كنت أتابع السنة الأولى من تحصيلي العلمي في جامعة دمشق العام 1986، في صبيحة نوروز ذلك العام، توجّهنا نحن طلبة الجامعة الكورد، والعوائل الكوردية التي كانت قليلة العدد في ذلك الوقت بدمشق قبل النزوح الكوردي الكبير نحو العاصمة، قررنا التّوجّه الى الحديقة القريبة من كلية الزراعة والقريبة من حي الأكراد «ركن الدين» حالما وصلنا، كانت هناك أعداد هائلة من الاستخبارات وقوات حفظ النظام مدججين بأسلحتهم الكاملة، كانوا قد حطّموا المكان المُعِد لأداء فقرات الرّقص الفلكلوري وبرنامج الحفل المعتاد رغم أن صور الرئيس المقبور حافظ أسد والعلم السوري كان مُعلّقاً على جدران المسرح، كنوع من طلب « حماية ما»!! لكن هيهات!!
جاؤوا لمنعنا من التجمّع، فبدؤوا بضرب كلِّ من كان متواجداً هناك، ومنعوا وصول الوافدين الجدد، وأجبروا السيارات القادمة على العودة.
رجع بعضنا من مكان الاحتفال، وكان النظامُ استقدم باصاتِ النّقل الدّاخلي لتفريق مكان الاحتفال، وأجبروا بعض من كان متواجداً في الترحيل الى ركن الدين بالقرب من مشفى ابن النفيس.
هناك، بالتّحديد عند أفران ابن العميد، بدأت مظاهرةٌ عفويةٌ، العدد كان حوالي الخمسمئة شخص أو أكثر قليلاً من الشابات والشباب الكورد.
المظاهرة لم يكن مُعدّاً لها، لم تكن هناك صورٌ لقادّة كورد أو لافتات معيّنة، أو العلم الكوردي، بمعنى لم يكن هناك أيّ تحضير لهذه المظاهرة، بدأنا بإطلاق الشعارات: بجي كوردستان، بجي كوردستان، «تحيا كوردستان»
تواجدت في المكان مجموعةٌ صغيرةٌ من الشّباب دعوا بالعربية لإسقاط النظام، وشتموا الرئيس أسد، لكنّهم سرعان ما اختفوا، بدأنا بالهتافات في شارع ركن الدين الرئيسي، وبعضنا دخل الشارع الفرعي، كعادة كلّ التظاهرات غير الممنهجة والمبرمجة، بدأ بعض الشباب بكسر واجهات المحلات، وتهشيم زجاج السيارات المركونة أمام بيوت أصحابها إلى أن صاح العقلاء فينا:
الرجاء.. تظاهروا، وطالِبوا بحقوقكم، لكنّ دون كسر وتخريب، فتوقّف الكسر بسرعة لم نتوقّعها، في مكان قريب من ساحة شمدين، تجمّعنا كلنا .. كل من تظاهر في الشارع الرئيسي، والشارع الفرعي، كان العدد قد قلّ لأن النظام بدأ يستقدمُ أعداداً كبيرة من الاستخبارات والشرطة المدنية وقوات حفظ النظام بغرض فضّ الاعتصام أوالتظاهُر بالقوّة.
بعد قليلٍ، جاء ضابط ٌبرتبة عميد على ما أذكر، عبْر نظّارته السّوداء، بدأ بالحديث السلس، وتهدئة الخواطر قائلاً كالعادة إن «سوريا مُستهدَفة من قبل الرجعية العربية والامبريالية العالمية، ومن عصابات إخوان المسلمين العميلة، كلُّنا مدعوون للدفاع عنها، هذا الشغب غير مقبول، وأنتم «الاكراد» وطنيون، ونحبّكم، والرئيس الأسد يهديكم تحياته وسلامه، داعياً الجمع للتفرّق، إما بهدوء، أو سيتم التفريق بالقوة، وبعدها لكل حادث حديث.
هنا، انبرى صوتٌ قويٌّ من أحد الشباب: أنتم لاتحبّون الكورد، بل تكرهوننا، لماذا فضضتم تجمُّعَنا من أجل الاحتفال بعيدنا .. عيد نوروز؟!..
هذا ليس وطننا، لأن الوطن لا يقتل أبناءه، وقال قبل قليل جاء شخص من المظاهرة المتوجّهة الى القصر الجمهوري، وأطلق الحرس الجمهوري النار على المتظاهرين، وقُتل وجُرِح شبابٌ كورد، فهل هناك وطن يقتل أبناءه؟
زاد الصراخ، وتعالت الهتافات: شهيد نامرن.. شهيد نامرن..«الشهداء خالدون»
بدؤوا بتفريقنا بالقوة، ونجحوا فعلاً.
وقتها سمعنا أن مظاهرة ثانية قد توجّهت إلى القصر الجمهوري من قبل بعض الشباب الكورد، لكنّها تعرّضت للقمع والتنكيل، وقد ارتقى الشهيد سليمان آدي في اليوم ذاته.
الشهيد الكوردي سليمان آدي فاز بجدارة بلقب شهيد نوروز 1986 كان عمره وقت استشهاده تسعة عشر عاماً من «قرية لوتكة التابعة لمنطقة آليان من أسرة قروية بسيطة مكوّنة من ستة أشخاص، وكان أصغر إخوته، انتقلت عائلته الى مدينة قامشلو، وسكنت في حي جرنك الصغير، ومن ثم انتقل الشهيد سليمان إلى العاصمة دمشق بحثاً عن لقمة العيش»
بعد أحداث نوروز 1986 أصدر حافظ أسد مرسوماً جمهورياً اعتبر بموجبه يوم 21 آذار عطلة رسمية في البلاد، ولكن كعيد الأم، لا نوروز.
المجد لروح سليمان آدي شهيد نوروز 1986
المجد لأمة الكورد العظيمة الباحثة دون كللٍ عن نوروزٍ عظيم.. عن يوم جديد.. يقترب أكثر من أي وقت مضى.
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له أي علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الإعلامية.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً