يعد أحمد داوود اوغلو أحد أبرز مهندسي السياسة الخارجية التركية، حيث ساهم بفعالية في صياغة استراتيجية جديدة لتركيا، تلخصت في فرضيته: "زيرو مشاكل مع الجيران". وعلى اعتبار ان تاريخ تركيا هي باختصار تاريخ لحروبها ومشاكلها مع الجيران في القارات الثلاث(آسيا، أوربا، أفريقيا)، فقد شكل هذا المنهج انعطافا حادا في السياسة الرسمية لتركيا، كما شكلت الفرضية التصالحية هذه في الوقت نفسه يقظة جديدة في تفكير النخب السياسية والثقافية التركية الحاكمة.
لقد خطط الدكتور أحمد أوغلو لتصفير مشاكل تركيا الخارجية، وعمل على تخفيض منسوب التوتر مع دول الجوار التركي الى حده الأدنى، فالى أي درجة سعى وهو في قمة جهاز الدبلوماسية التركية ان يطبق فرضيته على ارض الواقع، وهل طبق منهجه طوال تسلمه لملف السياسة الخارجية التركية؟
ان مراجعة سريعة لسياسة تركيا خلال السنوات الماضية، وتدقيق عنوان ومفتاح سياسة أوغلو "صفر مشاكل" لاتتوافق مع مضمون هذا الشعار ومتنه! بل ينبغي التدقيق من جديد في حقيقة هذا الشعار وجوهره، اضافة الى تفهم سياقه النظري والتاريخي.
في البدء يحق للمتابع التساؤل، مع اي جهة أودولة صفرت تركيا مشاكلها؟ فاذا استعراضنا المشكلة التاريخية مع الأرمن، سنتحقق بأن الموقف التركي الجديد لم يتجاوز منسوب المجاملات الدبلوماسية، واشارات الاعتذار الخجولة للشعب الأرمني عن فظائع الدولة العثمانية المرتكبة تجاههم، اضافة الى بعض الزيارات البروتوكولية لجمهورية أرمينيا، وحضور مباريات كرة القدم بين فريقي الدولتين الجارتين.
أما بالنسبة للجارة الغربية العريقة اليونان، ماذا قدمت تركيا من جديد؟ هل اعادت لليونان جزر عديدة هي يونانية تاريخا وسكانا؟ هل أقرت بحقوق اليونان في مناطق تواجدهم التاريخي في غربي الأناضول وسواحل بحر ايجة؟! أما بالنسبة للمشكلة الأهم وهي قضية قبرص، لقد تابعت السياسة التركية "الجديدة" مساندة مابدأه القوميون الأتراك ابان حكم أجاويد في ترسيخ تقسيم قبرص، ودعم الدويلة المعلنة في شمالها، بحجة وجود جالية تركية في شمال الجزيرة، وبذلك لم تقدم تركيا تحت عنوان "صفر مشاكل" أي حل جدي لمسالة تقسيم قبرص.
على صعيد البلقان وبلغاريا استمرت حكومة العدالة والتنمية في دعم الجاليات التركية، والمبالغة في رفع سقوف حقوقهم الثقافية، وزيادة فعالية تنظيمهم في اطر سياسية ومذهبية، لتستفيد منهم كورقه تستخدم اوربيا.
على الجانب العربي لم تقدم تركيا اي دعم جدي للفسطينين، وانما كانت تقوم بحركات استعراضية وحملات اعلامية اساسها فعاليات نشطاء المجتمع المدني، لدعم حركة حماس في غزة، وما يؤكد ذلك موقفها الضعيف ازاء الحرب الأخيرة على غزة.
داخليا لم تقم بخطوات عملية لحل المسألة الكوردية، وانما ركزت على تخلي المقاتلين الأكراد عن سلاحهم، واختزال قضيتهم الى مسألة أمنية، ترعى حلها مؤسسة المخابرات(ميت).
كان شعار تصفير المشاكل في الواقع خطابا دبلوماسيا نظريا اكثر مما هو برنامج عمل، ولقد تكشفت حقيقة هذه السياسة مع بدء انتفاضات الربيع العربي. لقد جنحت السياسة التركية الى جانب فصائل اسلامية محددة، وخاصة تلك التي تنتمي الى جماعة الإخوان المسلمين العالمية، مما وترت علاقتها مع مصر. فمنذ بدء انتفاضات الربيع العربي انتجت السياسة التركية مشاكل جديدة، فباتت على خلاف شديد مع أكبر دولتين عربيتين هما مصر والمملكة العربية السعودية.
بالنسبة للجارة سورية فقد سبق لتركيا ان بدأت مشوار "سنوات عسل" مع حكومة دمشق، خاصة بعد تفعيل اتفاقية أضنا(1998) التي كانت في جوهرها، خطة عمل ضد تطلعات الشعب الكوردي في التحرر على جانبي الحدود بين البلدين الذين يقتسمان كوردستان. وتوافقت الحكومتان على مزيد من الاضطاد والقمع والاعتقال بحق نشطاء الكورد، خاصة بعد انتفاضة قامشلو عام 2004. وترجم هذا التعاون السياسي والأمني على الصعيد الاقتصادي، لدرجة ان بات الاقتصاد السوري تابعا لتركيا.
لقد شكلت الانتفاضة السورية في ربيع عام 2011 اختبارا للعلاقات التركية – السورية المتطورة، فتتالت التصريحات من المسؤلين الأتراك (اردوغان، أوغلو) بأنهم لن يتركوا السوريين وحيدين أمام آلة القمع الحكومية، لكنهم لم يلتزموا بوعودهم. لقد شجعوا بعض القوى الصديقة لحزب العدالة على مزيد من الثورة ضد النظام، كما انهم ايقظوا الأقلية التركمانية في سورية من سباتها العميق. عمليا لم يساند حكام تركيا ابناء الشعب السوري في قضيتهم الجوهرية، وهي تحقيق الديمقراطية والحرية، وانما ساهموا في تبلور القوى الجهادية. كما طرحوا ورقة التركمان بهدف التشويش على المسالة الكوردية في سورية. وبذلك عرضوا التركمان لقمع وقتل شنيع في مناطق تواجدهم بحمص وجبل التركمان وريف حلب. دفعت القيادة التركية بالمسألة التركمانية الى الواجهة في أكثر من محفل واجتماع للمعارضة السورية (لدرجة أن علق احد الساسة العرب السوريين في أحدى هذه الاجتماعات التي كنت ضيفا عليها، قائلا: بأننا سمعنا منذ امد بعيد بالمسألة الكوردية في سورية، الا اننا لم نسمع بالمسألة التركمانية قط). لقد تأكدت فعاليات سورية السياسية والثورية أن تركيا استخدمتهم كورقة لأجدناتها الضيقة، ولم تتحرك جديا ضد النظام السوري حتى بعد ان تم اسقاط أحدى طائرته في البحر المتوسط. ويمكن سرد المزيد حول لامصداقية السياسة الخارجية التركية في سورية، وعدم التزام قادة تركيا بوعودهم الجميلة.
بعد انفجار قوة داعش، تصاعد الحديث عن دعم تركيا للتنظيم، كما واجهت تركيا اختبارا صعبا بعد غزو داعش لمناطق واسعة من غرب وشمال العراق، وكشفت الأحداث النقاب عن هزال الموقف التركي من جرئم داعش، وخاصة بعد ان احتلت داعش مدينة تلعفر، وهي أكبر تجمع سكاني للتركمان في العراق، وقامت بطرد سكانها، وارتكبت الفظائع. وكذلك الحال بالنسبة لحصار بلدة آمرلي التركمانية. فما الذي فعله السيد اوغلو لإنقاذ أبناء جلدته التركمان!؟
لقد كتب وقيل الكثير حول علاقة تركيا بالمنظمات الارهابية وخاصة داعش، وتسربت أرقام عن عدد الذين مروا من تركيا لينضموا الى داعش، حوالي (10-12) الف جهادي، وبصرف النظر عن دقة هذا الرقم، فانه مؤشر على تواطئ كبير، ان لم يكن تعاونا منظما مع القوى الجهادية العاملة في كل من سورية والعراق. فقد أكدت مصادر عديدة بأن خمسون جهاديا أجنبياً يدخلون يومياً إلى سوريا والعراق عبر تركيا للانضمام إلى التنظيمات الاسلاموية، حتى باتت طرق محددة في تركيا تعرف باسم "طريق الجهاد".
حيث يغض حرس الحدود الأتراك الطرف عن مرور الجهاديين إلى داخل سورية، مقابل حصولهم على عشرة دولارات فقط، في حين خروج المواطن السوري من سورية الى تركيا عبر نفس المناطق يتطلب دفع مبلغ مائة دولار كحد أدنى. هذه التسهيلات ساهمت في ارتفاع أعداد الأوروبيين والأجانب الذين يسافرون إلى تركيا من اجل الدخول إلى سورية والقتال في صفوف التنظيمات الإسلامية، ويتسربون منها الى العراق.
يبدو أن مجريات الأحداث ومآلاتها والمجازرالأخيرة في العراق وكوردستان، أسقطت آخر أقنعة نظام الحكم في تركيا، فاهمال التركمان ودفعهم نحو الابادة، شكل آخر المسامير في نعش مصداقية السياسة الخارجية التركية. هذه السياسة التي اثبتت انحيازها التام للأطراف الجهادية بصيغة او بأخرى. فليس ثمة مبرر لدى تركيا لحيادها السلبي اتجاه أحداث تلعفر وكوردستان، وما حجتها بوجود (49) رهينة أتراك عند داعش سوى مبرر ضعيف، حيث يعتقد بعض المراقبين أنه ثمة احتمال ان يكون الحدث مفبركا ومدبرا أصلا من المخابرات التركية، ورئيسها المقرب من أردوغان.
بعد هذا الاستعراض الموجز يبدو لنا كما لكثير من المهتمين بالشأن التركي أن السياسة الخارجية التركية لم تكن وفية لشعاراتها في تصفير المشاكل، وكذلك لم تكن صادقة في اطلاق الشعار نفسه، فهي لم تحل اي مشكلة، وانما أرادت من الآخرين التخلي عن مواقفهم، لتبدو تركيا صاحبة الفضل في مبادراتها. كما لم تغير تركيا في منهج تفكيرها السياسي كما كان متوقعا. فشعار تصفير المشاكل كان طلبا للآخرين للتخلي عن حقوقهم عند تركيا في المقام الأول. لقد كان الشعار في حقيقته مظلة تغطي التوجهات الأيديولوجية والحزبية لحكومة حزب العدالة والتنمية، والمتلخصة في لجم اندفاع تركيا نحو الاتحاد الأوربي، وافشال نزعات المجتمع التركي نحو العلمنة، وهي بنفس الوقت غطاء على توجه الحكام الجدد نحو العالم العربي وجمهوريات آسيا الوسطى، لبناء أفضل العلاقات مع الحركات السياسية المنضوية تحت منظمومة الاسلام السياسي عموما والأخوان المسلمين على وجهه الخصوص. وهذا ما تحقق وتبعته علاقات اقتصادية وامنية .
تبدو اليوم السياسة التركية في مأزق كبير، فقد سبق وتوقعنا ذلك قبل أكثر من سنة، وقبل تسلم الدكتور أغلو رئاسة الوزراء. فاضافة الى التراجع الاقتصادي، ثمة شلل وعدم مصداقية في السياسية الخارجية، وضعف مبادرة. بدليل ان السيد اردوغان قد عاد خائبا من قمة الناتو في ويلز (4-5) ايلول 2014، ولم يكلف الناتو تركيا بأي مهمة خاصة في سورية والعراق، كما لم يستقطب أردوغان الأضواء بصفته رئيس الدولة الناتوية الأقرب الى ساحة الأحداث. لقد كانت القمة نهاية لحلم أردوغان في تأمين تفويض وقرار دولي للتدخل في البلدين، وخاصة الموصل. مما لاشك فيه ثمة برود اوروأمريكي في استقبال اردوغان في القمة، كما درجة البرودة في حضورهم الضعيف في حفل تنصيبه قبل أيام.
وقد ردت تركيا بنفس الدرجة من البرودة في التعامل مع التحالف الدولي المتشكل لمحاربة داعش، فلم يصدر اي قرار ذات قيمة بعد زيارة وزير الدفاع الأمريكي هيغل يوم الاثنين 8 أيلول الجاري لتركيا. ومن المستغرب ان وزير خارجية تركيا الجديد عبر بعد هذا اللقاء عن خشيته إزاء وقوع الأسلحة التي يجري تسليمها إلى القوات الكردية والعراقية لمحاربة تنظيم «داعش» في أيدي حزب العمال الكردستاني. وهكذا تبدو حكومة تركيا متذرعة بحجج واهية، وعلى ما يبدو ليس في الأفق اي أمل بفعالية تركية تتناسب مع علاقتها المتشابكة مع المنظمات الاسلامية وموقعها الجغرافي. وهذا ما تبين بعد لقاء وزير خارجية أمريكا مع قادة تركيا يوم 12 أيلول الجاري، فالحكومة التركية تتهرب من القيام بدور فعال في محاربة قوى التطرف والارهاب في المنطقة.
تركيا حزب العدالة والتنمية، تركيا الثنائي اوغلو – أردوغان في مأزق شديد، لأنها بدأت تفقد ثقة المجتمع الدولي بجديتها في محاربة الارهاب، كما باتت تهبط من سوية شعارها الدبلوماسي "صفر مشاكل" نحو صفر فعالية ومصداقية، وربما تستقر في هاوية "صفر سياسة" في المستقبل القريب.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً