رحلة إلى شمال كوردستان.. حين لم يكفني قلبٌ واحدٌ وعينان!
أحياناً، يشعر المرء أن عينين لا تكفيانه، فيتنهد قائلًا: "آه، ليت لي أربع أعين". هناك أسفارٌ لا تُقطَع بالأقدام، بل بالقلوب والمشاعر؛ ولا تُرى بالعيون، بل بالروح والفؤاد.
تجاوز عدد الموظفين الذين تم تعيينهم في القطاع العام العراقي خلال عام واحد وأصبحت نفقاتهم تقع على عاتق وزارة المالية، المليون شخص، وذلك عدا عن عدد الأشخاص الذين أُضيفوا إلى الرعاية الاجتماعية خلال نفس الفترة.
لامتصاص نقمة الشباب وإرضاء لمطالب الشباب الذين يشكلون ما يقارب ثلث العراقيين، لجأت الدولة في السنوات الأخيرة إلى توظيفهم، وازداد هذا الاتجاه عاماً بعد عام، بحيث بلغ إجمالي عدد الموظفين في العام 2015 3027069 موظفاً، لكن بعد عقد من الزمن بلغ العدد 4074697 موظفاً، ووفقاً لمصروفات وزارة المالية على الرواتب، فقد تم في العام الماضي إضافة أكثر من مليون موظف جديد.
وتعني زيادة هذا العدد زيادة نفقات التشغيل وتقليص نفقات الاستثمار في العراق، ولهذا السبب خلال تلك الفترة من 2015 إلى 2024، زادت النفقات السنوية على الرواتب خلا نفقات الرعاية الاجتماعية - والتي هي أيضاً رواتب - بمقدار 27.4 تريليون دينار، ووصلت في العام الماضي إلى أكثر من 60 تريليون دينار.
هذه الأرقام متاحة في تقارير وزارة المالية العراقية سنوياً عندما يكون هناك قانون موازنة، لكن المهم هو لماذا تزيد في سنة وتقل في أخرى، وفي أي قطاع تزيد، وإذا كان العراق بحاجة حقاً إلى هذا العدد من الموظفين، فلماذا تقل أعدادهم عندما تقل أموال النفط؟ ما هي التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذه الزيادة في نفقات التشغيل، وبضمنها نفقات الرواتب والرعاية الاجتماعية في العراق؟ هنا، سنتتبع بيانات العراق في عقد واحد، ونقف على الجوانب المختلفة لإدارة الاقتصاد العراقي، وفي هذا الجزء نسلط الضوء على زيادة عدد الموظفين ونفقات التشغيل.
وفقاً لقانون الموازنة 2023-2025، بلغ عدد الموظفين بجميع المؤسسات والوزارات والمحافظات 4074697 موظفاً، وبلغ المبلغ الإجمالي المنفق في ذلك العام 47.2 تريليون دينار، لكن في 2024 وصلت نفقات الرواتب إلى 60 تريليون دينار، أي إذا استبعدنا الترفيعات وتغييرات الرواتب، فقد تمت إضافة أقل أو أكثر من 1107771 موظفاً جديداً إلى قائمة رواتب القطاع العام في العراق، باستثناء إقليم كوردستان.
رغم أن بيانات إجمالي نفقات 2025 متاحة حتى شهر حزيران فقط، إلا أن المبلغ المنفق في الأشهر الستة الأولى من هذا العام لدفع رواتب الموظفين والرعاية الاجتماعية يظهر أن الدولة تحتاج شهرياً إلى ما يقارب 7.3 تريليون دينار أو 5.5 مليار دولار لكي لا تتأخر الرواتب.
نقطة أخرى لافتة للانتباه خلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام، هي أن إجمالي نفقات الرواتب كان أكثر من 30 تريليون دينار، لكن قبل عقد من الآن كان إجمالي النفقات السنوية للرواتب وفي وقت الحرب 32 تريليون دينار، وإذا كان النصف الثاني من العام مثل النصف الأول، فإن ذلك يؤكد قطعاً إضافة مليون موظف جديد تم تعيينهم في العراق باستثناء إقليم كوردستان.
جزء كبير ومهم من هذا التوجه نحو زيادة عدد الموظفين وتضخم المؤسسات العامة في العراق ذهب للقطاعات الأمنية، في حين يخصص العالم نفقاته للذكاء الاصطناعي والتكيف مع تغيرات المناخ. على سبيل المثال، وزارة الدفاع العراقية كان لديها 362 ألف منتسب في 2015، لكن في 2023 وصل عددهم إلى أكثر من 701 ألف، في المقابل وزارة الزراعة كان لديها 24 ألفاً في 2015، لكن في 2023 تراجع العدد إلى 19 ألف موظف؛ هذا يظهر أن زيادة مليون موظف جديد في العقد الماضي في العراق ذهبت للقطاعات الأمنية وليس للقطاعات التي يستثمر فيها العالم.
وكما هو موضح في الجدول أدناه، لم تكن زيادة عدد الموظفين في العراق لقطاعات مثل الزراعة والبيئة والموارد المائية، والتي هي الآن محور اهتمام المراكز الإقليمية والعالمية بالعراق، بل ذهبت للمؤسسات الأمنية وفي المقدمة وزارة الداخلية والأمن والحشد الشعبي.
الشكل 1: عدد موظفي الحكومة العراقية وإقليم كوردستان 2015-2023 والمجموع العام في 2024
المصدر: الموازنة السنوية للعراق، 10 أيلول 2025
وفقاً لآخر إحصاء، فإن إجمالي عدد الأشخاص في العراق الذين تقل أعمارهم عن 14 سنة هو 16.5 مليون شخص، والذين تزيد أعمارهم عن ذلك يصل إلى قرابة 29.5 مليون شخص، وبهذا الشكل ووفقاً لبيانات وزارة المالية في 2024، حصل قرابة 8.8 مليون شخص على مساعدة الرعاية الاجتماعية البالغة 250 ألف دينار شهرياً لكل شخص، أي أن إجمالي من يتقاضون رواتب في العراق الآن والذين يحصلون على مساعدة الرعاية الاجتماعية الشهرية يقارب 14 مليون شخص من إجمالي 46 مليون عراقي بما في ذلك إقليم كوردستان، في حين أن 650 ألف موظف في إقليم كوردستان لم يحصلوا بعد على راتب شهر تموز!
ما يلفت الانتباه مجدداً خلال هذا العقد، أن هذه الموجة من الزيادة المليونية في عدد الموظفين في كل حكومة في العراق لم تشمل إقليم كوردستان، بل أن عدد موظفي الوزارات والمؤسسات في إقليم كوردستان يقل باستمرار، فبينما كان عدد موظفي إقليم كوردستان في 2015 يبلغ 671939 موظفاً، فإن عددهم بعد عقد من الزمان وفي 2023 قل إلى 658189 موظفاً؛ وربما أصبح الآن أقل بسبب التقاعد والاستقالات خلال ذلك العقد.
كذلك، لا يمكن تجاهل أن هذه الأرقام التي تقل وتزيد مرتبطة بحجم الإيرادات وليس بحاجة الدولة لموظفين جدد، فعلى سبيل المثال في 2020 عندما قلت الإيرادات عموماً وإيرادات النفط خصوصاً لدرجة كبيرة، في ذلك الوقت يظهر بوضوح كيف قل عدد الموظفين من ثلاثة ملايين و27 ألفاً إلى مليونين و951 ألف كما هو موضح في الجدول أدناه.
الجدول 1: عدد الموظفين ونفقات الرواتب من 2015 حتى 2024
المصدر: وزارة المالية العراقية والموازنة السنوية للعراق، 3 أيلول 2025
ملاحظة: لم يكن للعراق موازنة سنوية في السنوات 2016، 2019، 2020 ، بل تم وضع عدد الموظفين بناء على بيانات نفقات تلك السنة مقارنة بالسنة السابقة، وتم اتباع نفس الطريقة للعام 2024 في هذا الجدول.
من ناحية الإيرادات، فإن قدرة الدولة على توفير الرواتب الشهرية مرتبطة بالإيرادات النفطية أكثر من الإيرادات الأخرى، لأن الإيرادات غير النفطية خلال السنوات العشر الماضيات وفي أفضل سنة لم تصل إلى المبلغ الذي يستطيع توفير راتب شهرين أو شهر واحد من نفقات التشغيل. هذا يظهر أنه في السنة التي كانت أموال النفط فيها كثيرة، يزيد عدد الموظفين مثل سنتي 2022 و2023، وعندما تقل إيرادات النفط مثل 2020 فإن العدد يقل كما هو موضح في الجدول 1 أعلاه.
للعراق باب آخر للإنفاق مشابه للرواتب الشهرية وهو الرعاية الاجتماعية التي نمت خلال عقد واحد من 11 تريليون دينار إلى 26.9 تريليون دينار سنوياً، ووفقاً للتقارير فإن مبلغ هذه المساعدة الشهرية هو 250 ألف دينار، أي أنه في 2015 كان عدد من حصلوا على هذه المساعدة قرابة 3.8 مليون شخص، لكن في 2024 زاد العدد إلى 8.8 مليون عراقي.
في الواقع، مضاعفة بيانات النفقات خلال عقد واحد وزيادة أكثر من 27 تريليون دينار للرواتب فقط و15 تريليون دينار للحماية الاجتماعية، يتطلب أن يكون سعر النفط في العقد القادم 100 دولار وأن يصدر العراق ستة ملايين برميل نفط يومياً، إذا كان العقد القادم مثل العقد الماضي.
وبهذا الشكل، فإن من يحصلون شهرياً على رواتب من الدولة في العراق، من الأقل وهو الرعاية الاجتماعية بمبلغ 250 ألف دينار وصولاً إلى مبلغ 18 مليون دينار شهرياً وهو راتب النائب، يصل عددهم إلى نحو 15 مليون شخص، وهذا يعني أكثر من 51% من الذين في العراق تتراوح أعمارهم بين 15-64 سنة.
وأخيراً، قد تغطي إيرادات النفط الآن هذه الزيادة في عدد الموظفين وتسد نواقص تضخم القطاع العام وعيوب الحكم المعتمد على القطاع العام، لكن تغييراً صغيراً في سعر النفط سيظهر عدد الموظفين وكم هي نفقاتهم السنوية. في الجزء القادم سنقف عند الزيادة في عدم المساواة في العراق بسبب نفقات القطاع العام وكيفية توزيع أموال النفط خلال عقد واحد.
أحياناً، يشعر المرء أن عينين لا تكفيانه، فيتنهد قائلًا: "آه، ليت لي أربع أعين". هناك أسفارٌ لا تُقطَع بالأقدام، بل بالقلوب والمشاعر؛ ولا تُرى بالعيون، بل بالروح والفؤاد.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً