بعد أكثر من عقد من الصراع العنيف والانقسام المجتمعي والجغرافي، بات من الواضح أن النظام المركزي الصارم الذي حكم سوريا لعقود لم يعد صالحاً لبناء دولة وطنية حديثة تستوعب تعددها القومي والديني والمناطقي.
وبينما تتعثر محاولات الحل السياسي الشامل، تبرز تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا كنموذج بديل يُعيد طرح اللامركزية السياسية والنظام الاتحادي كحلول مستدامة، وخاصة بالنسبة للكورد الذين كانوا دوما من أكثر المتضررين من السياسات المركزية التمييزية.
أولًا: خلفية حول المطالب الكوردية لسوريا اتحادية
لطالما رفع الكورد في سوريا شعار “الاعتراف الدستوري بالشعب الكوردي وحقوقه القومية ضمن إطار سوريا ديمقراطية”. ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تحولت هذه المطالب من مجرد شعارات إلى مشاريع سياسية ملموسة، خاصة بعد إعلان الإدارة الذاتية الديمقراطية في مناطق شمال وشرق سوريا، والتي تضم إلى جانب الكورد، العرب والسريان الآشوريين وغيرهم.
مجموعة من الأحزاب الكوردية، بالاتفاق مع حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، دعت صراحة إلى تحويل سوريا إلى دولة اتحادية ديمقراطية، على غرار النماذج الناجحة في أوروبا وأميركا اللاتينية، حيث تتمتع الأقاليم بسلطات سياسية وإدارية واسعة ضمن إطار وحدة الدولة.
ثانيا: ما هي اللامركزية السياسية؟ اللامركزية السياسية هي نظام توزيع السلطة بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية أو الإقليمية. في هذا النظام، تحتفظ الحكومة المركزية بالسياسات السيادية العامة (كالسياسة الخارجية والدفاع)، بينما تُمنح الوحدات المحلية (محافظات، أقاليم، مقاطعات) الحق في إدارة شؤونها الداخلية من خلال برلمانات أو مجالس محلية منتخبة، لها صلاحيات في مجالات التعليم، الصحة، الاقتصاد، والثقافة.
أنواع اللامركزية السياسية:
اللامركزية الإدارية: توزيع المهام التنفيذية دون صلاحيات تشريعية.
اللامركزية السياسية: تمنح صلاحيات تشريعية وتنفيذية محلية.
النظام الاتحادي (الفيدرالي): أعلى أشكال اللامركزية، حيث تتكون الدولة من كيانات (ولايات، أقاليم) لها دساتير وبرلمانات محلية، لكنها تظل ضمن إطار الدولة الواحدة.
ثالثا: إيجابيات النظام الاتحادي في سوريا المستقبلية
*الاعتراف بالتنوع القومي والديني: يسمح للكورد والسريان الآشوريين، والدروز وباقي المكونات بإدارة شؤونهم الثقافية والتعليمية بحرية.
*حل المشاكل التاريخية للمناطق المهمشة: مثل الجزيرة، دير الزور، أو درعا، والسويداء التي ظلت لعقود مهمشة في ظل مركزية دمشق.
*تعزيز المشاركة السياسية: عبر إشراك السكان المحليين في اتخاذ القرار، مما يُعيد الثقة بين الدولة والمجتمع.
*تحفيز التنمية الاقتصادية: من خلال منح المناطق صلاحيات الاستثمار وإدارة الموارد.
*منع الانفصال: على عكس ما يُشاع، الفيدرالية لا تعني التقسيم، بل تحافظ على وحدة الدولة عبر توزيع عادل للسلطة.
رابعا: التحديات والسلبيات المحتملة
*مقاومة النظام المركزي: القوى المتشبثة بالسلطة في دمشق قد ترفض التخلي عن الامتيازات المركزية.
*غياب توافق وطني: طرح الفيدرالية مايزال يلقى معارضة من بعض أطياف المعارضة والمجتمع، خوفاً من التقسيم.
*المخاوف من النزعة الانفصالية: رغم نفي القوى الكوردية لذلك، هناك مخاوف من أن تتحول الفيدرالية إلى خطوة نحو الانفصال.
*التفاوت الاقتصادي بين الأقاليم: قد يؤدي إلى تفاوت في التنمية ما لم يُرافق بنظام توزيع عادل للثروات الوطنية.
*التدخلات الإقليمية: تركيا وإيران تعارضان أي نظام يمنح الكورد وضعاً خاصاً، مما قد يؤدي إلى صراعات إقليمية.
خامسا: تجربة الإدارة الذاتية كنموذج أولي للفيدرالية السورية
منذ عام 2014، تطبق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا نظاماً قريباً من الفيدرالية، قائم على الكونفدرالية الديمقراطية، التي تعتمد على مبدأ المجالس المحلية والتمثيل المتساوي للجميع، مع اعتماد مبدأ الرئاسة المشتركة والمناصفة الجندرية.
ورغم الحصار الاقتصادي والتهديدات الأمنية، نجحت هذه التجربة نسبياً في توفير الاستقرار الأمني وحماية التنوع الثقافي وبناء مؤسسات مدنية وإدارة الموارد المحلية.
ختاماً، إذا كانت الأزمة السورية قد كشفت هشاشة الدولة المركزية، فإن البحث عن نظام سياسي بديل بات ضرورة وطنية لا رفاهية. وفي هذا السياق، تطرح اللامركزية السياسية والنظام الاتحادي نفسه كخيار واقعي لبناء سوريا جديدة، عادلة، وديمقراطية، تستوعب جميع مكوناتها، وتمنح الأقاليم حق تقرير شؤونها ضمن إطار دولة موحدة.
إن المطالب الكوردية بالفيدرالية ليست دعوة للانفصال، بل نداء لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس ديمقراطية، وهو ما قد يشكّل نموذجاً لسوريا كلها، وليس فقط للمناطق الكوردية.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً