لا أعرف ما هي المعلومات التي استند عليها مستشار الامن القومي والحكومة عموماً حتى تحظر حركة "المدخلية او الجامية"! ولم اجد سبباً منطقياً لقرار الحظر، وما حصل يمكن تصنيفه ضمن معادلة تمكين تيار على تيار اخر بعد ان فشلت محاولة الضد النوعي في المناطق التي ينتشرون بها.
لابد هنا من الاشارة إلى المادة (37/ ثانياً) من الدستور العراقي نصت على "تكفل الدولة حماية الفرد من الاكراه الفكري والسياسي والديني"، فضلاً عن المادة (3) التي نصت على أن "العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها وجزء من العالم الإسلامي"، علماً ان حركة المدخلية او الجامية وعلى الرغم من الملاحظات الخاصة بمنهجها فيما يتعلق بالنقاش وقبول الاخر المخالف لمنهجها من التيارات والمدارس السنية، ولكن لم يؤشر على انها جماعات راديكالية متطرفة، على العكس كانت تقف بالضد من نهج تنظيم القاعدة وداعش، والدليل كان لهذه الحركة غطاء سياسي وأمني يتيح لها حرية التحرك في المساجد ونشر أفكاره، فضلاً عن المحاضرة التي ألقاها (أبو منار العلمي) سنة 2007 والذي اعلن رفضه قتال القوات الامريكية لكون شروط الجهاد ليست متحققة في العراق، معلل ذلك بعدم وجود قوة مادية ولا معنوية ولا عسكرية ودينية، لذلك لا يصح الجهاد في ظل هذه الظروف، ولكن بعد الاتصال والاستفسار والتدقيق والبحث تبين ان "ابو منار العلمي" ليس زعيم حركة المدخلية على العكس هو على خلاف منهجي معهم، بينما ذهبت الحركة إلى ابعد من ذلك عندما افتت بحرمة التظاهر ضد رئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي كونه ولياً للأمر وقال إن "التظاهر ضد المالكي حرام شرعا لأنه وليّ الأمر بل ان من يتظاهر تأييداً له يعد مجاهداً في سبيل الله"، فضلاً عن تسهيل حصول أعضائه على شهادتي الماجستير والدكتوراه تخدمهم في مجال ارشاد ودعوة الشباب ليلتفوا حولهم.
يعود انتقال الفكر المدخلي إلى العراق وتحوله إلى بنية منظمة هو بعد تغيير النظام 2003، إذ ظهرت "المدخلية" كتيّار منظّم للمرة الأولى، فقبل 2003 كانت هناك خلايا فرديّة متفرّقة بلا إطار مؤسَّس، ولكن الفراغ الأمني وسيولة المشهد الديني بعد الغزو وفّرا لهم أرضيةً خصبة، فتوسّعوا سريعاً في مساجد حزام بغداد، من ثم المحافظات السنية لنشر فكرهم، حيث يستندون بذلك إلى نص دستوري بالمادة (42) والتي نصت على "لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة"، إذ يُعرف "التيار المدخلي" أو "الجامية" نسبةً للشيخ محمد أمان الجامي بأنه تيار سلفي برز في السعودية، ويُعد الشيخ ربيع بن هادي المدخلي (مواليد 1931 أو 1933) مرجعيته الأبرز، واكتسب التيار زخماً ملحوظاً إبان حرب الخليج الثانية (1991) بدعمه موقف الحكومة السعودية بالاستعانة بالقوات الأميركية، مقابل معارضة تيار "الصحوة"، ويُنظر إلى أن الحكومة السعودية عززت دور المدخلية لموازنة التيارات الإسلامية الأخرى المنتقدة لسياساتها، ويعد المرتكز الأساسي "للمدخلية" هو التأكيد المطلق على "طاعة ولي الأمر"، استناداً إلى تفسيرهم لنصوص يرون أنها توجب السمع والطاعة للحاكم المسلم، حتى لو كان فاسقاً ما لم يُظهر "كفراً بواحاً"، وذلك لتجنب الفتنة.
هذا ويُعد الشيخ ربيع بن هادي المدخلي من أبرز مشايخ السلفية في السعودية، وهو المرجع الأعلى لما يُعرف بـ"التيار المدخلي" أو "السلفية الجامية"، وله أتباع في عدد من الدول، من بينها العراق ويتبنّى أتباعه منهجه القائم على الطاعة المطلقة للحاكم كما تقدم، ورفض العمل السياسي، وتبديع خصومهم من التيارات الإسلامية الأخرى، أما في العراق لا يوجد زعيم واحد للتيار المدخلي، بل يوجد عدد من العلماء والشخصيات التي تنتمون إليه، لكن لا يُعرف لديهم زعيم واحد يعترف به الجميع، كما انتشرت أيضاً في بلدان عربية وإسلامية أخرى من بينها مصر من أبرز رموزهم هناك محمد سعيد رسلان صاحب الفتوى الشهيرة لجنود السيسي بوجوب قتل المعارضين من أهالي كرداسة وغيرهم.
عراقياً برز بعد عام 2003 اسم سعد نايف كسار، في منطقة ابو غريب وهو واحد من مجموعة، اما الحديث عن "أبو منار العلمي" وهي كنيته ولا يُعرف اسمه حقيقي، كأحد أبرز منظّري تيار السلفية المعتدلين وليس كما يشاع انه ينظر للمدخلية الجامية داخل العراق، ويُنسب إليه كتاب بعنوان "دحر المثلب على جواز تولية المسلم على المسلم من كافر متغلب"، وهو نص فقهي محدود النشر يناقش فيه مشروعية تولي الكافر أو من ينوب عنه المسلمين، مثل "الحاكم العسكري الأميركي بول بريمر"، شؤون المسلمين، ويُقر وجوب طاعته باعتباره "متغلباً"، وذلك تجنّباً للفتنة والفوضى، وعلى الرغم من التوافق الفكري بين العلمي والمدخلي في هذه المسائل، إلا أن العلاقة بين الرجلين لم تكن سلسة تماماً؛ فقد وجّه الشيخ ربيع في وقت لاحق انتقادات حادّة للعلمي ولعلي حسن الحلبي، واصفًا إياهما بـ"أهل "مشاكل وفتن".
لا يمكن ان ننكر ان هناك تمييزاً وانتقائية في كثير من القرارات التي تصدر من هذه الجهة وتلك، بينما المادة (43/أولاً) من الدستور اشارت ضمناً "اتباع كل دين أو مذهب احرار في ممارسة الشعائر الدينية"، اما الفقرة ثانياً من نفس المادة نصت على "تكفل الدولة حرية العبادة وحماية اماكنها"، فضلاً عن المادة المادة (46) من الدستور والتي نصت على "لا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها الا بقانون أو بناء عليه، على ألا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية"، ويوجد قرار للمحكمة الاتحادية رقم (23 لسنة 2020 الصادر بتاريخ 30 / 11 / 2021، حيث خرج القرار بمبادئ دستورية منها ما يخص المادة (46) من الدستور والذي اشار إلى "الاصل عدم جواز تقييد الحقوق والحريات والا عُدً ذلك (عدواناً عليها)"، وعن طريق كل ما تقدم اتوقع أن ينعكس هذا القرار على حضور "المدخليّة" في مؤسّسات الوقف السني والمساجد التي يسيطرون عليها، مقابل صعود تيار اخر يحاول السيطرة والمنافسة والبروز، لاسيما إذا لم تتراجع مستشارية الامن القومي عن قرار الحظر، لان تصنيف الحركة "حظر المدخلية" من قبل الحكومة يعطي مظلّةً قانونيّة للحدّ من نفوذ التيار، وهذا يعتمد ايضاً على التزام الأجهزة المحلية بالتعليمات المركزية، فضلاً عن تفاعل الفواعل الاجتماعية والسياسية والدينية في المناطق السنية "سلباً او ايجاباً" مع القرار والذي يعد بمثابة اختبار للقبول او الرفض، وممكن يكون قرار الحظر عامل مشجع لكسب تعاطف مجتمعي في المناطق السنية وبالتالي تزداد اعدادهم اكثر، في ظل ظروف تساعد على ذلك نتيجة تصاعد حدة الخطاب الطائفي والمذهبي، والعنصرية بين تيار واخر، في حين كان من المفترض ان تحظر تيارات سياسية ودينية وجماعات تظهر علناً عبر الفضائيات تبث سمومها الطائفية التي تمزق النسيج المجتمع العراقي.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً