تمر علينا كل عام وبالتحديد في التاسع من شهر أيار، الذكرى السنوية لرحيل الشاعر واللغوي والفيلسوف الكوردي "الملا أحمد بالو" طيب الله ثراه، ومع بعض الاستثناءات القليلة، فلا عجب في أن تمر هذه الذكرى مرور الكرام وبصمت وتجاهل على كافة المستويات. ذلك أن الأوفياء والصادقين من أمثال المرحوم بالو، لا يتم تجاهلهم وعدم الالتفات إليهم في حياتهم فقط، بل حتى وهم في قبورهم المظلمة الموحشة. لقد عانى بالو من الإهمال والنسيان في دنياه الفانية وآخرته سواءً بسواء.
وسيراً على نهج المثقفين والمنورين الحقيقيين، فإن المرحوم بالو الذي عمل بصمت وفي ظروف حياتية ومعيشية صعبة بل شديدة الصعوبة كاليتم في سن مبكرة والبقاء دون قريب أو معين، قدم خدمات جليلة وكبيرة للثقافة والأدب الكورديين، ولم يسعَ يوماً إلى الشهرة وذياع صيته رغم أن هذا حق طبيعي له، لكنه عمل بدأب ومثابرة ولم يستسلم لظروفه القاهرة، بل قام بتدوين سيرته شعراً ودون معاناة شعبه الكوردي المظلوم في قصائد خالدة رصينة وبلغة كوردية جزلة بلفظها وعميقة بمعانيها الشعرية وبخيال شعري واسع وخصب، وأتذكر هنا مقولة شاعرنا الجميل "دلدار ميدي" أثناء حديثنا ذات مرة عن المرحوم بالو حينما قال لي: "إن بالو هو أدبنا الجاهلي، ومقام بالو في شعرنا الكوردي كمقام شعراء الجاهلية الكبار في الأدب العربي"، وبالفعل فإن الملا أحمد بالو لا يقل فحولة شعرية عن شعراء مثل طرفة بن العبد وامرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى وغيرهم، كلٌّ في لغته وعصره، لكن ما يميز بالو عنهم أنه كوردي و"ليس للكوردي إلا الريح" كما يقول محمود درويش في قصيدته الشهيرة عن سليم بركات.
كان الشاعر أحمد بالو بحراً في اللغة الكوردية، وبالإضافة إلى لغته الأم الكوردية، كان بالو يتقن اللغات العربية والتركية والفارسية، وإلى جانب اللهجة الكرمانجية التي كان يتحدث ويكتب بها، كان بالو يتقن اللهجات الكوردية الزازاكية "لهجته الأصلية" والسورانية.
ونتيجة لتبحر بالو في اللغة الكوردية ومعرفته العميقة بها، فإن لغته الشعرية تحوي سحراً خاصاً ومميزاً وتدعو قراءها للخوض في لجج وعباب ذاك البحر العميق والشاسع وتشعل لديهم الرغبة في رؤية الدرر والجواهر الدفينة والمخبأة في ذلك البحر. كوردية بالو الرصينة والمحكمة في سبكها والموسيقى التي تموج بين ثنايا أبياته الشعرية وقصائده تأخذ بلب القارىء وتجعله لا ينفك عن القراءة إلى آخر بيت. كما أنها بعمقها ومعانيها الكثيرة تعبر عن كل الآلام والمآسي الشخصية للشاعر وآلام ومآسي الشعب الكوردي.
من الممكن اعتبار الملا أحمد بالو شاعراً كوردياً كلاسيكياً، وأحياناً تذكرنا قصائده وشعره بعظمائنا الكلاسيكيين مثل أحمد خاني والملا الجزري فقيه طيران. لكن ورغم كل النقاط المشتركة بينه وبين الشعراء آنفي الذكر، فإن بالو يبقَ ابن عصره وصاحب فلسفة خاصة به. أكاد أقول جازماً – وهو رأيي الشخصي على أي حال – أن بالو بطريقة أو بأخرى لا يشبه أحداً سوى نفسه. اختصار بالو يشبه بالو فقط. استخدامه للغة الكوردية مختلف وخاص. صوره الشعرية مميزة ولا تشبه الصور الشعرية لغيره، بل هي نابعة من تجربته الشخصية ومعاناته التي لا توصف. بنية جمله الشعرية مختلفة، وكما قلت، ثمة موسيقى عجيبة بين سطوره تعزف بشكل خفي لكن محسوس لحناً كورمانجياً أصيلاً، وشخصياً حينما أنهمك أحياناً بقراءة أشعار المرحوم بالو، أشعر كما لو أن أمواجاً كثيرة تتدافعني وتقذف بي في عباب بحر لا بداية له ولا نهاية، ولا منقذ أو منجي من الغرق سوى لغته الكوردية السلسلة والعذبة.
تقع مدينة "بالو" التي ينسب شاعرنا المرحوم إليها، في شمال كوردستان "تركيا" وهي إحدى مناطق "مزرا" أو معمورة "العزيز" ضمن محافظة خاربيت (إلازغ) شرق تركيا الحالية. لكن بالو ونتيجة للظلم والضيم الذي لحق بالكورد على يد أعدائهم، وفي ذات الوقت نتيجة للحياة الشاقة والصعبة في تلك الفترة، اضطر للهجرة من مدينته "بالو"، وفي هجرته تلك عانى بالو الأمرين ولقي مصاعب شتى يعحز اللسان عن وصفها، حيث بقي فترة طويلة مشرداً بلا مأوى ودون ماء أو طعام، ويذكر بالو في إحدى قصائده أنه اضطر لأن يأكل أوراق الشجر في الفلاة والبرية، وأن ينام فوق أغصان الأشجار العالية ليحمي نفسه من هجوم وحوش وحيوانات البرية الجائعة!، ولم يبق من منفذ لبالو سوى أن يُيمم وجهه شطر غرب كوردستان ومنطقة الجزيرة "سوريا"، وظل هناك حتى آخر يوم في حياته.
لكن بالو لم ينس يوماً قريته ومدينته الأولى ومسكن آباءه وأجداده، وله قصائد كثيرة خالدة عن مدينته "بالو"، سيما قصيدته المعنونة (أمنيتي هي رؤية بالو) التي كتبها عام 1960 والتي يقول فيها: "بالو، أنت موطني ومسكني. أنت بالنسبة لي عش. لم أرَ بهذا الشكل. ولعيني أنت منظار. أنت أمنية القلب والروح. أنظر يمنة ويسرة لا أراك. أنت مطلب الروح الحيرى. أنت الزهر والريحان والنسرين. وفي قيود العدو الشرير. لم تر هناءةً أو انبعاثاً، وفي سجن الخونة والمشمئزين. تارة تصبحين حمراء وتارة سوداء وزرقاء. أنت في الفلاة سجينة مرمية. كم أنت عاجزة وبائسة، وأنت في حد المهند والدرع لا ترين البهاء مرة. أنت في سجن النار والحقد. أنت موطني ومسكني الجريح. لا حياة أو كرامة لك".
ترك السيد بالو وراءه الكثير من الأعمال الثمينة، لكن ومع شديد الأسف لم يُنشر حتى الآن سوى القليل من أعماله ونتاجاته الأدبية، ورغم الشكر الشديد لمن عمل على طباعة أعمال بالو ورؤيتها للنور، إلا أنها تضم الكثير من الأخطاء الكتابية والمطبعية لدرجة يصعب قراءتها، وما نشر من نتاجات السيد بالو كتاب لغوي بعنوان "قواعد اللغة الكوردية"، وديوان شعري بعنوان "التجوال والتطواف في كوردستان"، وبخصوص الكتاب الأول "قواعد اللغة الكوردية"، فقد صدرت طبعته الأولى عام 2011 وقام الشاعر الكوردي عبدالحميد يوسف "كاسي" مشكوراً بنقل الكتاب من الأبجدية الكوردية العربية إلى الأبجدية الكوردية اللاتينية، كما أنه كتب مقدمة الكتاب وقام سلام داري بالمراجعة اللغوية للكتاب، أما تصميم الغلاف فقام به كاميران كدو. لا شك في أن هذا الكتاب بما يحتويه من أخطاء وعثرات عديدة بحاجة لطباعة ثانية منقحة كي تعم فائدته ويصبح مرجعاً لتعلم اللغة الكوردية، سيما للأجيال الجديدة كما أراد المرحوم بالو.
أما الكتاب الثاني أو ديوانه المسمى "التجوال والتطواف في كوردستان"، فقد صدر للمرة الأولى عام 1994 في سوريا، وهو كذلك يحوي أخطاء كتابية ومطبعية. لكن ولحسن الحظ قامت دار النشر الكوردية "نووبهار" في شمال كوردستان "تركيا"، والتي تولي اهتماماً خاصاً بنشر وطباعة أعمال ونتاجات الأدباء الكورد الكلاسيكيين في عام 2018 بإصدار طبعة ثانية أنيقة ومنقحة لهذا الديوان من إعداد محمد يلدريم جاكار، وجاء في تقديم الشاعر أحمد بالو في الطبعة الثانية الجديدة: "الملا أحمد بالو شاعر كوردي من أصل زازائي (ظاظا)، لكنه كتب أعماله بالكوردية الكرمانجية. تعتبر قصائده من حيث الشكل كلاسيكية، لكنها حديثة من حيث مضامينها. كان بالو بارعاً ومتمكناً من فن الشعر، وقد وظَّف الوزن والقافية والإيقاع والفنون الأدبية الأخرى بلغة سلسة وجمالية عالية في أدبه، ومن حيث المعنى فإن قصائده عميقة جداً. يقوم الشاعر في ديوانه هذا عن طريق خياله الخصب بالتجوال والطواف في أجزاء كوردستان الأربعة متلحفاً بعباءة التاريخ، ويقوم بنظم القصائد الخالدة عن مدن وأنهار وجبال ومرتفعات كوردستان. يبدو بالو ها هنا كعاشق للكورد وكوردستان وناطقاً بلسان آلام وأوجاع وأحزان شعبه، ويثير الانتباه إلى حالة كوردستان المحتلة، وكذلك يبين لنا طريق خلاص وتحرر الكورد من نير الأعداء".
وهنا لا بد لي من تقديم الشكر لكل من ساهم في إعادة طبع هذا الديوان الجميل الذي وحسب نسخة "نووبهار" يتكون من 280 صفحة ويحوي على مقدمة وسيرة حياة وأعمال الملا أحمد بالو وقصائد كثيرة مثل: فرات – دجلة – بالو – بعض جبال كوردستان – آرارات – ديرسم – آمد دياربكر – مهاباد – موش ووان- بدليس – بارزان – وقاموس صغير وضعه بالو في نهاية الديوان".
وقد أخبرني السيد ريزان بالو، وهو نجل المرحوم الملا أحمد بالو بأن مطبعة "نووبهار" ستطبع قريباً الملحمة الشعرية الخالدة لملا بالو بعنوان "جفينا نمران - لقاء الخالدين" في جزئين، وهي ملحمة شعرية تتكون من 10 آلاف بيت شعري، وتعتبر هذه الملحمة الشعرية الكبيرة "لقاء الخالدين" واحدة من المؤلفات الهامة في تاريخ الأدب الكوردي الكلاسيكي التي لم تر النور حتى الآن. يحاول السيد بالو في أثره الأدبي هذا كتابة عمل شبيه بكتاب "رسالة الغفران" للكاتب والفيلسوف العربي الكبير، أبو العلاء المعري، وإغناء المكتبة الكوردية به.
يحدثنا الكاتب والشاعر الكوردي عبدالحميد يوسف "كاسي" الذي عاصر "بالو" ردحاً من الزمن ويعد نفسه أحد تلامذة بالو ويسير على نهجه الشعري والفلسفي عن هذه الحادثة قائلاً: "ذات مرة وقعت عينا بالو على كتاب (رسالة الغفران) لأبو العلاء المعري، وبمجرد رؤيته للكتاب هاجت مشاعره القومية وغيرته الكوردية الأصيلة وتعجب وتألم لعدم وجود كتاب كهذا الكتاب في المكتبة الكوردية، ولهذا السبب قام في فترة ليست بالطويلة وبهمة عالية ودونما كلل أو ملل بتأليف ملحمته الخالدة "لقاء الخالدين" على نهج وأسلوب المعري.
وأخيراً لا ضير أن نتذكر شاعرنا معاً: ولد الملا أحمد بالو عام 1920 في قرية "سيراجور" التابعة لمنطقة "بالو" في شمال كوردستان "تركيا". عَرف اليتم وعمره 3 سنوات فقط، لتبدأ رحلته الطويلة والشاقة مع الحياة حيث لاقى الصعاب الكثيرة وعانى من الآلام والأوجاع وشظف العيش وشدتها، وقام بالو لفترة من الزمن بالرعي في قرية "ويسيكة" ويمم وجهه شطر "بنخت" (غرب كورستان – سوريا) وعاش فترة من الزمن في قرية "خزنة" ثم ارتحل إلى عامودا ليستقر به المقام في مدينة قامشلو التي بقي فيها حتى وفاته، وقد توفي الملا أحمد بالو في التاسع من شهر أيار من عام 1991 "9/5/1991" ودفن في مقبرة محمقية في مدينة قامشلو.
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له أي علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الإعلامية.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً