فاجأ البنك المركزي التركي الأسواق مرة أخرى، حيث أقدم في الرابع والعشرين من هذا الشهر على خفض سعر الفائدة من 46% إلى 43%، في خطوة نحو تيسير السياسة النقدية. يأتي هذا القرار في ظل استمرار التضخم وعدم استقرار قيمة الليرة. وسيكون لهذا القرار تأثيرات ملحوظة على الاقتصاد الداخلي لتركيا، كما سيؤثر على دول الجوار والبلدان التي ترتبط اقتصاداتها ارتباطاً وثيقاً بالاقتصاد التركي.
يأتي قرار خفض الفائدة هذا الشهر بعد حملة لتشديد السياسة النقدية استمرت لعام كامل، تم خلالها رفع أسعار الفائدة بشكل كبير بهدف مكافحة التضخم وتحقيق الاستقرار في قيمة الليرة. ويشير هذا الخفض إلى أن تركيا قد بدأت بتغيير مسار سياستها النقدية.
تتزامن هذه الخطوة مع استمرار الضغوط السياسية والاقتصادية في تركيا، مما يوحي بأن المسؤولين في تركيا قد توصلوا إلى قناعة بأن سياسة التشديد النقدي وتكاليف الاقتراض المرتفعة لم تعد تخدم أهدافهم.
يبلغ سعر صرف الليرة التركية حالياً 40 ليرة مقابل الدولار الأميركي الواحد. ويشير الانخفاض المستمر في قيمة الليرة إلى وجود مشكلات عميقة في تركيا، مثل ارتفاع معدلات التضخم، والمخاطر الجيوسياسية، والمشكلات الاقتصادية الهيكلية. ويتوقع بعض الخبراء الاقتصاديين أن تشهد قيمة الليرة مزيداً من الانخفاض بحلول نهاية هذا العام.
في تصريح خاص لشبكة رووداو، حذر الخبير الاقتصادي والكاتب التركي البارز، مصطفى سونماز، من انخفاض أكبر في قيمة الليرة، عازياً السبب إلى المخاطر الداخلية والإقليمية. وقال سونماز: "من المتوقع أن يصل سعر صرف الدولار إلى 44 ليرة تركية بحلول نهاية العام، لكن هذا يعتمد على التطورات السياسية".
وأضاف الخبير الاقتصادي أن خفض أسعار الفائدة سيدفع الناس إلى شراء الدولار، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والبضائع.
"ستدفع المخاطر السياسية الناس إلى شراء العملات الأجنبية والاحتفاظ بها كملاذ آمن لحماية أنفسهم من عدم استقرار العملة الوطنية. وهذا سيزيد من ارتفاع الأسعار، ومن المحتمل أن يمتد تأثيره إلى إقليم كوردستان أيضاً".
إن تغيير توجه البنك المركزي التركي نحو سياسة نقدية أكثر تساهلاً يثير العديد من المخاوف المترابطة. فأسعار الفائدة المنخفضة تقلل من تكلفة الاقتراض وتشجع على زيادة الإنفاق، مما قد يحفز النمو الاقتصادي. ولكن في بلد يعاني منذ فترة طويلة من التضخم المرتفع، فإن مثل هذه السياسة تحمل في طياتها مخاطر تفاقم انخفاض قيمة العملة الوطنية وتآكل القوة الشرائية للمواطنين. كما أن استمرار انخفاض قيمة الليرة يمكن أن يرفع تكاليف الاستيراد، ويزيد من حدة التضخم، ويقوض جهود الحكومة لاستعادة ثقة المستثمرين.
وعلى المستوى الإقليمي، يُراقب هذا الوضع عن كثب. يقول شكري جميل، رئيس غرفة تجارة دهوك: "على الرغم من محاولات الحكومة التركية لاستبدال الدولار الأميركي باليورو في التبادلات التجارية، لا يزال 95% من تجارتنا مع تركيا يتم بالدولار الأميركي. لذلك، فإن تأثير خفض سعر الفائدة في تركيا على تجارتنا الثنائية محدود. فنحن مستوردون أكثر من كوننا مصدرين".
من جهته، يشير الدكتور حامي صالح، الخبير في التجارة الدولية، إلى أنه "على المدى القصير، قد يكون ضعف الليرة في مصلحة مستوردي إقليم كوردستان"، لكنه يحذر من أنه "على المدى الطويل، يمكن أن يرفع التضخم داخل تركيا، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والبضائع التركية، وفي النهاية يلحق الضرر بمستوردي إقليم كوردستان".
ويضيف الخبير أن ثقة المستثمرين قد تضررت أيضاً: "المستثمرون الكورد الذين استثمروا في الماضي في قطاع العقارات التركي بهدف الحصول على حق الإقامة أو الجنسية التركية، يشعرون الآن بخيبة أمل. فالانخفاض المستمر في قيمة الليرة التركية قد قلّص من قيمة العقارات التي اشتروها، هذا إن لم يكونوا قد تكبدوا خسائر. علاوة على ذلك، أدت التغييرات في قوانين الإقامة والجنسية في تركيا إلى إضعاف ثقة المستثمرين الأجانب بشكل أكبر".
يؤكد مصطفى سونماز أن "تطورات الشرق الأوسط، وخاصة التوترات المتعلقة بالحكومة السورية الجديدة، ستؤثر على قيمة الليرة التركية. وعلى الصعيد الداخلي، فإن التوتر الناجم عن عمليات الحكومة ضد حزب الشعب الجمهوري (CHP) قد خلق مخاطر تهدد الاستقرار الاقتصادي".
إن ما يبعث الأمل في تحقيق الاستقرار في تركيا هو العملية التي بدأت بين الدولة وحزب المساواة وديمقراطية الشعوب (DEM Parti) بشأن القضية الكوردية، بعد قرارات وخطوات عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني. لقد نتج عن هذه الخطوات التي اتخذها أوجلان والدولة فيما يتعلق بالكورد هدوء داخلي وتحسين لصورة تركيا في الخارج. وإذا أدت هذه الخطوات إلى استقرار دائم، فسيكون لها انعكاسات كبيرة على الاقتصاد التركي.
تتفق البنوك العالمية مثل غولدمان ساكس مع المخاوف المتعلقة باستقرار قيمة الليرة. ويتوقع غولدمان ساكس أنه إذا لم يتم رفع أسعار الفائدة مجدداً واستمر عدم الاستقرار السياسي، فقد يرتفع سعر صرف الدولار إلى 44.5 ليرة بحلول نهاية عام 2025. كما يتوقع جي بي مورغان أنه إذا عاد التضخم إلى ما يقارب 50%، فإن سعر الدولار سيصل إلى 45.2 ليرة في أوائل عام 2026. أما بنك HSBC فلديه نظرة أكثر تشاؤماً، حيث يتوقع أنه في حال استمرار السياسة النقدية المتساهلة وعدم حماية احتياطيات النقد الأجنبي كما يجب، فقد يصل سعر الدولار إلى 46 ليرة.
تشير هذه التوقعات إلى أنه ما لم يتحقق الاستقرار السياسي في تركيا، وما لم تتم السيطرة على التضخم بشكل كبير، وما لم تتم استعادة الثقة في العملة الوطنية، فإن انخفاض قيمة الليرة سيستمر.
تقف تركيا عند منعطف اقتصادي حاسم. قد يخفف العودة إلى سياسة خفض أسعار الفائدة من الضغوط المالية على المدى القصير، لكنه ينطوي على مخاطر عودة التضخم وزيادة ضعف الليرة. ومع انخفاض قيمة الليرة، لن يشعر بتداعياتها المواطنون والشركات التركية فقط، بل ستؤثر أيضاً على التجار والمستثمرين في دول الجوار، بمن فيهم تجار إقليم كوردستان.
*مسؤول الديسك الاقتصادي في شبكة رووداو الإعلامية
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً