هل لنا أن نذَكر بأن الثقافة خُلقت فوق هذه الأرض.. أرض وادي الرافدين، وأن أول حرف خُط في أور السومرية، وأن أول شاعرة وكاتبة في التاريخ هي (إنخيدوانا) أو (إن-هيدو-انا)، و(إن) معناها الكاهن أو الكاهنة الأعلى، و(هيدو) معناها زينة، وتعني زينة الكاهن الأعلى للإله آن، وهو اسم يشير إلى الإله نانا سين إله القمر. وكانت أميرة أكدية، ابنة الملك سرجون الأكدي، واعتبرها علماء الآثار والأدب والتاريخ أقدم امرأة كاتبة وشاعرة حب.
وأن (جلجامش) هو ملك تاريخي أسطوري لدولة الوركاء السومرية، وبطل مهم في أساطير بلاد ما بين النهرين القديمة، والشَخصية الرئيسية في ملحمة (جلجامش)، أول قصيدة ملحمية في التاريخ، كُتبت بالأكدية خلال أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد.
وأن ﺴﺒﺎر القريبة من بابل، ﮐﺎﻨت مدينة جامعية وتضم مدارس ومكتبات ومطابع للألواح المكتوبة باللغة الأكدية، وكُتب على بابها "يسمح بالدخول للكهنة (المعلمون) والطلبة فقط، ويمنع دخول الجيش"، وجرى فيها حملة إعادة كتابة التاريخ، وكان الملك الآشوري آشور بانيبال يبعث بكتّابه وكهنته للدراسة هناك. وذﮐـرت في إﺜﺒﺎﺘﺎت اﻟﻤﻟوك اﻟﺴوﻤرﻴﺔ.
وأن السومريين هم أول من عرفوا الموسيقى وصنعوا القيثارات السومرية الموجودة حالياً في المتحف البريطاني وسط لندن، وعزفوا عليها، والملك حمورابي أول من سن القوانين المدنية، وأن سكان ما بين النهرين أبدعوا في النحت، وخاصة (الثور المجنح) الذي يسمى بالكتابات الآشورية (شيدو لاموسو)، وهو أروع ما أبدعه النحت في تاريخ الإنسانية.
ونستطيع أن ندون هنا الآلاف من الشواهد التي تؤكد بالأدلة الملموسة والعلمية بأن الحضارة بدأت فوق هذه الأرض، وأن الإنسانية لم تكن تعرف معنى الثقافة والكتابة والقراءة والموسيقى والنحت وفنون العمارة بدءاً بالزقورة والجنائن المعلقة والمدرسة المستنصرية في بغداد والملوية وقصور سامراء، وأن تمجيد الحب لم يكن معروفاً إلا هنا، حيث كان للحب آلهة اسمها عشتار.
اليوم يبرهن المبدعون العراقيون بأنهم سليلو هذه الحضارات، والورثة الحقيقيون لإنجازاتهم الإبداعية في الكتابة والشعر والفنون التشكيلية والموسيقى والعمارة، وباقي فنون العصر، وتتشرف الميادين الثقافية في العالمين العربي والغربي بعرض أعمالهم واستضافتهم وتكريمهم.
في الأمس كرّمت قمة الإعلام العربي، التي احتضنها نادي دبي للإعلام، الصحفي والكاتب فخري كريم، بمنحه جائزة شخصية العام الإعلامية، وقبل ذلك بأشهر منحت دبي الفنان ضياء العزاوي لقب نابغة العرب، وأشادت أبو ظبي بجهود الباحث رشيد الخيون في تحقيق التراث ليحصل على جائزة الشيخ زايد، وفي لندن افتتح معرضاً مهماً للفنان التشكيلي العراقي علاء بشير تحت عنوان (المنفذ)، ما يزال، وكما معارضه التشكيلية السابقة، يثير الأسئلة والسجالات، وفي مجال السينما حصل المخرج العراقي حسن هادي في أول مشاركة للعراق بمهرجان كان السينمائي على جائزتي، الكاميرا الذهبية، وجائزة الجمهور للمخرجين، عن فيلمه (كعكة الرئيس)، كما سيعرض في ذات المهرجان الفيلم العراقي (سعيد أفندي) المنتج عام 1959. دون أن ننسى الشواهد المعمارية الرائعة والموزعة في عدد من مدن العالم والتي تحمل توقيع الراحلة زها حديد.
المبدعون الكورد لهم إسهامهم الفاعل في التأسيس للثقافة العراقية، يأتي في مقدمتهم الشاعر الراحل شيركو بيه كيس، والتشكيليان الراحلان محمد عارف وإسماعيل خياط.
وفي بغداد تتحقق إنجازات إبداعية كثيرة ومهمة، بدءاً بالعروض الموسيقية لفرقتي (التراث الوطني) و(سومريات) التي أسسها ويقودها المايسترو علاء مجيد، إلى الفن التشكيلي حيث كان آخر معرض (ضد الكسر) الذي أقيم على صالة (ذي كاليري) وشارك فيه 10 فنانين من العراقيين العرب والكورد، بينهم التشكيلية الكوردية چیمەن إسماعيل. كما تقام مهرجانات للسينما والمسرح، وتُعاد صيانة مواقع تراثية هي جزء من التاريخ الثقافي لبغداد، يقف وراءها الشاعر المبدع عارف الساعدي المستشار الثقافي لرئيس مجلس الوزراء، الذي يحرص على اقتراح المشاريع الإبداعية ودعمها والعمل على إنجازها بتميز، وبدعم من دولة الرئيس محمد شياع السوداني الذي برهن حرصه على الإبداع والثقافة ككل من خلال مساندته لهذه المشاريع ولقاءاته بالمبدعين وتخصيص ميزانيات كبيرة لدعم الدراما والسينما.
نحن نتحدث هنا عن العراق الثقافي.. عن جمهورية إبداعية أُسست قبل 7 آلاف عام وأدامتها أجيال من المبدعين حتى اليوم، جمهورية بعيدة عن العراق السياسي والبرلماني الذي لم يحافظ على العراق كما كان وكما نريد، جمهورية العراق الثقافية نفخر بها وبأعمدتها ومبدعيها من كل الأجيال والقوميات والأديان.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً