في صباح الأربعاء الأول من شهر نيسان، ووفقًا للتقويم الشرقي الذي يسبق الغربي بثلاثة عشر يومًا، يحتفل الإيزديون بعيد يُعدّ من أقدس طقوسهم الدينية، ألا وهو عيد رأس السنة الإيزدية أو كما يُعرف في لغتهم الكوردية بـ"سەر ساڵ Ser sal"، والذي سيصادف في هذا العام 2025 يوم السادس عشر من نيسان.
إنه عيد ليس كباقي الأعياد، بل نافذة تُفتح على الذاكرة الكونية الأولى، وعلى قصة الخلق والتكوين والانبعاث، حيث تتداخل الأسطورة بالدين، ويترنّح التاريخ على إيقاع الورد والزيت والبيضة الكونية المقدسة.
هذا العيد الذي يُحتفل به في أجواء مشبعة بروائح الزهور وبهجة الطبيعة، يرمز إلى تجدد الحياة، ففيه تتفتح الأرض وتورق الأشجار وتزدهر الروح، لتعيد تذكير الإنسان الإيزيدي بجوهره المتصل بالحياة والنور والخلق الأول.
سەر سەڵ: العيد الذي يروي قصة الخلق بلغة الرموز:
إنّ أهم ما يميز عيد رأس السنة الإيزدية هو احتواؤه على عدد كبير من الرموز الطقسية التي ليست مجرّد عادات فولكلورية، بل تشكل سردية كونية، تختصر فلسفة الحياة والموت والانبعاث، وتستحضر أقدم المعتقدات الشرقية التي أثرت لاحقًا في الفكر الديني القديم، لا سيما في حضارات الرافدين وبلاد فارس والأناضول.
أبرز رموز العيد ومعانيها:
•البيضة:
تُعدُّ رمزًا مركزيًا في طقوس العيد. ففي تصور الخلق الإيزدي، تشير البيضة إلى "الدرّة البيضاء" التي انبثقت من الذات الإلهية (خودا)، وانفجرت Big Bang لتخلق منها الكائنات والعوالم. كما أن سلق البيض يرمز إلى تشكّل الأرض بطبقاتها، إذ أن حرارة النار لا تذيب البيضة، بل تُماسكها، مما يجعلها تجسيدًا لولادة الحياة من قلب النار، بعكس المنطق المادي.
• الولادة والتجدد:
ترمز البيضة أيضًا إلى ولادة الكائنات، حيث إن معظم الأحياء، من الطيور إلى الزواحف، تخرج من البيض، لتصبح رمزًا عالميًا للحياة والانبعاث.
• تلوين البيض:
يُلون البيض بألوان زاهية للدلالة على تنوّع الحياة وخصب الأرض وتفتّح الزهور، وهي تقليد مشترك في حضارات عديدة، ويُقال إن ألوانه تعكس ألوان الكون بعد تشكله من انفجار الدرّة.
• نثر قشور البيض في الحقول:
تقشير البيض ونثر قشوره في حقول الحنطة يحمل دلالة رمزية لانتشار الحياة من قلب المادة، ولتكوين المجرات والكواكب وفق تصور الأسطورة الإيزدية.
• شقائق النعمان وقشور البيض على أبواب المنازل:
تُلصق بقطعة من العجين في أعلى مدخل البيت، كإعلان عن دخول سنة جديدة، واستقبال للبركة والحياة المتجددة.
• إيقاد المصابيح وتلاوة النصوص الدينية في معبد لالش المقدس:
طقس يعود بجذوره إلى طقوس الميثرائيين والبابليين، حيث يتم إحياء ليلة العيد بالصلوات والأنوار، في تأكيد على استمرار النور وانتشاره.
• تحريم الزواج في نيسان:
أسطورة تقول إن شهر نيسان هو زمن خاص بالألوهية، حيث يكتمل فيه التزاوج الكوني بين القوى الإلهية، فلا يجوز للبشر أن يزاحموا الآلهة في طقوسها المقدسة.
• تحريم حرث الأرض:
لأن الأرض في نيسان هي الأم الحامل، تُترك لتُثمر وتورق وحدها دون تدخل الإنسان، إيمانًا بقدسية الخصوبة الطبيعية في هذا الشهر.
• معنى "نيسان" لغويًا:
يتكوّن اسم نيسان من مقطعين: "ني" أو "نوي" تعني الجديد، و"سان" أو "زان" تعني الولادة، مما يعطي الكلمة دلالة عميقة: "الولادة الجديدة"، وهي المعنى الذي يشترك فيه مع كلمات مثل باعوثا (القيامة) أو الانبعاث في الثقافات الدينية الأخرى.
سەر سەڵ في مرايا الشعوب القديمة، تقاطعات بين الحضارات:
من اللافت أن عيد رأس السنة الإيزدية يتقاطع مع طقوس ومناسبات مشابهة في حضارات وديانات أخرى، وكلّها تجسّد فكرة البداية والخلق والانبعاث، ما يدل على وحدة روحية في عمق الوجدان الإنساني.
ومن هذه الأسماء والطقوس المشابهة:
• چار شەمبا سۆر (أي: عيد الأربعاء ) عند الإيزيديين في تركيا وقديماً عندما كان هنالك ايزيديون في افغانستان والقفقاس وإيران، وليس المقصود به “الأربعاء الأحمر ” كما تُخطئ بعض الترجمات.
• نوروز لدى معظم الشعوب الآرية، بما فيها الكورد والإيرانيون.
• أكيتو عيد رأس السنة عند الآشوريين والبابليين.
• شم النسيم عند المصريين القدماء.
• برونايا عند الصابئة المندائيين.
• روش هشانا (يوم السنة الجديدة) لدى اليهود.
• نيروز في البهائية.
• ديوالي عيد النور عند الهنود.
هذا التزامن بين الأعياد، وإن اختلفت التسميات، يؤكد أن للإنسان القديم فهمًا مشتركًا لدورة الحياة والخلق، وأنه كان يرى في الربيع إشراقًا روحيًا، لا مجرد تبدل للمواسم.
• إنّ سەر سەڵ ليس مجرد عيد ديني، بل هو إرث كوني وأسطوري، يربط الإنسان الإيزيدي بجذور عميقة في التاريخ الكوني. إنه احتفال بالخلق، بالضوء، وبالحياة، وكل رموزه تنبض بالفلسفة والروح، وتروي قصة الإنسان في بحثه الأزلي عن المعنى والبداية.
- [ ] بعد انتهاء عيد سەر سەڵ، تبدأ مراسم أخرى تُعرف بـ”الطواف”، وكانت في الأزمنة القديمة تُقام كاحتفالات خاصة بآلهة المدن، في دلالة على توحيد الأرض بالسماء.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً