يتعجب المرء، ولا غرابة في ذلك، من حالة التناقض الفاضح التي تعيشها النخب السياسية والثقافية العربية، خصوصاً في ردود أفعالهم المتشنجة عقب تصريحات المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، حول مستقبل سوريا وقوله: شعب واحد، لغة واحدة، دولة مركزية واحدة، ولم يأخذ في الحسبان حقوق جميع مكوناتها، بما في ذلك الشعب الكوردي. فعلى الفور، علت الأصوات، وتوحدت النخب الشوفينية على رفض أي نقاش يلامس فكرة الفيدرالية أو اللامركزية، وكأن الكورد كائنات دخيلة لا يحق لها حتى أن تطالب بما يضمن كرامتها ووجودها على أرضها.
إنه لمن المفارقات المؤلمة أن كثيراً من هؤلاء الرافضين، يعيشون في دول ديمقراطية فيدرالية، يتمتعون فيها بكامل الحقوق كمواطنين أحرار، ويشيدون بعدالة تلك الأنظمة وتقدمها. ومع ذلك، ما إن يُفتح النقاش حول منح الكورد شكلاً من أشكال الإدارة الذاتية أو الشراكة السياسية في أوطانهم، حتى تنهال عليهم الاتهامات بالانفصالية، والعمالة، والسعي لتقسيم البلاد. يُقال لهم: "يا أبناء الفيدراليات الغربية، ألم يكن من الأحرى أن تدعموا تعميم هذا النموذج الذي أنصفكم، بدل أن ترفضوه على غيركم؟".
لقد أبدى الكورد، في سوريا والعراق وتركيا وإيران، عبر عقود طويلة، مرونة هائلة واستعداداً للتعايش المشترك، ضمن دول تحترم وجودهم القومي والثقافي والسياسي. لكنهم بالمقابل قوبلوا بالقمع، والتعريب، والإنكار، والإبادة، والتهميش المتواصل. وبينما ناضلت الشعوب العربية من أجل تحررها من الاستعمار وحقها في تقرير مصيرها، لم تحرك كثير من هذه النخب ساكناً أمام الظلم التاريخي الذي وقع على الكورد، بل تعاملت معهم بذات الذهنية الإقصائية التي ثارت عليها عندما مورست ضدها.
فما الذي يجعل من حق العرب إقامة أكثر من عشرين دولة تمتد من المحيط إلى الخليج، في حين يُحرم أكثر من أربعين مليون كوردي من أبسط حقوقهم، بل حتى من ذكر اسمهم في دساتير الدول التي يعيشون فيها؟ لماذا يحق للأغلبية أن تفرض هويتها وثقافتها ورايتها، ولا يحق للأقليات التاريخية أن تتمسك بلغتها وخصوصيتها ووجودها السياسي؟.
الكورد أمة قبل أن تولد الحدود
الشعب الكوردي لم يهبط على المنطقة من المريخ. هو أحد أقدم شعوب الشرق الأوسط، عاش في الجبال والسهول، وبنى حضارته بجوار غيره من الشعوب، وأسهم في التاريخ الإسلامي والعربي بشكل لا يمكن إنكاره. من صلاح الدين الأيوبي الذي حرر القدس وكان كوردياً، إلى آلاف الكورد الذين قاتلوا في صفوف جيوش الاستقلال العربية، وساهموا في الثقافة والسياسة والاقتصاد والتعليم. ومع ذلك، لايزال يُطلب منهم أن يصمتوا، أن يتخلوا عن لغتهم، أن يرضوا بالفتات، وأن لا يطالبوا إلا بما تقرره الأكثرية القومية.
الفيدرالية ليست انفصالاً
المفارقة الأكبر أن الكورد لا يطالبون بالانفصال في معظم تصريحاتهم ومبادراتهم، بل يطرحون حلولًا عقلانية تقوم على الفيدرالية أو اللامركزية الساسية، كنماذج تضمن وحدة الدول ضمن احترام تنوعها. الفيدرالية ليست تقسيماً، بل أداة إنقاذ للدول متعددة القوميات والثقافات. وإذا كانت هذه النخب العربية ترى أن الفيدرالية تهدد وحدة الدول، فلتفسر لنا إذاً لماذا لا تنهار الدول الفيدرالية الغربية التي يعيشون فيها؟ ولماذا يهللون لدستور ألمانيا وسويسرا وكندا والامارات العربية، بينما يرفضون ذات النموذج عند الحديث عن سوريا أو العراق أو غيرهما؟.
إن من يتحدث عن وحدة الدولة بينما ينكر حقوق مكون أساسي منها، لا يدافع عن وحدة حقيقية بل عن هيمنة قومية تحت عباءة الوطنية. فالوطن ليس سجناً، والوحدة ليست قسرية، بل هي عقد اجتماعي حر ومشترك. وإذا فُرضت بالقوة، فإنها تلد التمرد والانفجار والانقسام الحقيقي.
دعوة للضمير قبل الشعارات
نقول لمن يزايدون باسم العروبة والوطنية: "كن إنساناً قبل أن تكون قومياً". لا أحد يطالبك بالتخلي عن هويتك، لكن لا تفرضها على غيرك. إذا كنت تعتبر العيش الكريم تحت راية فيدرالية في أوروبا حقاً مشروعاً، فامنحه لغيرك دون خوف أو كراهية. لا تكن ممن يطالبون بالعدالة لأنفسهم ويضنون بها على غيرهم.
حقوق الكورد، كما حقوق أي شعب، ليست مكرمة من أحد، بل هي استحقاق تاريخي وإنساني. ومَن يقف ضد هذا الحق، فهو لا يدافع عن وحدة وطن بل عن بقاء سلطة مركزية غير عادلة، على حساب تنوع غني كان يمكن أن يكون مصدر قوة لا ضعف.
وهنا نستحضر كلمة القائد والمرجع الكوردستاني الرئيس مسعود بارزاني، حين قال: "لو كُتب لنا أن لا نستقر ونعيش بحرية، فلن ندع أحداً يعيش بأمان. فوالله لن ندعكم تعيشون بأمان".
ليست هذه تهديداً، بل صرخة شعب قرر أن لا يكون ضحية بعد الآن، وأن لا يقبل العيش كمجرد تابع أو هامش أو ملف مؤجل. إنها رسالة واضحة: الكرامة لا تُجزّأ، والحرية لا تُؤجَّل، والحقوق لا تُستجدى.
فلمن لايزال يرى في حقوق الكورد خطراً، فليعلم أن الخطر الحقيقي ليس في مطالبهم، بل في استمرار الظلم بحقهم. وليكن معلوماً: إما عدالة للجميع، أو لا استقرار لأحد.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً