط وتفاعل مع الوسط والحاضنة الاجتماعية، على الرغم من ضيق مساحتها، زاوج الفكر القومي الأوربي مع التراث العربي، فجذور "العروبة السياسية" ليست سطحية، وهو فكر ليس مستوردا بالضرورة، ولا طارئا، إنما يعبر عن توجه وتخطيط شريحة مثقفة من العرب، ترجمة لأحلامهم وإرداتهم ورغبتهم السياسية في بناء مجد الأمة العربية وتحريرها، بصرف النظر عن الأصول العرقية البعيدة للشخصيات الحاملة للفكر العروبي.
5- ثمة تركيز شديد على التربية القومية ذات الطابع التبشيري التعبوي، إذ أن عدد المقالات التربوية التي نشرت في العدد الأول، هي خمسة من أصل سبع مقالات رئيسة، وهذا له علاقة بحقيقة أن أغلب مؤسسي جريدة البعث كانوا مدرسين، محاضرين وتربويون؟
6- معظم من بارك بصدور الجريدة، وخاصة الذين وردت برقياتهم في العدد الأول، هم من الطلاب، ويبدو أن أكثرهم كانوا من عائلات النخبة السنية، كعائلة الأتاسي، فلم يكن البعث العربي محصورا في الأوساط الأقلوية السورية عهدئذ، بل إستقطبت في البدء أيضا عائلات سنية بخلفية حضرية عثمانوية، كعائلة الأتاسي في حمص نموذجا، حيث أصبح لها مراكز قوى داخل البعث، لفترات طويلة.
7- إن فكرة إسكان وتوطين البدو في الجزيرة السورية، دعمهم ومساندتهم إقتصاديا من ميزانية الحكومة بحوالي عشرين مليون ليرة، وهو رقم فلكي بالنسبة للحكومة السورية الناشئة في ذلك العهد، أي في السنة الأولى من استقلال سورية ورحيل القوات الفرنسية عنها عام 1946، هو مؤشر ودليل على أن برنامج تعريب الجزيرة كان من صلب سياسات قطاعات واسعة من الطبقة السياسية السورية الحاكمة، بل والنخب السياسية والثقافية غير الحاكمة أيضا. فقد كانت أفكار التوطين والتغيير الديمغرافي للمناطق الكوردستانية التي إلحقت وضمت إلى سورية الناشئة موجودة ومستقرة ضمن أحلام وخطط العديد من القوميين العرب من بيئات مختلفة، حتى قبل أن يتسلم حزب البعث السلطة في عام (1963)، وذلك ولعا وحبا بعملية تأسيس ونشوء دولة متجانسة قوميا، صافية عرقيا. أبرز نموذج وعينة من بين الوسط القومي العروبي، كانا وزيري الزارعة سعيد وجلال السيد، إذ كان لهما دور فاعل ومؤثر في عمليات التعريب وإعادة التوطين، فضلا عن مصادرة وتوزيع الأراضي لأهداف عشائرية، وإعتمادا على الأيديولوجية الحزبية البعثية.
من جهة أخرى يبدو أن سياسات التوطين كانت أشبه بخطة ثقافية - أيديولوجية ذات طابع عفوي، متفق عليها من قبل قطاعات ونخب عروبية واسعة، هدفها التعريب الشامل، وخاصة للمناطق الكوردستانية التي إلحقت بسورية بين أعوام (1922- 1933)، حيث إندرج هذا المشروع الثقافي – السياسي في إطار منهج وخطة أكبر وجهد عملي لتحويل سورية المتعددة القوميات والأديان إلى اللون القومي الواحد، فالإهتمام والتغطية الإخبارية من قبل جريدة "البعث" بصراعات البدو على المراعي ورصد عمليات نزوحهم، وكذلك المؤتمرات التي حاولت حل خلافات العشائر حول أحقية عبور نهر الفرات والاستيطان في الجزيرة السورية، وكذلك نشر خبر نفقات التوطين المتوقعة والمقترحة، دليل على إهتمام شديد بهذا الملف الأيديولوجي - الاستيطاني السياسي شبه السري في ذلك العهد، وتأكيد على منهجية عمل التيار القومي العنصري العربي الصاعد، متمثلا ب"البعث العربي"، تجاه الكورد والأقليات الأخرى. إن فك أسرار هذه العمليات الاستيطانية المبكرة، مرتبط مع معرفة تاريخ وسلوك العديد من المنظمات، الساسة والشخصيات التي حكمت سورية، بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى عام (1918)، وصولا إلى الإنتفاضة السورية الراهنة.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً