إلى الحكومة التركية أين قبر الإمام بديع الزمان سعيد النورسي؟

18-08-2019
علاء الدين آل رشي
الكلمات الدالة بديع الزمان النورسي تركيا
A+ A-

تاريخياً تمت محاصرة العقلاء من المتدينين الكورد وغير الكورد أيضاً، وذلك لامتلاكهم الوعي الديني المحرر من سطوة صورة الواقع ورهبة السلطة القاهرة.

إن أكبر سلاح تخشاه السلطة يتجسد في أن يمتلك الخطاب الديني مفهوم الإدارة الإسلامية التي تحرر الوعي من الزيف والإرادة من الخوف والحياة من الرهق وتحذر من الاشتغال بالصغائر، وتعمل على التركيز على القضايا الكبرى.

 إقرأ هذا النص للإمام سعيد النورسي (لقد تساءلتم هل أنا ممن يشتغل بالطرق الصوفية؟ وإنني أقول لكم: إن عصرنا هذا هو عصر إنقاذ الإيمان لا حفظ الطريقة)، حرر بديع الزمان النورسي إيمانه وذاته من أي إملاء سلطوي أو معاشي وعاش ومات أعزباً لم يتزوج وقضى حياته مناضلاً حراً ومجاهداً فاهماً وكوردياً أصيلاً وإماماً مسلماً.

 عمل النورسي على أن تستعيد المفاهيم الإسلامية والقومية الكوردية مكانتها فقد فهم أن لفظ الله أكبر يعني أنه لا مواطن صغير في مجتمع يحتكم إلى القانون ولا سلطة أعلى من سلطة المجتمع التي توافق الجميع على الاحتكام إليها لا الارتهان إلى نزوة حاكم.

 وهو ما تجلى بقول الإمام النورسي أثناء محاكمته حيث رد على القضاة بقوله: "ألا فلتعلموا جيداً بأنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من شعر، وفصل كل يوم واحد منها عن جسدي، فلن أحني هذا الرأس، الذي نذرته للحقائق القرآنية، أمام الزندقة والكفر المطلق، ولن أتخلى أبداً عن هذه الخدمة الإيمانية النورية، ولا يمكنني أن أتخلى.

وما دامت مبادئ الجمهورية لا تتعرض للملاحدة وفقاً لمبدأ حرية الضمير والوجدان، فمن الأولى والأحق أن لا تتعرض لأولئك الذين لا علاقة لهم بالدنيا، ولا يجادلون مع أهلها، ويعملون لآخرتهم وإيمانهم ووطنهم بشكل نافع. كما لا يحق لأرباب السياسة أن يحملوا الشعب على التخلي عن الصلاح والتقوى اللذين هما بمثابة الغذاء والعلاج ومن أهم الاحتياجات الضرورية لهذا الشعب منذ ألف عام".

 ولد الإمام سعيد النورسي عام (1294ه / 1877م) في قرية نورس من قرى ولاية بتليس ذات الغالبية الكوردية.

عرف النورسي من بين أكبر أعلام المسلمين الكورد في الوقت الراهن، وعلى الرغم من فقر الموارد المالية آنذاك لأسرة الإمام سعيد النورسي إلا أنها كانت غنية في مواهبها وأخلاقها، حيث ثمة عناية واضحة بالدراسة والتعلم فتتلمذ الشيخ سعيد على يد أساتذة الكتاتيب والمدارس الدينية في قريته وتلقى معارفه الدينية واللغوية الأولية على يد أخيه الملا عبدالله.

 اجتمع للإمام النورسي شروق روحي وذكاء عقلي، فحفظ جمع الجوامع في أصول الفقه والقاموس المحيط للفيروز آبادي إلى باب السين، ودرس كتب الرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء وعلم طبقات الأرض الجيولوجيا والفلسفة الحديثة والتاريخ والجغرافية، حتى تعمق فيها إلى درجة إفحام الأساتذة المختصين فسمي لأول مرة بـ( بديع الزمان) اعترافاً من أهل العلم بذكائه الحاد وعلمه الغزير.

قرر الشيخ سعيد رحمه الله مقابلة السلطان عبدالحميد ليقدم مشروعاً تعليمياً لإصلاح واقع التعليم الديني والدنيوي وذلك عام 1896م حيث تلخص مشروعه بتأسيس جامعة تنشر معارف الإسلام وتعنى بترقية العلوم المادية والتقدم العلمي في بلاد الكورد لكنه قوبل بخيبة كبيرة من السلطان وحاشيته، ومع الفشل لم ييأس فعاود الكرة مرة ثانية عام 1907 م وليعمل على تقديم طلب إلى السلطان عبدالحميد وفيه يلزم الخلافة بفتح المدارس التي تعلم العلوم الكونية الحديثة بجانب العلوم الإسلامية ومما جاء في طلبه (إن مقام الخلافة لا ينحصر في إقامة صلاة الجمعة فكما أن للخلافة قدرة وقوة معنوية فيجب أن تكون لها القدرة المادية التي تكفل مصالح الأمة المحمدية في أقطار الأرض جميعاً).

وفي جانب آخر جاء في طلبه أيضاً وجوب إطلاق الحريات العامة والمحاكمات العادلة والتوقف عن الاعتقال التعسفي فبين أنه (لا استبداد في الإسلام فما يصدر حول فرد من الأفراد يجب أن يصدر بعد استكمال جميع مراحل المحاكم التي يجب أن تكون علنية وضمن العدالة الشرعية، وليس من الجائز صدور القرار من قبل أشخاص غير معروفين ونتيجة دسائس معينة واعتماداً على تقارير سرية).

نتيجة هذا الوضوح في رؤية النورسي الإصلاحية تمت إحالة بديع الزمان إلى طبيب الأمراض العقلية ومن ثم إلى لجنة التفتيش العسكري وعرضت عليه هبات من السلطان فرفض ذلك وعدها (رشوة سكوت) وقد دار الحوار الآتي بين شفيق باشا رئيس اللجنة العسكرية وبديع الزمان:

شفيق باشا: إن السلطان يخصك بالسلام مع مرتب بمبلغ ألف قرش، وعندما تعود إلى بلدك سيجعل مرتبك ثلاثين ليرة كما أرسل لك ثمانين ليرة هدية سلطانية.


بديع الزمان: لم أكن أبداً متسول مرتب، ولن أقبله ولو كان ألف ليرة لأنني لم آت لغرض شخصي، وإنما لمصلحة البلد، فما تعرضونه علي ليس سوى رشوة السكوت.


شفيق باشا: إنك بهذا ترد الإرادة السلطانية، والإدارة السلطانية لا ترد.


بديع الزمان: إنني أردها، لكي يستاء السلطان ويستدعيني عند ذلك أستطيع أن أقول له قولة الحق.


شفيق باشا: إن العاقبة ستكون غير سارة.


بديع الزمان: تعددت الأسباب والموت واحد، فإن أعدم فسوف أرقد في قلب الأمة، علماً بأنني عندما جئت إلى إستانبول كنت واضعاً روحي على كفي اعملوا ما شئتم، فإني أعني ما أقول: إنني أريد أن أوقظ أبناء الأمة، ولا أقوم بهذا العمل إلا لأنني فرد من هذا البلد، لا لأقتطف من ورائه مرتباً، لأن خدمة رجل مثلي للدولة لا تكون إلا بإسداء النصائح، وهذا لا يتم إلا بترك المصالح الشخصية فإنني معذور إذن عندما أرفض المرتب.

أدرك بديع الزمان جذر التخلف ورأى أن ذلك ينحصر في فئات تتمثل في:
(1- السلطة المستبدة.
(2- العلماء المداهنين.
(3- المتعلمين المنبهرين بالغرب.
(4- أصحاب التكايا) .

ولم تخل حياة الأستاذ طوال الخمسينيات، حتى عام وفاته (1960) من مضايقات مستمرة ومحاكمات ظالمة وضجات مفتعلة ضده على صفحات الصحف، ولكنه شق الطريق بكل قوة وإصرار، يرشد تلامذته ويدرسهم رسائل النور، ويشرف على طبع رسائله وكتبه حتى وفاته في (الخامس والعشرين من رمضان سنة 1379 هـ الموافق للثالث والعشرين من آذار سنة 1960م).

ومن الجدير بالذكر أن السلطات الرسمية لاحقته بطغيان عجيب، حتى اللحظة الأخيرة من حياته المباركة، ذلك لأن الأستاذ وهو في أسبارطة أخبر تلامذته في ليلة الأحد العشرين من شهر آذار 1960م أنه عازم على السفر إلى أورفة وطلب بإصرار عجيب من تلامذته المناوبين على خدمته أن يحضروا سيارة وهو في حالة مرضية شديدة فأحضروها بسرعة، فأوصلوه إلى تلك المدينة، عبر سفرة مرهقة ومعاناة شديدة في شتاء قارس، فأخبرت السلطات في أنقرة فصدرت أوامر مشددة إلى السلطات الأمنية في مدينة أورفة بإرجاعه إلى إسبارطة من فندقه الذي كان يعاني فيه سكرات الموت.

وعلى الرغم من تقارير الأطباء القاطعة بعدم إمكانية مغادرته، كانت البرقيات تتوالى من العاصمة بضرورة عودته إلى أسبارطة.

ولقد تجمعت ألوف من المثقفين والعلماء وأهالي أورفة أمام الفندق ينتظرون السلام على الأستاذ ويستنكرون موقف السلطات المتعنت، ويبعثون برقيات تلو برقيات محتجين على هذه المعاملة الظالمة الحاقدة لرجل لم يقدم لأمته سوى الخير والنور.

ويتحدى مدير الأمن كل هذه العواطف الجياشة فيصعد بنفسه إلى غرفة الأستاذ ويطلب منه مغادرة المدينة فوراً بناء على توجيهات اللادينيين التي لا تعرف الرحمة، فيجيب النورسي: إنني أعيش الدقائق الأخيرة من عمري، فأنا راحل وقد أتوفى هنا، إن واجبكم أن تقوموا بتهيئة الماء الساخن لغسلي ميتاً، بلغ رؤساءك بذلك.

وأمام كلماته الحزينة التي تفجر كل دواعي الخير في النفس الإنسانية ينكس مدير الأمن رأسه ويعود قافلاً هو وأفراد شرطته متأثراً بذلك الموقف تأثراً عميقاً.

وفي ذلك المساء الحزين وعلى الرغم من حرارته المرتفعة، وعلى غير عادته في السنوات الأخيرة من حياته سمح لمئات الناس أن يدخلوا إلى غرفته في الفندق مسلمين عليه ومقبلين يده، يضمهم إلى صدره الحنون ويدعو لهم وكأن الله تعالى وهبه في تلك الساعات قوة هائلة.

وفي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، بردت أوصاله وأسلم روحه بهدوء كامل إلى بارئه العظيم، وانتشر الخبر في أورفة وحولها من المدن القريبة والبعيدة فجاءت عشرات الألوف في كل مكان للاشتراك في تشييع جنازة إمامهم المجاهد، فحملوا نعشه إلى المسجد الكبير، وبعد الصلاة عليه دفنوه في الفناء الخارجي من الجامع (خليل الرحمن) يوم الخميس 24 آذار 1960.

ولم يترك الحكام النورسي يستريح في قبره، فقرروا بعد انقلاب 1960 م، وبعد حوالي ستة أشهر من وفاته أن يخرجوه من قبره، فينقلوه إلى مكان مجهول، فأجبروا أخاه الشيخ عبدالمجيد أن يرافقهم بالطائرة إلى أورفة. وهناك أخذوا ثلة من الجند في إحدى الليالي بعد إعلان منع تجول ليلي. فحفروا قبره وأخذوه إلى ذلك المكان المجهول).

 ويبقى السؤال المحزن والمشروع: أين هو قبر هذا العالم الكبير أين رفات هذا الكوردي المسلم العظيم؟ هل ستسمح حكومة تركيا بمعرفة مصير جثمان أكبر علم للمسلمين الكورد في العصر الحديث؟

د. علاء الدين آل رشي

*ملاحظة: كل النقولات التاريخية من كتاب الإمام النورسي متكلم العصر

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له أي علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الإعلامية‬‬‬.

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب