ما وراء الأبواب الموصدة التسريبات ترسم خريطة سوريا الجديدة

14-07-2025
عبد الغني عجو
A+ A-

لم تعد خارطة سايكس-بيكو مجرّد وثيقة عتيقة مدفونة في أرشيف الاستعمار الأوروبي، بل تحوّلت إلى مرجعية مرنة تُستدعى في كل مرحلة لتُعاد صياغتها وفق معطيات جديدة ومصالح متشابكة. 

في سوريا، تتقاطع اليوم خيوط المصالح الإقليمية والدولية في مشهد معقّد، حيث تتداخل واشنطن وموسكو وباريس وتل أبيب، بينما تراقب أنقرة وطهران بقلقٍ بالغٍ إعادة رسم المجال السوري بوسائل محلية، وتفاهمات سرية، وضغوط اقتصادية وعسكرية ناعمة.

في هذا السياق، تسرّبت معلومات عن اتفاق جرى في العاشر من آذار بين قوات سوريا الديمقراطية وهيئة تحرير الشام، بوساطة دولية متعددة الاتجاهات. الاتفاق ينص على دمج "قسد" ضمن هيكلية الجيش السوري كفيـلق مستقل، مع احتفاظها ببنيتها الأمنية والإدارية، ورفع العلم الرسمي فوق مناطقها، ما يكرّس عملياً حالة حق تقرير مصير الشعب الكوردي في سوريا . 

اللامركزية السياسية تشمل مناطق مثل الحسكة والرقة  وقامشلو وكوباني وعفرين  والباب وتل الحاصل وتلعران ودير حافر وبعض إحياء حلب وريفها ، بينما يتضمن الاتفاق تقاسما للثروات يتيح لـ"قسد" الحصول على 20٪ من موارد كوردستان سوريا ، ما يضمن استقلالاً مالياً طويل الأمد. كذلك ينص على انسحاب الجيش الوطني المدعوم من تركيا من تل مناطق الكوردية وتسليمها للقوى الأمنية الكوردية ، مقابل انسحاب "قسد" من دير الزور في مقايضة جغرافية تهدف لتكريس واقع ديمغرافي أكثر تجانسا في كوردستان سوريا 

هذا الاتفاق لا يمكن قراءته بوصفه تفاهماً محلياً معزولاً، بل ينبغي وضعه ضمن مشهد أوسع من إعادة هيكلة النفوذ داخل سوريا، وسط غياب الدولة المركزية وتصاعد دور القوى الدولية. وبينما بدت واشنطن مترددة في التزاماتها، خاصة بعد مواقف إدارة ترمب السابقة، برزت باريس وتل أبيب كفاعلين مباشرين. فرنسا شرعت في دعم الإدارة الذاتية مالياً وسياسياً، عبر طرح نموذج فدرالي مستوحى من تجربة كوردستان العراق، في حين رأت إسرائيل أن فدرلة سوريا أو تقسيمها إلى أقاليم يضمن أمنها الستراتيجي أكثر من وجود دولة موحدة ذات عمق مشترك مع طهران. أما روسيا، فقد رأت في الاتفاق فرصة لحماية مناطقها الحيوية على الساحل ومنشآت الغاز، ما دفعها لتعزيز تقاربها مع "قسد" رغم علاقتها الرسمية مع دمشق.

اللافت أن بريطانيا لعبت دور الوسيط بين "قسد" وهيئة تحرير الشام، حيث ضغـطت على الجولاني للقبول بالاتفاق، تفادياً لتصعيد دولي يُنذر بتصنيف الهيئة تحت الفصل السابع. وبينما تدور التحولات في الكواليس، يشهد البيت الكوردي نفسه انقساماً داخلياً واضحاً. التيار البراغماتي داخل "قسد" ينظر إلى الاتفاق بوصفه لحظة واقعية تتيح تثبيت الإقليم الكوردي مقابل التنازل عن مناطق يصعب دمجها ديمغرافيا، فيما يرى التيار التوسعي أن التخلي عن دير الزور يعني التراجع عن مشروع وطني شامل حافظ على نسيج طائفي متنوع وتجربة إدارية فريدة.

في موازاة ذلك، فجّرت "مجزرة الساحل" معطيات جديدة قلبت الحسابات، إذ تشير التسريبات إلى لجوء آلاف المقاتلين العلويين المنشقين إلى مناطق "قسد"، ما دفع روسيا لمضاعفة دعمها للإدارة الذاتية وفتح قنوات تنسيق جديدة لحماية المكوّن العلوي من تصفية الحسابات الطائفية المتوقعة، في ظل تآكل سلطة دمشق. ومع انشغال العواصم بإعادة توزيع الأوراق، برز المبعوث الأميركي توماس باراك كصوت غائب، حيث لم يبدِ أي موقف واضح خلال اجتماع دمشق، مكتفياً بالمراقبة الصامتة، وسط صدمة واشنطن من استقلالية قرار "قسد"، وهو ما يؤشر إلى فقدان الولايات المتحدة لزمام المبادرة في الملف الكوردي وانتقال ثقله نحو تحالف ثلاثي تقوده فرنسا وروسيا وإسرائيل.

ما يتشكل حالياً هو ملامح خريطة سورية جديدة، يبدو فيها الإقليم الكوردي -العلوي كواقع ناشئ، يمتد في الشمال الشرقي ويستند إلى رعاية دولية متعددة. في المقابل، تبقى دمشق عاصمة رمزية، محاطة بنفوذ محدود، بينما تُترك مناطق الجنوب والشمال الغربي لتفاهمات أمنية منفصلة مع الأردن وتركيا. كل ذلك يجري وسط غياب تام لأي عملية سياسية وطنية، وبعيداً عن إرادة السوريين الذين باتت بلادهم رهينة تسويات من خلف الكواليس.

يبقى السؤال الأساسي هل ما نشهده هو ولادة فدرالية عادلة تُعيد ترتيب العلاقة بين المكوّنات السورية؟ أم أننا أمام نموذج مشوّه يُعيد إنتاج التجربة العراقية بكل ما تحمله من هشاشة وتهديدات مستقبلية؟ في غياب توافق داخلي جامع، تبدو الفدرلة أقرب إلى التفكك، وفرص السلام أبعد من أي وقت مضى. التسريبات ليست مجرد أخبار عابرة، بل مؤشرات لتحول ستراتيجي عميق يُعيد رسم الجغرافية السياسية للمنطقة، ويُنذر بأن سوريا القديمة قد لا تعود أبداً.

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب
 

آخر الأخبار

معد فياض

صحون طائرة في فضاء إقليم كوردستان

بالرغم من غرابة العنوان أرجو أن لا تستغربوه، مع أنه بالفعل يدعو للاستغراب وعدم التصديق، وفي هذا العصر علينا أن نتوقع كل شيء، بما فيها غرائب الأمور وغرائب ما يحصل.