مع أولى سنوات تأسيس الحركة الوطنية الكوردية في سوريا، متمثّلة بالتنظيم السياسي الأوّل في عام 1957، كمعادل سياسي للوجود الكوردي في سوريا وكتعبير عن رغبة وإرادة الشعب الكوردي في نيل حقوقه، عمدت أنظمة الحكم في سوريا على تصفية الحركة الكوردية بشتى السبل وفي مقدّمتها الملاحقة الأمنية والاعتقال وحظر أي نشاط علني لها مهما كان طابعه. ففي عهد الحاق سوريا بمصر في ظلّ عبدالناصر، تمّ فرض قرار حلّ الأحزاب في سوريا، ورفض، آنذاك، (البارتي) إلى جانب الشيوعي السوري قرار الحلّ وتعرّضت قيادته وكوادره إلى حملة اعتقالات واسعة. في مرحلة حكم حافظ الأسد، اعتمد النظام في السبعينيات على نفس نهج أسلافه في قمع واعتقال قيادات وكوادر الحركة، لكنّ الصدام المسلّح بينه وبين التيار الإسلامي في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، جعله يهادن الحركة الكوردية ويغضّ الطرف عن بعض أنشطتها، فأطلق سراح قيادة وكوادر (البارتي) ولم يتدخّل لمنع احتفالات أعياد (نوروز) التي كانت الحركة الكوردية قد استثمرت تلك الفرصة وأخرجتها إلى الطبيعة ليشارك فيها مئات الآلاف من الكورد.
بعد أن قضى على التمرّد الإسلامي المسلّح، حاول النظام خلق بديل عن الحركة الوطنية الكوردية وكلّف جميل الأسد أحد أشقاء حافظ الأسد بتلك المهمّة وذلك من خلال تأسيس جمعية مرتضى التي استقطبت بعض أتباع النظام من الكورد وبعض ضعاف النفوس إضافة إلى بعض البسطاء الذين انغرّوا بوعود القائمين على نشاط الجمعية في المناطق الكوردية، لكنّ الحركة السياسية الكوردية استطاعت أن توقف مدّ هذه الجمعية في الأوساط الكوردية وتجهض أهدافها.
بالتزامن مع هذه الفترة، كانت قيادة حزب العمال الكوردستاني قد انتقلت إلى سوريا في أعقاب انقلاب أيلول العسكري. ولأنّ سوريا وتركيا كانتا في حالة (صراع بارد)، تلقّى العمال الكوردستاني الدعم من السلطات السورية في كفاحه المسلّح الذين بدأه في 15 آب 1984. قام الحزب بحملة دعائية وتنظيمية كبيرة بين الكورد في سوريا لزجّهم في صفوف كفاحه المسلّح واستقطب أعداد كبيرة من كوادر وأنصار الأحزاب الكوردية وأخرج المئات من الطلبة الكورد من صفوف المدارس والجامعات وأرسلهم إلى معسكراته التدريبية في لبنان ومن ثمّ إلى صفوف قوات الكيريلا. وللنجاح في هذه الحملة التجنيدية، كان لا بدّ للعمال الكوردستاني من حملة شعواء على أحزاب الحركة الوطنية الكوردية الأصيلة ونعتها بأنّها كرتونية لا تعمل من أجل دولة كوردية مستقّلة. من جانبه، استحسن النظام هذه الحملة على الحركة الكوردية وأراد توظيفها في تصفية هذه الحركة الأصيلة، فغضّ الطرف عن ممارسات العمال الكوردستاني ضدّها والتي تجاوزت الدعاية والتجنيد إلى ممارسات عنيفة من اعتداء جسدي وتهديد ومداهمة أنشطة الأحزاب بل وحالات اغتيال لكوادر الحركة اتّهمت أحزابها العمال الكوردستاني بتفيذها بالتنسيق مع أجهزة أمن النظام.
بعد إخراج زعيم العمال الكوردستاني من سوريا تحت تهديدات الحكومة التركية ومن ثمّ تحسّن العلاقات بين الدولتين في ظل حكم أردوغان-بشار الأسد، شهدت اللوحة السياسية الكوردية ولادة حزب الاتحاد الديمقراطي PYD (2003)، الذي ضمّ أنصار العمال الكوردستاني في سوريا وبقيادة من كوادر العمال الكوردستاني من الكورد السوريين. ضيّق النظام السوري على الحزب الجديد إرضاءً لصديقتها تركيا الأردوغانية ومن ثمّ في أعقاب انتفاضة 2004، مارس النظام القمع والملاحقة والاعتقال بحقّ كوادر الحزب المذكور والذين تعرّضوا لتعذيبٍ شديد، استشهد على اثره أحد كوادره المعروفين في منطقة كوباني بعد اخراجه من السجن بأيام. انكمش الاتحاد الديمقراطي على نفسه وتقلّص نشاطه وانحسر نفوذه الجماهيري بشكلٍ كبير واختفت تلك الممارسات العنفية ضدّ الحركة الوطنية الكوردية وربّما هذا ما يفسّر تقاربه مع الحركة وتوقيع بيانات ومبادرات معها في بداية الثورة السورية تحت صيغة (مجموع الأحزاب الكوردية).
مع بداية نشوب النزاع المسلّح بين الحكومة والمعارضة السوريتين، تواصلت قيادة العمال الكوردستاني مع النظام السوري وتوصّلت معه إلى تفاهم أمني حول المناطق الكوردية في سوريا وأسندت مهمّة الواجهة السياسية لهذا التفاهم إلى الاتحاد الديمقراطي PYD الذي بدأ بتشكيل مجموعات مسلحة تحت أنظار الأجهزة الأمنية للنظام والتي انسحبت لاحقاً من بعض المناطق الكوردية ومن ثمّ أعلن إدارة ذاتية مؤقّتة بقرار منفرد منه. عمد الاتحاد الديمقراطي إلى فرض هيمنته الأحادية وانهاء الدور السياسي للأطراف الأخرى بشكل منظّم وذلك من خلال قمع المجموعات المعارضة لسياسته واستلحاق بعض الأطراف الأخرى من خلال الضمّ الصوري لبعضها إلى إدارته واستتباع أخرى من خلال الزامها بالحصول على الترخيص من إدارته الأمر الذي يعني، في الجوهر، القبول بتفرّده ومن ثمّ إلحاقها بمشاريعه الخاصّة عبر ضمّها إلى (مجلس سوريا الديمقراطية) و(قيدرالية روجآفا-شمال سوريا) والتي ليس لهذه الأحزاب أي مساهمة فيها سوى التوقيع عليها والترويج لها. أمّا الأطراف التي ظلّت تمثّل نبض الحركة الوطنية الكوردية الأصيلة، فواجهت القمع والاعتقال والنفي والاعتداء في إطار مشروع تصفيتها في سوريا. وهذا هو ما يفسّر عدم السير في الاتفاقات الموقّعة بين TEV-DEM و ENKS، لأنّ هذه الاتفاقيات كانت تنصّ على الشراكة بين طرفين في حين أنّ المطلوب هو تصفية أحد هذين الطرفين.
كانت مشاريع التصفية على الدوام تُصاغ في دمشق بهدف إنكار وجود قضية كوردية خاصّة في سوريا وكان الردّ عليها دائماً يأتي في المدن الكوردية بهدف إثبات وجود هذه القضية، لأنّ الكورد في سوريا، بوعيهم وإرثهم النضالي وقيمهم القومية، وعلى الرغم من مآخذهم على أحزابهم، يميّزون، في اللحظات الحاسمة، بين مشاريع الوطنية الأصيلة ومشاريع تصفيتها. وكان يكفيهم، في ذلك، إشارة واحدة، قد تكون على صورة العلم القومي الكوردستاني.
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الاعلامية
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً