وداعاً إدلب.. الكلمات الأخيرة قبل العاصفة

26-07-2018
قصي أسعد
الكلمات الدالة إدلب العاصفة الكلمات الأخيرة
A+ A-

لم أكن يوماً أعيش في محافظة إدلب، ولدي حالة كبيرة من الشك بأنني أنتمي لثقافتها الشعبية، رغم قضائي ثمانية عشر عاماً في إحدى بلداتها، وأستطيع القول إنني كنت أشبه بـ"ساوند تراك" خلفية موسيقية للحياة اليومية هناك، وهو ما يجعلني بطبيعة الحال أكثر الناس بعداً وقرباً منها بنفس الوقت.

أتذكر جلياً يوم غادرت قرية "النيرب"، في أغسطس 2012، وقتها قابلت أبناء حارتي في الشارع وهم كعادتهم يقضون الليل وهم يسيرون باتجاه الوادي المنخفض بين "سرمين" و"النيرب"، حيث تنخفض درجات الحرارة قليلاً بفعل عوامل الطبيعة وغياب أضواء عواميد الإنارة التي تزيد من حرارة الطقس بفعل الإشعاعات المنبعثة، في تلك الليلة لم أنم ودخلت المسجد القريب من منزلنا قبل أذان صلاة الفجر بنصف ساعة، فوجدت إمام المسجد في حالة شجن داخل مقصورة المسجد ينشد "ترويقة الفجر" مقتبساً أشعاراً من قصيدة نسيم الوصل للشاعر الصوفي علي العمر الجمل:

إذا ما عاينوا الساقي تجلى .. وأيقظ في الدجى من كان ناما
وناداهم عبادي لا تناموا .. ينال الوصل من هجر المناما

كانت هذه آخر الكلمات التي أنشدها في ذاك الوقت قبل أن تشهد "النيرب" حالة نزوح جماعية مع شروق صباح اليوم التالي.

يقولون إن في إدلب تنشط أعتى مخابرات دول العالم، وعلى قرية "النيرب" تسيطر "جبهة النصرة" أخطر ثاني تنظيم في العالم بعد "داعش" الشيطان الأكبر، والذي اتخذ من مدينة "سرمين" مؤخراً مقراً ومركزاً لدولته، أستطيع القول إن الوادي الذي كان يستجم فيه رجال قريتي مع زوجاتهم في 2012 والذي يصل ما بين "النيرب" و"سرمين" على مسافة 500 متر، صار بمثابة حدود تفصل بين أخطر تنظيمين في العالم كما تتناقل وسائل الإعلام.

هذه الصورة المرعبة دعتني أستبعد زيارة هذا الوادي عندما قررت الذهاب إلى إدلب في عام 2014 عندما دخلت من معبر "باب الهوى" عبر تركيا آتياً من مصر، وآثرت وقتها المكوث في بلدة "حفسرجة" قرب "معرة مصرين".

"حفسرجة" بلدة جميلة جداً، صغيرة المساحة، تقع على سفح جبل مكسو بأشجار الزيتون وتطل على سهل الروج، وهذه كانت زيارتي الأولى لها صحبة صديق من أهلها كان قد غادر مصر بعد أن أنهى دراسة الماجستير في فرع الفنون الجميلة بجامعة القاهرة، عندما وصلنا ليلاً دعانا أحد أقارب صديقي لوجبة "ورق عنب مع لحم ضان مسلوق" واستقبلنا بحفاوة كبيرة، وحقيقة لم أرَ ببشاشة وجهه خلال سنتين من الغربة، طاقة غريبة شعرت بها خلال إقامتي بـ"حفسرجة"، وكأنني للمرة الأولى أدرك هذا الحد من الطيبة والتراحمية، وأتناول وجبة طعام بهذه اللذة.

وحقيقة أستطيع أن أقول إن ما يميز محافظة إدلب هذا الخليط الذي يجمع بين حالة التمدن الحضاري وتراحمية بيئتها الريفية، وأستطيع أن أشبه إدلب بطابعها التراحمي بمدينة "دمنهور" المصرية مسقط رأس الكاتب المصري عبدالوهاب المسيري، الذي فرق في كتابه "رحلتي الفكرية" بين المجتمع التراحمي وعلاقاته القائمة على التراحم والتعاطف بين أفراده، وبين المجتمع التعاقدي والذي تقوم العلاقات فيه على أساس تعاقدي ومصلحي. 

عندما كنت في قرية "النيرب"، كانت سيدات قريتي يهتممن كثيراً بلياقتهن البدنية فكن يمارسن رياضتهن الصباحية على طريق الرابية بين محاصيل القمح وأشجار الزيتون والعنب والتين، حتى أن هذا الطريق الزراعي الأنيق كان يغص بالسيدات والفتيات في ذهاب وإياب عند الساعة السادسة صباحاً، معظمهن يحاولن العودة قبل شروق الشمس حفاظاً على بشرتهن، وأستطيع أن أقول إن أجسام سيدات قريتي كعارضات الأزياء ولباس إحداهن يتجاوز ثمنه مرتب والدي الشهري في معمل الغزل والنسيج، أما في الصيف فهذه القرية كانت تعج بالسيارات الفارهة القادمة من دول الخليج، لدرجة فقدت فيها حالة الانبهار عندما وصلت دبي، فمعظم أنواع هذه السيارات -حتى "اللمبرغيني"- كنت قد شاهدتها في شوارع قريتي.

في قريتي أيضاً وفي الفترة الأخيرة تحديداً، كانت العائلات تتنافس من خلال أبنائها في مجال التعليم، أذكر أن عدداً منهم باعوا أراضيهم من أجل أن يغطوا تكاليف دراسة أبنائهم في الجامعات الخاصة كجامعة "القلمون" بداية والجامعات الأخرى التي انتشرت فيما بعد على طريق دمشق – درعا فيما بعد والتي كانوا يقصدونها من أقصى الشمال لأقصى الجنوب.

عندما انتسبت لكلية الإعلام في دمشق، ظننت أنني الممثل الوحيد لهذه المحافظة، قبل أن تذكر لي موظفة في مكتب التسجيل "أليس غريباً أن أعداد المنتسبين من محافظة إدلب يتجاوز ضعفي المنتسبين من محافظات حلب وحمص وحماة مجتمعة!".

ولم أكن أرَ بطبيعة الحال أن أعداد المنتسبين في الجامعات الحكومية أو الخاصة مقياساً لدرجة الوعي، فربما ما كان يحكى حول ارتفاع أعداد طلاب إدلب في جامعة حلب لدرجة تفوق أعداد طلاب أبناء المدينة ذاتها قد يكون صحيحاً ليس لدي معلومات حول هذا الموضوع، ولكن عدد كبير من هؤلاء يكملون تحصيلهم العلمي في أوروبا ويحققون تقدماً في مجالات مختلفة.

خلال وجودي في الإسكندرية، كان مركز "جيزويت" الثقافي يعقد ندوة لمناقشة كتاب جديد في يوم الاثنين من كل أسبوع، إحدى هذه الأسابيع أعلنت "جيزويت" عن مناقشة كتاب "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، ولم أكن أعي حقيقة هذه الهالة التي تحيط بأبي العلاء المعري بالنسبة لمثقفي الإسكندرية ولم أدرك أيضاً مدى ارتباط أبي العلاء المعري بمدينة "معرة النعمان" في إدلب، واحتمالية بزوغ أحد أهم الكتب الأدبية والنقدية في تاريخ الأدب من هذا المكان من "معرة النعمان" حيث كتب المعري روائع قصائده والتي دعته بطبيعة الحال مدعاة للعجب خلال ساعتين من هذه الندوة.

أبو العلاء بالنسبة لي وبعد ما تعمقت في كتاباته أشبه بظلال لإدلب، لم يطرح نفسه كحدث لهذه المحافظة، ولم يكن يطمح بأن يكون له تمثال وسط مدينته بمعرة النعمان، هذا التمثال الذي أسقط على أيدي بعض المتطرفين.

ما يحدث الآن في إدلب وما يذاع عنها ربما يصعب نفيه أو تكذيبه على أقل تقدير، بضع مئات من "الصعاليك" يتصدرون المشهد ويقررون مصير أكثر من مليوني نسمة، هؤلاء الذين يعيشون حياتهم الآن بشكل تراحمي وحضاري كما كانت تعيش سيدات قريتي عندما كن يهتممن برشاقتهن قبل أي شيء.

لماذا أذكر كل هذا؟.. أود أن أوثق جانباً من جوانب حياة هذه المحافظة قبل أن تُساق إلى الجحيم على أيدي الروس أو الأتراك أو المتطرفين أو لربما يحدث الله أمراً وتعود لأهلها ووقتها سأسأل كل الناجين من أبناء هذه المحافظة كما سأل أبو العلاء المعري في كتابه رسالة الغفران: "بم غفر الله لك؟".

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الإعلامية‬‬‬.

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب