لم يخرج مؤتمر المناخ التابع للأمم المتحدة في نسخته التاسعة والعشرين، الذي عُقد في عاصمة أذربيجان، باكو، باتفاقات مبهرة كما كان متوقعاً، خصوصاً وأن النسخة ألزمت نفسها بوعد التمويل، ونقصد بالتمويل هنا، توجيه المبالغ باتجاهات معينة، نحو المجتمعات المتضررة من التحولات السلبية والكارثية جرّاء التغير المناخي، والشرائح المهجّرة لنفس السبب، والمنظمات العاملة في قطاعات الإغاثة والتوعية ورسم المشاريع بهدف التقليل من الأضرار، وكذلك إلى المشاريع الداعمة للتحول نحو الطاقة النظيفة.
كل التوقعات انهارت بسبب ضعف المفاوضات في باكو، والكثير من المشاكل والملاحظات السلبية على الإدارة الأذربيجانية صدرت عن منظمات كانت حاضرة، كما أن منظمات أخرى انسحبت بعد الأسبوع الأول من عقد المؤتمر. كانت الأجواء مفضوحة بشأن تهرّب دول الشمال من الالتزامات المالية تجاه الأزمة المناخية، مع أنها أكثر الدول التي أدت إلى تدهور المناخ وتردي الوضع البيئي في العالم، وأنها لم تكن مستعدة للتنازل ولو بنسب قليلة، وتحديداً في مجال تقليل الانتاج والصناعة المعتمدة على الوقود الأحفوري، الذي يمثل النفط والغاز المستخرج، بالإضافة إلى الصناعات البلاستيكية.
كانت الأصوات عالية من نشطاء البيئة والمناخ والصحافيون، والمنظمات ذات الصلة، وقد شهد المؤتمر تظاهرات وتصعيد سلمي غير مسبوق على مستوى مؤتمرات المناخ السابقة، كان المتظاهرون يهتفون ضد دول الشمال، والدول الصناعية بشكلٍ عام، والدول التي تدعم الحروب بعشرات الترليونات من الدولارات لكنها تخشى التبرع والمساهمة في إنقاذ العالم من "الإبادة الجماعية" كما وصفوها. لقد شهد مؤتمر المناخ في باكو عبارات سياسية، وهذه العبارات لم تكن لتصدر لولا الفشل الكبير من الأطراف الفاعلة والكبيرة في المؤتمر، وأبرزها الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي لم تحدد شكل العطاء الذي تمنحه للعالم الأخضر.
توصل المؤتمر في النهاية إلى رفع مبلغ المتفق عليه في القمة الثامنة والعشرين في دبي، التي كانت تقدر بـ100 مليار دولار، إلى 300 مليار دولار، وهذا الرقم رغم صعوبة التوصل إليه في نهاية المفاوضات، إلا أنها لا تمثل أي شيء تجاه الأزمة العالمية، لقد تنصلت كل الدول الكبيرة ذات الاقتصادات العظمى في أن تكون مساهمة في سلامة دول جنوب العالم، مع العلم أن المطالبات في العام الماضي تدعو إلى رفع المبالغ إلى ستة أضعاف، وأكثر أيضاً، لكن يبدو أن الدول الصناعية لا تفكر سوى في الأرباح الآنية والسريعة، ولا تكترث للانفجارات البيئية والمناخية المستقبلية، لأن العالم أمام كارثة حقيقية خلال العقدين المقبلين.
يمكن القول إن إخفاقات حقيقية جرت في المفاوضات، كان أبرزها عدم اهتمام دول الشمال لما يحصل في دول الجنوب، وظهر أن الوفود الغربية لا تشعر بما يمر على المنطقة الجنوبية من العالم. إنها لا تريد تحمل عبء مواجهة تغير المناخ الذي حدث بسبب الصناعات الكبرى والاعتماد شبه الكلي على الوقود الأحفوري، كما أن مزاعم ميثاق الكومنولث في شأن "الحرص على الدول الأكثر عرضة للمخاطر" تبدو جوفاء لمن هم على خط المواجهة مع أزمة المناخ. كنّا كصحفيين نرى بوضوح التهاون وعدم الاكتراث إلى المصائب الهائلة في مناطقنا العربية، ومنها العراق.
تحالف الدول النامية، لم يقبل بتخصيص 250 مليار دولار سنوياً للدول الفقيرة لمكافحة تداعيات المناخ، والكارثة في مثل هذه الجدلية، أن كثيراً من الدول النامية هي منتجة للنفط والصناعات النفطية، أي أنها مساهمة بشكلٍ بسيط في إحداث التغير المناخي السلبي على الحياة، لكن بسبب سوء إدارة الأموال والفساد المالي والإداري فإن هذا الدول تبقى في خانة الدول الغنية بالنفط لكنها نامية في الوقت ذاته، وهذه الجدلية تنطبق على العراق، بالتالي فإن العراق يريد أن يستفيد من الأموال الممنوحة، لكن في الوقت ذاته هو متهم بأنه يعتمد على الوقود الأحفوري، فكيف يمكن حل هذه الإشكالية؟ الجواب هو بالاعتماد التدريجي على الطاقة النظيفة. وهذا الحال ينطبق على المملكة العربية السعودية وأذربيجان أيضاً.
كانت مسودة الاتفاق المالي التي كانت دول جنوب العالم في التوصل إلى اتفاقٍ بشأنها، جمع ما مجموعه 1.3 تريليون دولار سنوياً بحلول عام 2035 تُخصص للدول النامية، على أن يشمل هذا المجموع حصة البلدان المتقدمة ومصادر التمويل الأخرى مثل الصناديق الخاصة أو الضرائب الجديدة، لكن لا أمل في ظل دول تصر على عدم منح المتضررين نسبة من مكاسبها الكبيرة من تدمير العالم. علماً أن المطالب المنطقية للدول النامية، وقد رُفضت بالفعل، لا تمثل أكثر من 1 بالمائة الناتج المحلي الإجمالي العالمي. "هل هذا كثير جداً لإنقاذ الأرواح؟"، كانت هذه الجملة ترفعها شابة في وقفة احتجاجية داخل المؤتمر.
من غير المنطقي أن تواصل الدول الغنية رفع اقتصاداتها على حساب سكان جنوب العالم، حان الوقت إلى تغيير آليات الانتاج، والتوجه نحو الطاقة النظيفة، العالم ينهار أمام تحديات المناخ، وهناك مئات الملايين في العالم بلا مأوى بسبب النزوح المناخي، وهذه الأعداد في ازدياد، فهل يعقل ألا تنتبه الولايات المتحدة لهذا الأمر، هل تمويل الحروب وقتل وتدمير العالم أم من إعادة البناء الأخضر وخلق حياة نظيفة، حان الوقت لتغيير شكل قيادة العالم الذي صار يرفضنا يوماً بعد آخر. وفي كثيرٍ من الدول صار من الواجب إعادة ترسيم الحدود بين السكان الأصليين والنازحين بسبب التغير المناخي، وهذا يعني أننا العالم مقبل على تغيرات ديمغرافية، وتهديدات أمنية حقيقية، بالتالي فإن الحل يتوفر في تسريع التحول العادل في مجال الطاقة.
كما من المفترض، أن تُسرع عجلة الاتفاقات حول خفض إنتاج البلاستيك وخلق حالة جديدة لإدارة النفايات والاقتصاد المعتمد على التدوير، وتفعيل اتفاقات التلوث البلاستيكي، خصوصاً وأن 99 بالمائة من المواد البلاستيكية مصنوعة من مواد كيميائية مشتقة من الوقود الأحفوري. قلنا في مؤتمر المناخ، إن استمرار إنتاج البلاستيك لن يؤدي فقط إلى تسريع فقدان التنوع البيولوجي وتدمير النظام البيئي، بل سيعرض الإنسان والحيوان والنبات أيضاً، إلى تعرض سلامة الغذاء للخطر، وتهديد مستقبل المياه.
ويمكن التوصل إلى معاهدة حظر انتشار الوقود الأحفوري عبر اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ ومن خلال توفير إطار شامل للتخلص التدريجي من جميع أنواع الوقود الأحفوري، لكن هذا الأمر يحتاج إلى جدية كبار الأطراف في المؤتمر، وأظن أن هذا لن يحدث في القريب العاجل، لأن الاستخفاف بالتغير المناخي ما يزال راسخاً في أذهان بعض الدول، ولعل الولايات الأميركية واحدة منها، وكذلك الصين. لكن هذا الحديث لابد أن يتحقق في مؤتمر الأطراف الثلاثين، الذي سيُعقد في البرازيل.
ولا أعرف أن من المضحك أم من المبكي، أن النسخة المقبلة من مؤتمر المناخ في البرازيل، كيف لها أن تعقد والدولة المستضيفة تعمل على زيادة إنتاجها من النفط، وعضويتها في منظمة أوبك تثبت ذلك، ولا يبدو أنها تنوي التوجه نحو الطاقة النظيفة، وتبدو الأمور تسير باتجاهات عبثية غير اعتيادية، لكن هذا لا يعني أننا سنكف عن النضال، بل أنه يستمر لأجل تحقيق العدالة المناخية ومنع انهيار العالم والإبادات الجماعية.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً