اتفاق عبدي والشرع.. مقاربة جديدة لمستقبل الكورد وسوريا

12-03-2025
أنور الجاف
A+ A-
 
في لحظة بدت عصيّة على التوقّع اجتمع مظلوم عبدي القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية بأحمد الشرع المعروف بـ"أبو محمد الجولاني" قائد هيئة تحرير الشام، هذا اللقاء وما تلاه من توقيع اتفاق سياسي عسكري لا يمكن فهمه بمعزل عن التحولات البنيوية التي تمر بها الجغرافيا السورية ولا عن السياقات الأوسع التي تعيد صياغة خريطة القوى داخل البلاد، ولربما ترسم معالم سوريا المقبلة، فلقد ظلّ الطرفان، طوال سنوات الصراع في موقع الخصومة المعلنة بل العداء الصريح ليس فقط بحكم الاختلاف الأيديولوجي أو التباين في الحواضن الشعبية بل لأن الصراع على النفوذ كان يستدعي بقاء هذه الجبهات مشتعلة حتى وإن بنيران باردة.
 
لكن كما هو الحال دائماً في صراعات طويلة ومعقدة مثل الصراع السوري تصل الأطراف في لحظة ما إلى حدود الإرهاق حيث لم يعد ممكناً الاستمرار بالآليات القديمة نفسها في ظل التبدل الحتمي لظروف الداخل والخارج معًا، فالجولاني الذي تحوّل خلال السنوات الأخيرة من أمير لتنظيمٍ سلفي جهادي إلى قائد سياسي لمشروع يحاول تلميع نفسه كجزء من "المعارضة المعتدلة" يدرك أن هامش المناورة بدأ يضيق عليه أكثر مما يحتمل، فالدعم التركي لم يعد كما كان والقبول الدولي ما يزال مشروطًا بما لا يمكن تحقيقه إذا ما استمر في تمسكه بخطاب العزلة والانغلاق، بلْهَ عن أن وجود هيئة تحرير الشام في إدلب بات يتآكل، سواء من جهة تغوّل الجماعات المتشددة داخليًا أو من جهة الضغوط الروسية والإيرانية، لذلك فإن التوجه نحو تفاهم مع مظلوم عبدي كان خطوة محسوبة تهدف بالدرجة الأولى إلى كسر هذا الطوق وتقديم نفسه كفاعل سياسي جديد قادر على تجاوز ماضيه الجهادي، بل والتعامل مع الخصوم التقليديين بوصفهم شركاء محتملين في مستقبل يعاد ترتيبه على مهل...
 
ومن جانب آخر لم يكن مظلوم عبدي أقلّ واقعية نفعية، فالرجل الذي خاض معارك شرسة ضد داعش وقاد تجربة الحكم الذاتي في شمال وشرق سوريا أصبح يعلم أن مرحلة التحالف مع القوى الدولية ولا سيما الولايات المتحدة في عهد هذه الإدارة الجديدة دخلت في طور المراجعة وربما التقلص، فبقاء القوات الأميركية في شرق الفرات ليس مضموناً كما أن قدرة الإدارة الذاتية على فرض مشروعها في ظل غياب توافق سوري شامل تبقى محدودة للغاية.
 
ولهذا فإن التفاهم مع الجولاني وإن بدا للكثيرين تنازلاً أو خياراً صعباً قد يفتح نوافذ جديدة للتفاوض على تسوية سياسية شاملة تضمن الاعتراف بدور الكورد في مستقبل سوريا ولو على قاعدة اقتسام النفوذ مع قوى كانت بالأمس القريب جزءًا من العدو المشترك.
 
فالاتفاق الذي وقع عليه الطرفان تضمن وفق التسريبات المعلنة تفاهمًا على تقاسم الأدوار السياسية والعسكرية ضمن خارطة جديدة تقضي بإدماج عناصر من هيئة تحرير الشام ضمن قوى أمنية مشتركة مقابل اعتراف الجولاني بالإدارة الذاتية كجزء من الهيكل السياسي القادم في سوريا، كما تضمن الاتفاق موافقة الجولاني على سحب مطالبه المتعلقة بضم منطقة الحسكة والاكتفاء بتمثيل سياسي مضمون في أي حكومة انتقالية قادمة مع إمكانية شغل مناصب في وزارتي الدفاع والداخلية.
 
هذه البنود وإن توحي بوجود صفقة متوازنة إلا أنها تعكس في جوهرها رغبة كل طرف في تجاوز حالة الجمود ومواكبة ما بات يعرف في أدبيات الدبلوماسية السورية بـ"لحظة الفرز الأخير" حيث بدأت تظهر ملامح تقسيمٍ إداري لا يُشبه تقسيم الخرائط بقدر ما يؤسس لتوازنات حكم محلي واسعة الصلاحيات.
 
أما عن تأثير هذا الاتفاق على مستقبل الكورد ومصيرهم فإن الأمر لا يخلو من التناقضات، فمن جهة يرى البعض أن عبدي استطاع أن يحقق مكسباً سياسياً مهماً بتوسيع دائرة الاعتراف بالإدارة الذاتية وجرّ خصوم الأمس إلى طاولة الشراكة المستقبلية ما قد يرسخ فكرة أن الكورد ليسوا قوة معزولة بل طرفًا وشريكًا فاعلاً قادرًا على فرض نفسه في خارطة الحكم السوري الجديد، لكن في نفس الوقت ثمة خشية واضحة في الأوساط الكوردية من أن يكون هذا الاتفاق مقدمة لتنازلات أكبر قد تمس جوهر مشروع الفيدرالية الكوردية خصوصاً إذا ما اضطر عبدي لاحقًا إلى تقديم مزيد من التنازلات لضمان قبول دمشق أو القوى الإقليمية الأخرى بما في ذلك تركيا التي ما زالت ترى في الإدارة الذاتية تهديدًا لأمنها القومي.
 
وعلى المستوى الميداني لا يُتوقع أن يؤدي الاتفاق إلى تغيير فوري على الأرض لكنّ المراقبين يرجحون أن يكون مقدمة لإعادة رسم خطوط السيطرة تمهيدًا لإطلاق مفاوضات سورية - سورية، تفضي إلى تسوية سياسية تعيد هيكلة الدولة السورية ضمن إطار لا مركزي يمنح الكيانات المحلية صلاحيات أوسع مع احتفاظ دمشق بدور المركز الرمزي للدولة. في هذا التصور قد يجد الكورد أنفسهم جزءًا من حل وسط، يضمن لهم الحكم الذاتي الموسع، لكنه قد لا يحقق كل تطلعاتهم القومية ولاسيما فيما يتعلق بالاعتراف الدستوري بهويتهم كشعب وحقهم في تقرير المصير...
 
وعلى الرغم من ذلك لا يمكن إنكار أن مظلوم عبدي بموافقته على هذا الاتفاق قد تجاوز حاجزًا نفسيًا وسياسيًا لطالما حال دون انخراط الكورد في التسوية السورية، فبفتح قنوات التعاون مع الجولاني أظهر عبدي أن قسد باتت قادرة على تجاوز خصوماتها القديمة إذا ما تطلبت الضرورة، وأنها تملك مرونة سياسية تؤهلها للعب دور في مستقبل سوريا يتجاوز مجرد الإدارة المحلية المؤقتة.
 
وفي المقابل فإن ما يجري الآن يطرح تساؤلات جدية حول قدرة قسد، وقيادتها تحديدًا، على الحفاظ على وحدة الصف الكوردي خاصة في ظل اعتراضات ظهرت من قيادات كوردية أخرى ترى أن الاتفاق مع الجولاني يمثل انقلابًا على مبادئ النضال الكوردي الطويل بل وربما مغامرة خطيرة قد تفقد الكورد حلفاءهم الدوليين، خصوصًا واشنطن التي لم تُخفِ قلقها من هذا التقارب مع شخصية ما تزال مصنفة على لوائح الإرهاب الأميركية.
 
في المحصلة النهائية يمكن القول: إن الاتفاق بين مظلوم عبدي وأبو محمد الجولاني ليس مجرد اتفاق تكتيكي عابر بل هو جزء من دينامية جديدة تفرضها ظروف الداخل السوري وإعادة ترتيب خارطة الحلفاء والخصوم على أسس مصلحية خالصة، أما أثره على مصير الكورد فسيبقى مرهونًا بمدى قدرة القيادة الكوردية على توظيفه لتعزيز مطالبها القومية ضمن الدولة السورية دون أن تكون مجرد رقم في معادلة توافقات إقليمية لا تأبه كثيراً بحقوق الشعوب بقدر ما تبحث عن استقرار هش يمهد لتقاسم النفوذ والثروات.
 
وفي هذا السياق، تبدو تجربة الكورد اليوم في الشرق الأوسط اختباراً صعباً بين الحفاظ على المكتسبات والمغامرة في مسار تفاوضي محفوف بالمخاطر. ولعل الأيام القادمة تحمل في طياتها أحداثاً ستكشف وحدها ما إذا كان هذا الاتفاق بداية مرحلة جديدة من حضور الكورد كشركاء حقيقيين في مستقبل سوريا، أم مجرد فصل آخر في قصة طويلة من التهميش والخذلان.
 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب
 

آخر الأخبار

محي الأنصاري

عراقان فوق أرض واحدة.. صعود الدولة الموازية على حساب العراق الرسمي

منذ العام 2003، والعراق يعيش حالة مستمرة من اختطاف الدولة. ورغم تعاقب الحكومات المنتخبة وصياغة دستور يُفترض أنه يمثل عقداً وطنياً جامعاً، إلا أن بنية الدولة الدستورية لم تكتمل، بل تآكلت أكثر، وتحوّلت السيادة إلى عنوان هش، فيما تمددت دولة موازية أخرى، تعمل خارج القانون والدستور، وتفرض نفسها بالقوة والتمويل والولاء العابر للحدود.