هل يمكن أن تعلق الآمال على بغداد؟ بماذا تخبرنا الأرقام؟

16-11-2020
زردشت برادوستي
الكلمات الدالة العراق بغداد كوردستان
A+ A-

بعد الحرب العالمية الثانية، أشرف جورج مارشال (رئيس أركان الجيش الأميركي آنذاك) على مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا المدمرة، وأعيد إعمار كل أوروبا بكلفة بلغت نحو 129.925 مليار دولار خلال الفترة (1947-1951) وكان ذلك الأساس لأوروبا الحالية، ذلك المبلغ يعادل تقريباً موازنة العراق للعام 2014 التي كانت عبارة عن 148 مليار دولار، بينما عجزت الحكومة العراقية حتى اليوم عن توفير المياه الصالحة للشرب لمواطنيها.

من جهته، فشل مشروع اقتصاد كوردستان المستقل حتى الآن في إنقاذ مواطني إقليم كوردستان من سطوة بغداد، ورغم أن مشاكل ستراتيجية رافقت هذا المشروع، فإن بغداد تذرعت في كل مرة بذريعة لقطع صرف رواتب مواطني إقليم كوردستان، وأبرز ذرائعها هو الحد من الفساد في وقت يأتي العراق حسب تصنيف الفساد والشفافية للعام 2019 في المرتبة 162 بين 180 دولة، وبينما يعد العراق ثاني دولة منتجة للنفط.

إحصائيات الفساد في العراق تقول شيئاً غير ذلك

في كانون الثاني 2018، أعلنت هيئة النزاهة العراقية أن متابعاتها بينت اختفاء أكثر من 350 مليار دولار في العراق أنفق في مشاريع وهمية وعمليات تبييض أموال في بنوك خارج العراق. قبل ذلك، وفي نيسان 2015، صدر عن اللجنة المالية بمجلس النواب العراقي بيان خطير قال فيه إن مبلغ 360 مليار دولار اختفى في فترة حكم المالكي.

وفي آخر متابعة، قدر الدخل المالي للعراق منذ سقوط النظام السابق وحتى العام 2019 بألف مليار دولار، وحسب لجنة النزاهة تم إنفاق أكثر من نصف ذلك المبلغ (أكثر من 500 مليار دولار) في مشاريع وهمية. فلم توفر الحكومات العراقية مباني ولا طرقاً ولا مستشفيات ولا حتى مياه شرب لمواطنيها.

وأعلن رئيس الوزراء العراقي في العام 2018 وبصورة رسمية أن الفساد أدى إلى اختفاء أكثر من 450 مليار دولار في العراق من أصل 850 مليار دولار منذ العام 2003. اختفاء هذا المبلغ ليس بالأمر الهين وهو موضع تأمل، فبإمكان هذا المبلغ إعادة إعمار أوروبا ثلاث مرات ويبقى منه 50 مليار دولار. هذه الأرقام ليست خاطئة ولا مبالغاً فيها، بل يتوقع أن تكون الأرقام الحقيقية أكبر، فمثلاً يقول عضو مجلس النواب العراقي السابق ورئيس حزب الأمة، مثال الآلوسي، إن الفساد المالي والإداري في العراق أكبر من أن يحصى، وإن ما خسره العراق يعادل أضعاف ما تتحدث عنه هيئة النزاهة والجهات ذات العلاقة.

يمكن حصر سبل الفساد ذاك في صورتين أو شكلين:

الشكل الأول: المشاريع الكبيرة ذات الموازنات المليارية

1- مشروع تطویر قناة الجیش:

في 2011، تم صرف 148 مليار دولار لتنفيذ هذا المشروع في بغداد، وأحيل تنفيذ المشروع إلى شركتين أردنية ومصرية. في نفس الوقت، وعند الإعلان عن المشروع أعلنت وزارة الموارد المائية العراقية، كما جاء في تقرير صحفي، عن استعدادها لتنفيذ المشروع بربع الميزانية المخصصة لها، لكن تم الإصرار على إسناد المشروع إلى الشركتين العربيتين. في الأخير، وللأسف، لم يتم إكمال المشروع ولم تجر إعادة المبلغ إلى خزينة الدولة، بل تبين أنه ليس للشركتين أي سجلات لدى الحكومة العراقية.

2- المشروع رقم 1 التربوي:

في 2011، تم طرح هذا المشروع الخاص بالقطاع التربوي، وكان المشروع يقضي ببناء 1700 مدرسة في مجمل محافظات العراق خلال فترة سنتين، وخصصت الحكومة 200 مليار دولار للمشروع. خلال المرحلة الأولى من المشروع تم هدم مئات المدارس في مختلف محافظات العراق وبحجج غير مقنعة وعلى أمل بناء مدارس جديدة بمعايير حديثة وعصرية. فقد تم هدم 172 مدرسة في محافظة ديالى وحدها، ورأى رئيس مجلس المحافظة أنه لم تكن هناك حاجة أصلاً لهدم تلك المدارس لأنها كانت جديدة. للأسف لم يتم بناء مدارس جديدة ولم تعد المدارس القديمة قائمة، وأهدرت الأموال المخصصة بين الجانبين.

3- مشروع الأساس الثقافي:

في 2013، تم اختيار بغداد عاصمة للثقافة العربية وخصصت الحكومة العراقية 500 مليون دولار لتنفيذ هذا المشروع الذي كان مقرراً أن يكتمل ويؤثر خلال أربع سنوات على كل الدول العربية، لكن المبلغ اختفى بين الشركة المنفذة وبين الحكومة العراقية وبات كل منهما يتهم الآخر واتخذت المحكمة موقف المتفرج الذي لا حول له ولا قوة.

4- قطاع الكهرباء:

في 20 آذار 2016، تم صرف 46 مليار دولار لحل مشكلة الكهرباء. حيث أن العراق الذي يحتاج إلى 23 ألف ميغاواط من الكهرباء، لديه ألف ميغاواط من الكهرباء، وهذه الكمية في تراجع مستمر. المبلغ الذي تعرض للهدر يعادل مبلغاً يستطيع تأمين شقة في أرقى بقعة بأوروبا لكل مواطن عراقي، في حين يستورد العراق حالياً نحو 90% من حاجته إلى الكهرباء من إيران.

5- 149 مليار دولار كلفة شراء أسلحة لجيشٍ سلم أغلب مناطق السنة لداعش بدون قتال، ثم أنفق 6.1 مليار دولار لتحرير تلك المناطق. يتحدث عضو مجلس النواب العراقي، رحيم الدراجي، عن أن كل هذه المبالغ ضاعت في تدريب الجيش كما هي الحال في المشاريع الوهمية والعقود المزورة. حيث تم إنفاق مبلغ يتراوح بين 60 و70 ألف دولار على تدريب كل عنصر في الشرطة العراقية في الأردن، وشارك آلاف من عناصر الشرطة في تلك الدورات التدريبية. كما يتحدث الدراجي بطريقة ساخرة عن عقد شراء عربات (هَمَر) وكيف أنه بعد صرف المبلغ لشركة لتقوم بتأمين تلك العربات، هربت الشركة بالمال ولم تأت العربات.

الشكل الثاني: في مجال استيراد وشراء البضائع

لم يتوقف فساد الحكومة العراقية عند المشاريع الكبيرة ولم ينحصر في العام 2015، بل امتد إلى كل مفاصل البلد وفي كل وقت وحين.

أعلن النائب المستقل، كاظم الصيادي: تم إنفاق أكثر من 45 مليار دينار على احتياجات صغرى كالملابس والخوذ والأحذية ومعطر الجسم والصابون وغيرها من التفاصيل الصغيرة.

الطماطة والرقي الإيراني

يشير تقرير رسمي لوزارة التجارة والصناعة بخصوص الاستيراد، إلى أن العراق استورد في 2016 خمسة ملايين كيلوغرام من الطماطة من إيران بقيمة مليون دولار، بينما تم في 2017 استيراد 6.5 مليار كيلوغرام من الطماطة بقيمة 1.6 مليار دولار. كمية الطماطة المستوردة هذه تعادل ما استوردته كندا وإسبانيا وبريطانيا من الطماطة في نفس السنة.

وبالنسبة للرقي في سنة 2016، فقد تم إنفاق 16 مليون دولار على استيراده من إيران، وبلغت قيمة المستورد منه في السنة التالية 2.8 مليار دولار، وجاء ذلك بعد أن أعلن رئيس الوزراء العراقي حينها، حيدر العبادي، الحرب على الفساد، وأعلن المتحدث باسم وزارة الزراعة العراقية، حميد النايف، في تصريح له أن ذلك المبلغ كبير جداً لإنفاقه على استيراد الرقي، لكن هذا ممكن الحدوث في العراق، لأن التعامل فيه يجري مع عصابات مافيا كبرى.

قبل 2003، كان العراق يوفر أكثر من 90% من حاجة العراقيين بالاعتماد على المنتج المحلي، لكن تلك النسبة تراجعت بعد 2003 ليجد العراق نفسه مضطراً لاستيراد 90% من احتياجاته من الخارج، وأغلب السلع المستوردة يأتي من الجارة إيران، بحيث أن استيراد السلع والبضائع الإيرانية ارتفع بعد 2003 تدريجياً حتى بلغ 17 ضعفاً في 2018، وتم في كل سنة إنفاق 17 مليار دولار لشراء السلع والبضائع الإيرانية. إن هذه البيانات تشبه لعبة أطفال في الواقع.

كيف يتسنى لدولة، تنفق بعد إعلان الحرب على الإرهاب 90 مليار دولار سنوياً على استيراد اللفت والشوندر، كيف يتسنى لها أن تخطو باتجاه بر الأمان. الغريب المثير أن وزير الزراعة أعلن أن تجار اللفت والشوندر هددوه بإقصائه عن الوزارة.

لا شك أن المرء حين يطلع على هذه البيانات والنتائج سيعلم سبب ارتفاع نسبة البطالة في العراق وإلى جيب أي دولة تذهب أموال العراق. لذا من الطبيعي أن يجري العمل بانتظام على إغلاق المصانع في العراق. فقد بينت متابعة أن سبب فقدان 630 ألف عامل في القطاع الخاص العراقي وظائفهم هو إغلاق أغلب مصانع ومعامل وسط وجنوب العراق. هذا الإغلاق كان نتيجة استيراد سلع وبضائع الشركات الإيرانية بأسعار زهيدة وبجودة متدنية، الأمر الذي يؤيد الشائعات التي تقول إن إيران تصدر متعمدة وبانتظام تلك السلع بأسعار متدنية لتضطر المعامل العراقية إلى الإغلاق وتعطل الإنتاج المحلي، لأن إيران كانت تخطط لتصدير ما قيمته أكثر من 20 مليار دولار من البضائع إلى العراق في 2015.

وبينما كنت أطلع على تلك البيانات، خطر لي تصريح لوزير الزراعة في الكابينة الثامنة لحكومة إقليم كوردستان، عبدالستار مجيد، الذي قال صراحة: عند منع استيراد المنتجات الزراعية الإيرانية تضغط علينا الحكومة الإيرانية لإفساح المجال لدخول بضائعهم، لكننا نرفض.

هذه البيانات والأحداث تقودنا إلى الاستنتاج بأن الدول الإقليمية تعمل على تدمير جارتها وفق برنامج يهدف إلى الترويج لمنتجات شركاتها والربح من وراء ذلك.

ارتفاع نسبة استيراد البضائع بهذه الطريقة العشوائية والمشبوهة جعلت العراق يأتي في المرتبة الأولى بين الدول من حيث تبييض الأموال.

هل بإمكان بغداد أن تجري إصلاحات؟

أعلن رئيس هيئة النزاهة، عزت توفيق، مصادرة 270 مشروعاً وهمياً وغير مكتمل في كربلاء وحدها، ووضع أوراقها في 2019 تحت المشرط. لكن المؤسف أن الأجل سبقه وتم العثور على جثته في سيارته التي تعرضت لحادث سير مشبوه. هذا الحادث دعم أقوال عضو مجلس النواب وعضو لجنة النزاهة النيابية، مشعان الجبوري، الذي قال صراحة إنه ليس في اللجنة عضو يستطيع إثارة ملف فساد معين وكشف بيانات عنه خوفاً على حياتهم، لأن الفاسدين أقوى وبات الفساد ثقافة ومفخرة.

ليس هذا فحسب، بل أن الحكومة الاتحادية عاجزة حتى عن إعادة إعمار الطرق الرئيسة في المدن المحررة من سيطرة داعش. فبينما تم تخمين الأموال اللازمة لإعادة إعمار المدن والقصبات المحررة من داعش بـ88 مليار دولار، ويبلغ العائد السنوي للحكومة الاتحادية ضعف ذلك المبلغ، فإن الحكومة لم تخصص أي مبلغ للإعمار. ليس هذا فحسب، بل لقد تم جمع مساعدات من الكثير من الأثرياء العرب غير العراقيين وبعض الأثرياء في أميركا، لكنها لم تخصص لخدمة تلك المناطق.

وحسب استطلاع ميداني معتمد، رأى أكثر من 50% من المشاركين في الاستطلاع أن الفساد في العراق في تصاعد مستمر، بحيث يحتاج مواطن عراقي لإجراء معاملة عادية من المعاملات اليومية، إلى دفع رشاوى أربع مرات في السنة الواحدة.

وتزيد قصة محافظ واحدة من محافظات جنوب العراق الحقيقة المرة وضوحاً، عندما يطلب منه مدير مكتب الوزير المعني رشوة لقاء تنفيذ مشروع خدمي في محافظته، والأمرّ من ذلك أن شكواه لم ينظر فيها حتى من جانب رئيس الوزراء نفسه.

نتائج سوء استخدام الثروة العراقية جعل الأرقام لا تبشر بخير، ولهذا بات العراق في ذيل القوائم الدولية، بل أنه عجز عن خوض المنافسة في بعض التصنيفات الخاصة بالقطاعات الرئيسة، وبقي خارج التصنيف، ومنها قطاعات التعليم والانتعاش الاقتصادي.

نتائج التصنيفات الأخرى أيضاً محزنة، بحيث أن العراق يأتي:

- في المرتبة 151 بين 152 دولة حسب تصنيف منظمة الصحة العالمية.

- في المرتبة 159 من 163 دولة من حيث السلم العالمي.

- في المرتبة 168 من 180 دولة من حيث الفساد، بل كان في بعض السنوات التي تلت 2003 الدولة السابعة الأكثر فساداً في العالم.

- في المرتبة 143 من بين 149 دولة من حيث انتعاش البلد.
 
- في المرتبة 74 بين 119 دولة من حيث الجوع.

- في المرتبة 126 من بين 156 دولة في تصنيف الرفاهية.

- الجنسية العراقية إلى جانب الجنسية الأفغانية هما أسوأ الجنسيات عالمياً.

الإحصائيات الرسمية لسنة 2019 الخاصة بالبطالة ونقص الخدمات والفقر، تشير إلى نسبة 22.5%، وفي نفس الوقت تشير إحصائيات البنك الدولي إلى أن نسب الفقر في العراق تتوزع كالآتي:

- 41% في المناطق المحررة من داعش.

- 30% في جنوب العراق.
 
- 23% في وسط العراق.
 
- 12.5% في إقليم كوردستان.
 
وتشير بيانات صندوق النقد الدولي للعام 2018 إلى أن نسبة البطالة في العراق تجاوزت 40% والذي يعادل 14.8 مليون مواطن عاطل عن العمل، ويمكن لموضوع إغلاق المصانع والمعامل وتبييض الأموال في دول خارج العراق وغياب الأمن أن يفسر ارتفاع نسب البطالة في وسط وجنوب العراق، كما أن هذه الأمور تجعل من احتمال القضاء على الإرهاب مستحيلاً.

من الذي يقود العراق... عصابات المافيا أم القانون؟

وقع العراق بالكامل في يد عصابات المافيا، والحكومة لديها السلطة ظاهرياً، لكن السلطة في الواقع للمافيا ومنها تجار المواد المخدرة على سبيل المثال.
 
تم في العام 1998 تسجيل حالتين وحيدتين للاتجار بالمواد المخدرة. كان هذا الانخفاض في عدد الحالات نتيجة لاتباع الإجراءات اللازمة والعقوبات القانونية الشديدة التي يفرضها قانون العقوبات العراقي على المتعاملين بهذه المواد. لكن المؤسف أن تقريراً لمنظمة الأمم المتحدة أشار إلى وجود ثلاث حالات إدمان للمواد المخدرة من بين كل عشر حالات مرضية بين الراقدين في مستشفى ابن رشد للأمراض النفسية، وأن أعمار هؤلاء المدمنين كانت تتراوح بين 17 و30 سنة. بل أن المصادر أشارت إلى أن واحداً من بين كل ثلاثة جنود عراقيين يتعاطى المواد المخدرة، ويعود سبب ارتفاع عدد متعاطي المواد المخدرة إلى التسهيلات القانونية التي خففت كثيراً من عقوبة المتاجرين بتلك المواد. فقد تم في سنة 2011 تخفيف عقوبة المتاجرة بالمواد المخدرة إلى السجن ستة أشهر، بينما كانت عقوبة المتاجر بالمواد المخدرة قبل 2003 تصل حد السجن المؤبد والإعدام شنقاً إلى جانب مصادرة أموال التاجر وممتلكاته.

الماء الصالح للشرب.. الخطر المحزن

في صيف 2018، أدخل أكثر من 118 ألف مواطن في محافظة البصرة إلى المستشفيات نتيجة الآثار السلبية لنوعية مياه الشرب، حيث لم تتمكن الحكومة العراقية حتى الآن من توفير المياه الصالحة للشرب لمواطنيها، وبهذا فإن حياة ثلاثة ملايين مواطن في محافظة البصرة مهددة، وقد قامت منظمة يونيسيف الأممية في 2018 بتوزيع 300 مليون لتر من الماء على 120 ألف عائلة لإنقاذها من مخاطر آثار شرب المياه غير الصحية.

وحسب هيئة النزاهة العراقية، فإن عدد المشاريع الوهمية والمتوقفة في محافظات العراق هي كالآتي: بغداد 700 مشروع، البصرة 233 مشروعاً، بابل 262 مشروعاً، كربلاء 274 مشروعاً، النجف 143 مشروعاً، والأنبار 746 مشروعاً، وكما أسلفنا فإن ملفات هذه المشاريع لا يمكن حسمها ومن يحاول ذلك يلقى مصير رئيس هيئة النزاهة.

لم لا نتساءل لماذا ليس العراق مستعداً للاستفادة من الغاز السعودي في حين يمكن شراؤه بسعر يقل عن نصف سعر الغاز الإيراني؟ الجواب واضح، وهو أن اتخاذ القرار بشأن هذه الملفات ليس في يد العراق. إذن كيف يمكن لدولة لا تتحكم في قراراتها أن تقوم بالإصلاح، فالإصلاح في حد ذاته يعني منع خروج الأموال وذهابها إلى الدول المجاورة.

هل إقليم كوردستان على خير ما يرام؟

لا شك أنه ليس كذلك. قبل 2003، لم يكن عدد الموظفين في العراق يتجاوز 850 ألفاً، بينما يوجد في العراق الآن ثلاثة ملايين موظف و3.3 مليون متقاعد، ويوجد في إقليم كوردستان عدد مقارب لهذا العدد.

كان تسريع تعيين الموظفين سبباً رئيساً في الضغط على الميزانية العراقية، لكن إن كان الأمر موضع شك للحكومة العراقية فهو أكثر إثارة للشكوك في إقليم كوردستان. فمن بين 38 مليون مواطن عراقي هناك فقط سبعة ملايين متقاضي رواتب (بضمنهم المتقاعدون) بينما من بين ستة ملايين الذي هو عدد سكان إقليم كوردستان، يوجد نحو 1.3 مليون متقاضي رواتب، وهذا ليس غير متوازن فحسب بل بعيد عن التوازن كل البعد.

ملف موظفي إقليم كوردستان هو نقطة ضعف إقليم كوردستان، لهذه الأسباب:

1- عدد الموظفين كبير.

2- يوجد بينهم من يتقاضى أكثر من راتب وصولاً إلى خمسة رواتب.

3- هناك عدد كبير من الدرجات الخاصة والرواتب العالية.

4- هناك عناوين وظيفية لا وجود لها في الواقع.

هذا الفساد خلق مشاكل كثيرة لإقليم كوردستان، ومنها:

1- تعيين عدد كبير من الموظفين جراء التنافس بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني، أدى إلى تراجع مشهود في القطاع الزراعي والإنتاج الحيواني بإقليم كوردستان.

2- ألقى ثقلاً كبيراً على الموظفين الحقيقيين.

3- وجود عدد كبير من العناوين الوهمية للموظفين، كالموظفين الفضائيين.

4- خفض تصنيف إقليم كوردستان عل قائمة (CPI).

ليست قضية متقاضي الرواتب الفساد الوحيد الذي يعاني منه إقليم كوردستان، فكل فرد في إقليم كوردستان يعرف هذه الحقيقة، وهناك كثيرون حتى من أحزاب السلطة عملوا على هذا الملف، وكشفت النتائج التي توصلت إليها هيئة النزاهة في إقليم كوردستان عن كل شيء في هذا المجال. لا أريد هنا سرد تلك البيانات لأن مواطني إقليم كوردستان يعرفون بيانات الفساد في إقليم كوردستان لكنهم غافلون عن بيانات الفساد في العراق المذهبي والطائفي والشوفيني. المقارنة بين الفساد في العراق وبين ذاك الذي في إقليم كوردستان غير ممكنة، ولأن عائدات العراق أكبر فإن مجالات الفساد أكبر بالتالي، إضافة إلى وجود معارضة قوية في إقليم كوردستان.

أشار تقرير منظمة الشفافية العالمية الذي تم تحديثه سنة 2018 وبوضوح إلى أن مستوى الفساد في إقليم كوردستان، رغم كونه أدنى مما في العراق، فإنه أعلى مما في الدول المجاورة. كما يشير التقرير بوضوح إلى أن العقبات التي تعترض سبيل مواجهة الإرهاب ببغداد أكبر من تلك التي تواجه إقليم كوردستان، والسبب هو اتساع دائرة الفساد لتشمل كل المفاصل إضافة إلى العقبات السياسية والأمنية والتسيب الإداري. لكن ذلك ليس أبداً مبرراً يجعل هدف إقليم كوردستان مقتصراً على التقدم على العراق ببعض درجات، بل يجب أن يتخذ إقليم كوردستان من أفضل دول العالم قدوة له.

هل أن قطع الرواتب قانوني؟

يجمع أغلب النواب الكورد في بغداد (رغم ملاحظاتهم على طريقة تعاطي حكومة إقليم كوردستان) على أن قائمة متقاضي الرواتب تمثل مشكلة وليست نظيفة، لكن اللجوء إلى قطع رواتب الموظفين ليس قانونياً، ومخالف للقانون رقم 10 للموازنة المالية العراقية لسنة 2019 بفقرتيه أولاً وثانياً ببنودهما الأربعة.

لماذا التطاول على رواتب الموظفين؟

تقر حكومة إقليم كوردستان بأن قائمة متقاضي الرواتب في إقليم كوردستان بحاجة إلى إصلاح ويجري العمل على ذلك، وبغداد تعرف هذه الحقيقة ليس منذ هذه السنة فحسب، وفي الموازنة المالية لسنة 2019 ورغم الملاحظات على قائمة متقاضي الرواتب فإنها اتفقت مع حكومة إقليم كوردستان، لكنها عادت للعب بتلك الورقة. أنا أرى أن الأسباب التي تقف وراء ذلك هي الآتية:

1- الاستعداد للآثار التي تظهر بعد كورونا. حيث توقعات هبوط أسعار النفط واحتمالات عدم استيراد الاحتياجات الغذائية لعدم توفرها مستقبلاً تضع العراق في مواجهة أزمة شديدة، في حين لم يجف عرق المتظاهرين بعد. هذا الاحتمال يزيد من صعوبة مهمة رؤوس الحكومة الاتحادية الذيم هم الآن بحاجة إلى مناورة احتجاجية، على الأقل ليقولوا للعراقيين: أنظروا كيف ندافع عن حقوقكم!

2- ورقة ضغط سياسي. يعتقد بعض المراقبين أن هذه لعبة إيرانية وهي ورقة ضغط لإرغام إقليم كوردستان على التوقف عن مساندة بقاء القوات الأميركية في العراق، ويتوقف مطار حرير ونظام باتريوت الدفاعي عن إقلاق إيران.

3- في الفترة (2003-2015) قتل أكثر من 35 ألف مواطن مدني في العراق، الأمر الذي أدى إلى تصفية ورحيل غالبية أصحاب الشهادات والأثرياء إلى إقليم كوردستان وخارج العراق، في حين شهد إقليم كوردستان في نفس الفترة تقدماً عمرانياً مشهوداً واستتب الأمن في محافظات إقليم كوردستان الثلاث ما أدى إلى جذب رؤوس أموال أجنبية كثيرة وتوفير فرص عمل حتى سنة 2015، ولهذا فإن إحصائيات البنك الدولي سجلت أدنى نسب البطالة في العراق في إقليم كوردستان والتي بلغت 12.5%، في حين أن أفضل الأحوال سجل في وسط العراق وكانت نسبة البطالة هناك 23%. انتقلت أخبار تتحدث عن خدمات الماء والكهرباء وغيرها المتوفرة في إقليم كوردستان (رغم عيوبها ونواقصها) والمفقودة في العراق إلى مواطني وسط وجنوب العراق من خلال الإعلام والمواطنين والموظفين العراقيين المقيمين في إقليم كوردستان. هذه الحقائق تحدث عنها الكثير من الناس ومنهم من تحدثوا في (ملتقى ميري، مستقبل العراق وإقليم كوردستان بعد أحداث أكتوبر). حيث عرض العضو السابق في برلمان كوردستان والمستشار الحالي لرئيس جمهورية العراق هذا الاختلاف بوضوح. من خلال قطع المستحقات المالية لإقليم كوردستان ورواتب موظفيه، تتلاعب الحكومة العراقية بهذه المعادلة لعلها تعمل شيئاً يعكس الآية لصالحها.

4- يقال إن قطع رواتب موظفي إقليم كوردستان خيار جيد آخر للحكومة الاتحادية لتناسي المشاكل الرئيسة من قبيل المادة 140 وكركوك ومحافظة حلبجة والعديد من المشاكل الرئيسة الأخرى. فإثارة مشكلة رواتب الموظفين ضغط قوي يحول دون طرح القضايا الرئيسة الأخرى على طاولة الحوار.

5- اختلاق مشكلة لاستعطاف المواطنين العراقيين من خلال إظهار أن للحكومة أعداء وأن الوقت ليس وقت الضغط عليها من الداخل، مثلما فعل السياسيون العراقيون الذين اتهموا حكومة إقليم كوردستان ببيع النفط لإسرائيل من أجل تحشيد تعاطف المواطنين لهم.

6- مهما كانت بغداد أكثر فساداً من أربيل، فإنها في النهاية بغداد وتستطيع محاسبة أربيل، فبغداد هي المركز ومنها تأتي السلطات.

ما الحل؟

تقول العرب: "فاقد الشيء لا يعطيه"، والعراق دولة منهارة فاسدة لا نفع منها، ونقطة القوة الوحيدة للعراق هي أنه دولة ذات سند قانوني ويحظى بالدعم الدولي ويستطيع ممارسة نشاطات لا يمكن لإقليم كوردستان ممارستها، وإلا فإن العراق لا يتمتع بأي نقطة إيجابية. ليس تأمين رواتب لثلاثة ملايين موظف من أصل 38 مليون مواطن بالأمر المثير، في وقت يعد فيه العراق ثاني الدول من حيث إنتاج النفط. هذا يعني بأن أفضل خيار متاح لإقليم كوردستان هو الاعتماد على الذات، وأن لا يفكر بأي شكل في تسليم كل مشروعه الاقتصادي المستقل. بل نستطيع القول إن الحل يتمثل في النقاط الآتية:

أولاً: تمتين الصفوف في الداخل. أرى أن هذه النقطة يمكن أن تتحقق على يد الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني أكثر من غيرهما. على الطرفين نبذ نقاط الخلاف والعمل معاً لتعديل حال كوردستان المائلة خدمة للمصلحة العامة. الاثنان معاً.

ثانياً: إكمال مشروع الإصلاح على أرض الواقع.

في علم إدارة الأزمات، يعد قلب الطاولة لصالحك واحداً من الفنون. لم تتمكن حكومة إقليم كوردستان حتى الآن من إتمام إصلاح قائمة رواتب الموظفين، وبهذا أثارت استياء كثيرين منها مقابل انتفاع قسم صغير، لهذا يمكن استغلال الضغط الذي تمارسه بغداد لصالح مشروع الإصلاح ووضع اللبنة الأخيرة في بناء الإصلاح. عندها سترسل قائمة متقاضي الرواتب الصحيحة إلى بغداد وتتصالح مع المواطنين.

ثالثاً: ترسيخ شفافية تامة وفعلية في عائدات إقليم كوردستان وإرضاء أكبر نسبة من المواطنين والأطراف والمؤسسات والمنظمات وإنفاقها بعدالة.

رابعاً: العمل على تشجيع المنتج المحلي في قطاعات الصناعة والزراعة والإنتاج الحيواني وسائر القطاعات التي يعول عليها في إقليم كوردستان. تشجيع قطاع السياحة كواحد من مصادر الدخل، خاصة في السنة الحالية، حيث هناك فرصة جيدة لقدوم السياح من جنوب ووسط العراق، لأن أغلبهم لا يستطيع السفر إلى الخارج.

الاستنتاجات:

أعلم أن الناس مستاؤون بسبب عدم صرف الرواتب وتأخير صرفها، ويبحثون عن بديل، لكن لا يمكن الاعتماد على خيار ميت. الحكومة الاتحادية العراقية أشبه بجسد مريض، لا يقوى على الوقوف على قدميه، لذا لا يمكن أن يكون موضع أمل لإقليم كوردستان، بل تجب مداراته مع الاعتماد الكامل على أنفسنا. يجب أن يرى المواطنون بصورة أوضح أن الحكومة العراقية تأتي ثانياً بعد السعودية من حيث إنتاج النفط، لكنها لم تستطع على مدى 17 سنة الأخيرة إنجاز أي مشروع ستراتيجي خدمي، بل على العكس فإنها في تراجع مستمر. ليس تأمين رواتب الموظفين بالعمل الجبار عندما تكون الحكومة عاجزة عن توفير الكهرباء والماء والأمن والغذاء والخدمات الصحية.

المصادر:
 
The Iraqi economy between corruption and politics. Researcher Shatha Khalil, Translated by: mudhaffar al-kusairi.2020. Rawabet Center for research and strategic studies.
 
Corruption perceptions index 2019. Transparency International. 
 
Iraq: overview of corruption and anti-corruption. 2013. Anti-corruption Resource Center. 
 
Kurdistan region of Iraq: overview of corruption and anti-corruption 2013. Anti-corruption Resource Center. 
 
Iraq: overview of corruption and anti-corruption. 2015. Anti-corruption Resource Center.
 
Kurdistan region of Iraq: overview of corruption and anti-corruption 2015. Anti-corruption Resource Center.
 
The Legatum prosperity index, 2019.
 
Global Hunger Index by Severity, 2019. 
 
Corruption and Integrity in Iraq’s Public Sector.United Nations Iraq. 2020.
 
Iraq’s water and sanitation crisis adds to dangers faced by children and families. Ban Dhayi, 2003. Unicef-Iraq.
 
Basra is Thirsty, Iraq’s Failure to Manage the Water Crisis. 2019. Human Rights Watch.
 
هدر عشرات المليارات شهرياً.. كم عدد "الموظفين الفضائيين" في كردستان؟ 2019. الترا عراق.

تقرير دولي يصنف العراق كأخطر دولة في تبييض الأموال. 2017. المعلومة.

كارثة العراق: ستة ملايين موظف عام يعملون 10 دقائق یومیاً. أيسر جبار. رصیف 22. 

الفساد في العراق.. معلومات وأسماء ووثائق تكشفها "الحرة". معن الجيزاني- واشنطن، 2020 . Alhurra.com.

الفساد في العراق.. حقائق وأرقام. 2018.Alhurra.com.

وزير المالية: عدد الموظفين والمتقاعدين بلغ 6.5 مليون. 2019 . Alamadapaper.net

20 قصة فساد.. كيف ضاعت 500 مليار دولار في العراق؟ أحمد هادي. عراق ULTRA.

ملفات "الفساد" في العراق.. الأرقام والأسباب. 2019.skynewsarabia.com.

برنامج (شیفرة) في قناة (العربي)، الموضوع (العراق.. سنوات الفساد).
 
برنامج (من بغداد) على قناة (التغيیر) مع عضو مجلس النواب السابق (رحیم الدراجي)، 2019.
 
برنامج (من بغداد) على قناة (التغيیر) مع عضو مجلس النواب السابق (کاظم الصیادي)، 2018.
 
برنامج (من بغداد) على قناة (التغيیر) مع وزير الزراعة العراقي (صالح الحسني)، 2020.

برنامج (الحرة تتحری) بعنوان (الفساد الدیني في العراق) على قناة (الحرة).

برنامج (الحرة تتحری) بعنوان (حقیقة التبادل التجاري بین العراق وایران) على قناة (الحرة).
 
برنامج (الحرة تتحری) بعنوان (ایران وشبكة غسيل الأموال فی العراق) على قناة (الحرة).

تقرير (الکهرباء.. أکبر فساد فی تاریخ العراق) شبكة (INP PLUS) الإعلامية، 2016.
 
تقرير (طبقات الفساد فی العراق) شبكة ( الجزیرة بلس) الإعلامية، 2016.
 
تقرير (هكذا تضغط إيران على العراق!) على قناة (العربیة)، 2016.

لقاء د. أحمد الصفار- مقرر اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي مع شبكة رووداو الإعلامية.

مؤتمر صحفي (د.غالب محم و سەرکەوت شمس الدين) عضوا مجلس النواب العراقي – مكتب السليمانية.
 
مداخلة لعضو برلمان كوردستان السابق، سالار محمود في (ملتقى ميري، مستقبل العراق وإقليم كوردستان بعد أحداث أكتوبر).

لقاء د. مثنى أمين عضو مجلس النواب العراقي مع  (Suli time).
 
تقرير (المخدرات فی العراق بالارقام) شبكة (INP PLUS)، 2016.
 
تقرير (هكذا تحول العراق من بلد زراعي إلى مستهلك) شبكة (INP PLUS)، 2016.

 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب
 

آخر الأخبار

حيدر البرزنجي

ضربُ منشآت الإقليم النفطية طعنة في خاصرة السيادة العراقية

في ظل التعقيدات الإقليمية المتزايدة، والتحولات الجيوسياسية التي تعصف بالشرق الأوسط، لم يعد العراق بمنأى عن دائرة الاشتباك غير المعلن. فالدولة التي بدأت تستعيد بعض عافيتها بعد سنوات من الحرب، والصراع، والتقاطع السياسي، باتت اليوم تواجه تحدياً جديداً يُضرب هذه المرة في خاصرتها الاقتصادية: المنشآت النفطية في إقليم كوردستان.