تُعدّ انتفاضة تشرين المجيدة واحدة من أعظم الثورات المدنية في تاريخ العراق الحديث، لأنها لم تكن مجرد احتجاج عابر، بل كانت صرخة شعب كامل يرفض الاستبداد والفساد والظلم السياسي والاجتماعي، وكانت الثورة سلمية بالكامل، ومكفولة وفق الدستور العراقي، مما يوضح طبيعتها المدنية وحق المواطنين في التعبير عن مطالبهم. 
في خريف عام 2019، خرج آلاف الشباب العراقيين إلى الشوارع والساحات، حاملين الورود والأعلام، مطالبين بحقهم الطبيعي في حياة كريمة ووطن عادل. لم يكن في أيديهم سوى هذه الرموز البسيطة، لكن قلوبهم كانت مليئة بالإصرار والعزيمة على التغيير الحقيقي.
واجه هؤلاء الشجعان مقاومة شرسة من بلطجية بعض الأحزاب، الذين لم يتورعوا عن استخدام الرصاص الحي، والتهديد، والاعتقال التعسفي لقمع هذه المطالب المشروعة. سقط منهم الشهداء، واضطر آخرون إلى الهجرة خارج العراق أو النزوح إلى مدن إقليم كوردستان، حفاظاً على حياتهم. هذا الواقع المؤلم لم يمنعهم من رفع صوتهم، وكان شعارهم البسيط "نريد وطن" يعكس جوهر مطالب الشعب العراقي في الحرية والكرامة.
للأسف، لم تُستثمر هذه الانتفاضة العظيمة لإصلاح العملية السياسية أو القضاء على الفساد المستشري في مؤسسات الدولة. على العكس، شُكّلت لجان، ومارس التسويف والمماطلة، كما اعتاد العراقيون على ذلك، تاركةً مطالب الشعب بلا تنفيذ، وحقوق الشهداء والمضطهدين منسية على رف التاريخ.
وما زاد الأمر وجعاً، انزلت بعض الجهات بحق فرسان انتفاضة تشرين تهماً ما أنزل بها من سلطان، محاولةً تشويه تضحياتهم وتقليل أثر صرخاتهم المشروعة في وجه الفساد والاستبداد. هذه الأفعال لم تكن إلا دليلاً إضافياً على أن السلطة لم تتغير، وأنها مازالت تحافظ على مصالحها على حساب المواطن العادي.
وإن استمر الحال على ما هو عليه الآن، فليس بعيداً أن يشهد العراق ثورة جديدة، ثورة الجياع. فالمعطيات على الساحة السياسية والاجتماعية تشير بوضوح إلى أن الشعب لم يعد قادراً على احتمال المزيد من التهميش وسوء الإدارة، في ظل ديمقراطية شكلية قائمة على هدر كرامة المواطنين وسفك دمائهم، لا خير فيها.
هذه الذكرى ليست للتوقف عند الألم والحزن فقط، بل هي رسالة حية للأجيال القادمة: أن الوطن يحتاج إلى وعي الشعب وإصراره على المطالبة بحقوقه، وأن التغيير الحقيقي لا يتحقق إلا بالمثابرة والنضال السلمي، بالوعي والإرادة الصادقة، لا بالشعارات الفارغة أو الوعد الكاذب.
تظل انتفاضة تشرين نموذجاً خالداً للشجاعة والكرامة، ودرساً لكل من يحاول القفز على حقوق المواطنين، أو التلاعب بمستقبل العراق. فهي تذكير بأن الشعب العراقي لا يرضى بالذل، وأن إرادته أقوى من أي قوة قمعية، وأن المطالبة بالحرية والعدالة ليست خياراً، بل واجباً على كل مواطن يحلم بوطن حقيقي.
وتحية ألف تحية لفرسان تشرين، والمجد والخلود لشهدائها الأبرار.
 
     
					 
                                                                                 
                                             
                                                 
                                                 
                                                 
                                                
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً