في مشهد يعكس تغيراً نوعياً في مسار العلاقات الإقليمية، احتضنت العاصمة القطرية الدوحة يوم الثلاثاء 15 نيسان، لقاءً جمع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ورئيس الجمهورية السورية أحمد الشرع، بوساطة من أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، خلال زيارة سريعة لم يعلن عنها، اللقاء الذي جاء بعيداً عن الأضواء الإعلامية، يحمل مؤشرات واضحة على أن المنطقة تسير نحو مرحلة جديدة، تُبنى على الحوار وتصفير المشاكل.
لقاء الدوحة لم يكن بروتوكولياً أو مجاملة سياسية، بل خطوة مدروسة ضمن سياق إقليمي متغير، حيث تعيد الدول العربية حساباتها بعد سنوات من الأزمات، وتبحث عن أرضية مشتركة للحوار والتكامل، بدلاً من التنازع والتصعيد، إذ أن العراق، الذي عانى طويلاً من تبعات الصراع الجيوسياسي، بات يدرك اليوم أكثر من أي وقت مضى أن استقراره يبدأ من عمقه العربي، وأن العلاقات مع دمشق لا يمكن أن تُختزل في المواقف الآنية، فهي علاقة تاريخية، وثقافية، وجغرافية، تمتد عبر قرون من التفاعل والتداخل.
العراق، وهو يخطو بحذر بين محاور متنازعة ومشاريع متضادة، يدرك أن استقراره لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الانفتاح على جواره العربي، وعلى رأسه دمشق التي تجمعها ببغداد علاقات تاريخية لا يمكن إنكارها، رغم ما شهدته من توترات سياسية في الماضي القريب، فالتقارب مع سوريا اليوم لا يعني الانحياز لطرف على حساب آخر، بل هو إعادة قراءة للواقع الجديد الذي تفرضه المعادلات الإقليمية والدولية.
الحوار، هو الحل الأفضل دائماً، خاصة حين يتناغم مع الإرادة الدولية والإقليمية، ويبتعد عن الجعجعة الفارغة التي كثيراً ما تصاحب المواقف الانفعالية أو الشعبوية، إذا اعتبر بعض القيادات السياسية، اللقاء بين السوداني والشرع، جزءاً من الحراك الدبلوماسي الضروري لتعزيز موقع العراق الإقليمي، لاسيما في ظل ما تشهده المنطقة من إعادة ترتيب للأولويات وتبدّل في التحالفات، فالعراق الذي يسعى إلى لعب دور فاعل ومتوازن، بات يدرك أن تعزيز حضوره لا يكون عبر التصعيد أو التبعية، بل من خلال الانفتاح على محيطه العربي، والانخراط في مسارات الحوار البنّاء التي تحفظ سيادته وتخدم استقراره الداخلي.
أما الأصوات السياسية التي تحاول أن تثير "شو" سياسياً وإعلامياً لأهداف انتخابية ضيقة أو أخرى، فهي لا تمثل الموقف الرسمي للدولة، بل تسعى لخلق حضور انتخابي باي ثمن، حتى ولو كان على حساب المصالح العليا للبلاد أو عبر تزييف الحقائق، حيث تناست أو متناسية أن الدولة لا تُدار بالمزايدات، بل بالحكمة والبراغماتية وموازنة المصالح.
وفي سياق التقارب بين بغداد ودمشق، الذي لعبت الدوحة فيه دور الوسيط والضامن، يتقاطع مع مؤشرات أخرى على ساحة الشرق الأوسط، أبرزها اللقاء الأخير بين وزير الدفاع السعودي والمرشد الأعلى الإيراني، والذي حمل رسالة من الملك سلمان، في تطور يُظهر أن أبواب الحوار تُفتح حتى بين الخصوم التقليديين، وهذا يعني أن التحوّلات حقيقية، وأن من لا يواكبها قد يجد نفسه على هامش الأحداث.
وفي ظل اشتداد الضغوط على إيران، بدأت طهران تُظهر مرونة غير مسبوقة، وتستعد للتنازل عن بعض أذرعها في المنطقة، حتى تلك التي طالما اعتبرتها أدوات ستراتيجية، وهنا تبرز أهمية التحذير من الانخراط في مشاريع لا تخدم المصلحة الوطنية، بل تجعل من بعض الأطراف أدوات تستخدم لمرة واحدة، لذلك على بعض القوى السياسية في العراق أن تتعامل بحكمة مع هذا الواقع، وأن لا تندفع خلف مشاريع ضيقة، تحولها إلى أدوات في صراعات أكبر منها.
حوار الدوحة، بين بغداد ودمشق، ليس فقط خطوة باتجاه ترميم العلاقات الثنائية بين البلدين، بل هو إشارة واضحة إلى أن منطق المصالح المشتركة بدأ يستعيد مكانته في العقل السياسي العربي، اي بمعنى سياسة المصالح لا الأيدولوجيات، وهو بداية مرحلة جديدة، عنوانها: الحوار، الواقعية، والعودة إلى الجذور العربية.
هذا اللقاء، برأي عدد من المراقبين، يعد رسالة واضحة بأن بغداد تسعى بكل جهدها إلى التحرك بمرونة دبلوماسية عالية، بعيداً عن سياسة المحاور، مقتربة من طاولة التفاهمات الإقليمية التي بدأت تتشكل من جديد بعد سنوات من الجمود والتوتر.
ختاماً، الحوار اليوم ليس خياراً، بل ضرورة ملحة، والتاريخ سيذكر من اختار أن يكون جزءاً من الحل، لا جزءاً من الأزمة ووضع العراقيل أمام مرحلة جديدة من الاستقرار في المنطقة.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً