بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتقسيم "تركة الدولة العثمانية"، شهدت منطقة الشرق الأوسط تحولات كبرى، حيث تم رسم حدود الدول الناشئة وفقاً لمصالح القوى الاستعمارية، دون أي اعتبار للانتماءات الإثنية واللغوية أوالحقائق التاريخية.
كانت سوريا واحدة من الدول التي تشكّلت في هذا السياق، ونتيجة لذلك، وجد الكورد أنفسهم، بعد أن كانوا جزءاً من السلطنة العثمانية، مقسمين بين ثلاث دول رئيسية: تركيا، العراق، وسوريا. وللاسف لم تكن هذه الدول الثلاث مستعدة للاعتراف بحقوق الكورد في الوجود أو في المشاركة السياسية والثقافية، بل عملت بشكل منهجي على إنكار هويتهم القومية، ومحاولة صهرهم في إطار القوميات الغالبة: التركية والعربية.
الكورد ومناطقهم التاريخية في سوريا
عندما رسمت الحدود الشمالية للدولة السورية الناشئة تم ضم جزء من كوردستان إليها؛ شملت هذه المناطق العديد من المدن والبلدات، مثل: ديريك، قامشلو، عامودا، درباسية، سري كانية، گري سپي (تل أبيض)، كوباني، عفرين، وبعض مناطق ريف حلب الممتدة في جرابلس، منبج، الباب وإعزاز. تاريخياً، كانت هذه المناطق جزءاً من إمارات كوردية شبه مستقلة خلال الحقبة العثمانية، مثل الإمارة المندية الكوردية غرب الفرات. وهذا يؤكد، بالاستناد إلى الحقائق التاريخية والجغرافية، أن هذه المناطق هي جزء من الموطن التاريخي للكورد. ورغم وجود مكونات إثنية أخرى في هذه المناطق، مثل السريان - الآشوريين والعرب والتركمان، فإن ذلك لا ينفي هويتها الكوردستانية. تماماً كما لا ينفي وجود الكورد في دمشق أو عمّان عروبة هاتين المدينتين. إن هذه التعددية الإثنية تعكس الطابع الغني والمتنوع للمجتمع في هذه المناطق، ما يجعل من الضروري التعامل معها بمنظور يضمن حقوق الجميع دون تمييز.
التغييرات الديموغرافية وسياسات الإقصاء
تعرضت هذه المناطق تاريخياً لعمليات تغيير ديموغرافي من خلال دخول واستيطان المكون العربي في البعض منها. هذه التغيرات السكانية لم تكن نتيجة حراك طبيعي فقط، بل كانت أيضاً مدفوعة بأهداف سياسية تهدف إلى طمس الهوية الكوردية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت الجغرافيا الممتدة بين سري كانية وگري سپي ملكاً للعشائر الكوردية، وعلى رأسها عائلة إبراهيم باشا الملي، التي كانت تمتلك أراضٍ واسعة في هذه المنطقة. ومع ذلك، تم تفكيك هذا الواقع التاريخي عبر سياسات استهدفت تقليص الوجود الكوردي في هذه المناطق. فعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر مشروع الحزام العربي لعام 1974 (يُطلق اسم الحزام العربي على عمليّة التغيير الديموغرافي وعملية التّعريب التي نفذتها الحكومة السورية عبر الاستيلاء على أراض زراعيّة تعود ملكيتها لعشائر وآغوات وفلّاحين من الكورد، على طول الشّريط الحدوديّ بين سوريا وتركيا في محافظةِ الحسكة، ذات الأغلبيّة السّكانيّة الكورديّة، ومَنحها لفلّاحين من العرب، تمّ جلبهم من محافظَتي الرّقة وحلب، بعد أن غُمِرَت أراضيهم بمياه بحيرة سد الفرات. الذين عُرِفوا لاحقاً باسم "المغمورين"). وكذلك منح أراضي عائدة إلى إقطاعيين كورد في منطقة عفرين إلى عوائل عربية من خارج المنطقة تحت مسمى الإصلاح الزراعي الذي بدأ بتطبيقه بشكل جائر في عهد الوحدة واستمر حتى عام 1969 (قانون الإصلاح الزراعي رقم 161 الصادر في 27 أيلول 1958 وكذلك القانون 1159 لعام 1963). ورغم ذلك، لايزال الكورد يشكلون الأغلبية في مناطقهم التاريخية في كوردستان سوريا.
الكورد ومبدأ حق تقرير المصير
فكرة حق تقرير المصير تم اعتمادها بهذه التسمية في عام 1914 من قبل لينين، قائد الثورة الشيوعية في روسيا وطبقت بعد انتصار ثورة اكتوبر عام 1917. كما أن الرئيس الأميركي ودرو ويلسون أقر هذا المبدأ ضمن مبادئه الأربعة عشر للسلام.
بعد الحرب العالمية الثانية اكتسب مبدأ حق تقرير المصير قوة قانونية ودولية بوروده في ميثاق منظمة الامم المتحدة الصادر عام 1945 وفي العديد من وثائقها وقراراتها. ورغم ذكر هذا المبدأ أكثر من مرة في الميثاق، إلا أن الأهم برأيي هو تضمينه الفقرة الثانية من المادة الأولى في الفصل الأول لميثاق الأمم المتحدة ضمن أهداف المنظمة الدولية.
في عام 1966 أصبح من الضروري أن يكون هناك دعم دولي لمبدأ حق تقرير المصير، لذلك تم تثبيته في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد أصبح اليوم مبدأ حق تقرير المصير من المبادي الأساسية في القانون الدولي، حيث يرد في العديد من المواثيق والمعاهدات والقرارات الدولية، لعل أهمها:
1 - ميثاق الأمم المتحدة، حيث ورد في المادة الأولي من الفصل الأول للميثاق ضمن أهداف الأمم المتحدة. كما وأعيد ذكر حق تقرير المصير في المواد التالية أيضا (55 و73 و76) من ميثاق الأمم المتحدة.
2 - في اجتماعها الثامن اتخذت لجنة حقوق الإنسان للأمم المتحدة بتاريخ 27.06.1952 قرارا تاريخيا فيما يخص هذا المبدأ حيث جاء فيه: (لكل شعب أو قومية الحق في تقرير مصيره وتحقيق تنميته من النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية بحرية).
3 - القرار رقم 1514 الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 14.12.1960 الذي سمي حينها بـ (إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة). هذا الإعلان جاء فيه: (لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية إلى تحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية).
4 - القرار رقم 2626 الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 24.10.1970 والذي سمي حينها بـ (إعلان مبادئ القانون الدولي) والذي يوضح بأن مبدأي: المساواة في الحقوق وحق تقرير المصير للشعوب، أساسيان في القانون الدولي.
5 - البند الأول من العهدين الدوليين لحقوق الإنسان يوضحان بأن لكل شعب الحق في تقرير مصيره. وبهذا الحق يمكن لكل شعب تحديد مركزه السياسي وتطوره الإقتصادي والاجتماعي والثقافي بحرية.
يمتلك الكورد كافة مقومات الشعب / الامة من تاريخ ولغة وأرض وتراث وإرادة مشتركة. ووفق كل المعاهدات والمواثيق الدولية ومبادئ القانون الدولي، له الحق في تقرير مصيره ومستقبله بحرية على أرضه التاريخية.
التحديات أمام حق تقرير المصير للشعب الكوردي في سوريا
هناك العديد من الشخصيات والمثقفين والسياسيين يقولون:
1- الكورد في سوريا أقلية، ولذلك ليس لهم الحق في تقرير المصير.
2- البعض يقول إن المناطق الكوردية في سوريا منفصلة ولا تشكل وحدة جغرافية، وبالتالي ليس لنا أن نطالب بحق تقرير المصير.
بصدد النقطة الأولى أود القول بأنه صحيح أن الشعب الكوردي، في الوقت الذي كان يشكل فيه الأكثرية على أرضه كوردستان، بات بعد تقسيم موطنه بين الدول الأربعة (تركيا، إيران، العراق وسوريا) أقلية قومية من حيث العدد. لكنه يعيش على أرضه التاريخية - كوردستان.
وللتوضيح أكثر، لابد لنا من العودة إلى بعض التعريفات والقوانين والوثائق والمواثيق الدولية المرتبطة بقضايا الشعوب والأقليات القومية، وفي البداية يجب تناول:
- تعريف الأقليات القومية في القانون الدولي.
- حقوق الشعوب والأقليات القومية في القانون الدولي.
في عهد عصبة الأمم تم تعريف الأقلية بالشكل التالي: "جماعة من مواطني دولة، يشترك أفرادها في الاثنية أو الدين أو اللغة التي تميزهم عن بقية السكان" ويتضامن هؤلاء مع بعضهم للحفاظ على خصائصهم المميزة. والأقلية نوعان:
1- مواطنو دولة أجنبية
2- مواطنو الدولة نفسها أي التي يقيمون فيها
بالرغم من وجود أكثر من تعريف للأقلية في عهد عصبة الأمم لكن جميعها تتفق على المبادئ التالية:
1- اللغة المشتركة
2- الثقافة المشتركة
3- المصير التاريخي المشترك
وهذا يدل على أنه منذ عهد عصبة الأمم كانت الأقلية تعرّف كشعب أو قومية لكنها بلا دولة.
على ضوء التوضيحات الآنفة الذكر يمكن تصنيف الأقليات ضمن ثلاث مجموعات: أقلية دينية وأقلية لغوية وأقلية قومية أو الإثنية.
بالعودة إلى القوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية المختلفة نرى بأن الأقلية القومية تعرّف بالشكل التالي: الأقلية القومية تعرّف عن نفسها من خلال خصوصياتها العرقية، أي بمعنى البيولوجية والجينية الظاهرة، وأيضاً من خلال خصوصياتها الإثنية، بمعنى الثقافية والتاريخية. وللأقلية القومية عنصر آخر وهو الشعور والوجدان المشترك والإرادة السياسية للاستقلال. حسب هذا التعريف نجد بأن الأقلية القومية (العرقية – الإثنية) مطابقة تمام لمفهوم الشعب. من جهة أخرى يقول أستاذ القانون الدولي الألماني، كاي هايلبرونر Kay Heilbronner، بأن الأقلية التي تعيش كأكثرية ضمن إطار جغرافي على أرض محددة ولها ارتباط تاريخي بتلك الأرض، عندها تكون تلك الأقلية شعبا. ويؤكد الخبير في لجنة حقوق الإنسان كريستيسكو Cristesco على أن وجود علاقة تاريخية مع الأرض يعد شرطاً أساسياً بالنسبة للشعب.
لذلك تكتسب الأقلية القومية / الإثنية صفة الشعب، وما يميزها اليوم عن الأقليات الأخرى هو حقها في تقرير المصير.
تم التطرق إلى حقوق الأقليات في العديد من المواثيق والاتفاقيات الدولية. لكن أهم هذه المواثيق هي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 27) والميثاق الأوربي لحقوق الإنسان. ولكن الأهم في موضوعنا هذا هو أنه لا يوجد فرق بين الأقلية القومية والشعب في الحقوق الدستورية، ولها بموجب ذلك الحق بتقرير المصير كباقي الشعوب.
بالنسبة للنقطة الثانية أقول بأن كوردستان سوريا - كما ورد أعلاه - تمثل وحدة جغرافية واحدة بالرغم من وجود مناطق تسكنها مكونات قومية أخرى. ولولا التغير الديمغرافي - الطبيعي والقسري - في الماضي لما كانت عليه الحال كما هي الآن. من جهة أخرى، وبعيداً عن الخوض في الجغرافية والتاريخ، وحتى إن كانت المناطق الكوردية في شمال سوريا تشكل "جزر منفصلة"، كما يحلو للبعض توصيفها، فهذا ليس عائقاً أمام حقها في تقرير المصير وتشكيل اقليم فيدرالي. فهناك دولاً مستقلة كثيرة لا تشكل أراضيها وحدة جغرافية. أي أن مقاطعات أو مناطق من تلك الدول منفصلة جغرافيا عنها، والتي تدعى باللاتينية Exclavis وتعني بالعربية (المعزول). وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، نذكر منها:
- الولايات المتحدة الأميركية (ولاية آلاسكا).
- روسيا مقاطعة كاليننغراد Kaliningrad المنفصلة جغرافياً عن روسيا.
- إيطاليا مدينة كامبيون دي إيطاليا Campione d’Italia داخل سويسرا.
- ألمانيا بوزينغن أم هوخ راين Büsingen am Hochrhein، وهي مدينة ألمانية داخل سويسرا.
بالتأكيد هناك العشرات من الدول بهذا الشكل في مختلف القارات (آسيا وأوربا وأميركا وأفريقيا) لا مجال لذكرها جميعا هنا.
وعلى مستوى الدولة الواحدة توجد مقاطعات وولايات فيدرالية ومناطق حكم ذاتي غير متصلة ببعضها جغرافياً. هنا أيضا سأذكر بعض الأمثلة حول ولايات فيدرالية أو مناطق ذات حكم ذاتي، تتبعها مناطق منفصلة عنها جغرافياً، مثل:
ولاية بريمن Bremen في ألمانيا التي تتبعها مدينة بريمرهافن Bremerhaven وتبعد عنها 64 كيلومتراً. أي أن هذه الولاية الاتحادية بحد ذاتها منقسمة إلى قسمين.
ولاية هيسين Hessen في ألمانيا أيضاً تتبعها منطقة أوبرلاودن باخ Ober Laudenbach الواقعة في ولاية ألمانية أخرى بادن فورتمبيرغ Baden Württemberg وبالمقابل يوجد داخل منطقة أوبرلاودن باخ جزء من مقاطعة بادن فورتمبيرغ أيضاً.
أيضا في النمسا توجد منطقة بهذا الشكل، إذ أن الجزء المسمى أوست تيرول Osttirol جزء من ولاية تيرول الفيدرالية ولكنه غير متصل معه جغرافياً.
وفي سويسرا الفيدرالية أيضاً هناك الكثير من الأقاليم الفيدرالية (كانتونات) غير المتصلة جغرافياً.
وعليه فإن المطالبة بحقوق الكورد في إقليم اتحادي على أرضه التاريخية في شمال سوريا (ويُقْصَد بذلك المناطق الكوردية المذكورة أعلاه والتي تمثل تاريخياً جزء من كوردستان - موطن الكورد، وليس مناطق ما تسمى "شمال وشرق سوريا") هي مطالبة مشروعة، لا تعني البتة إقصاء المكونات الأخرى المتعايشة معهم، بل هي دعوة إلى بناء اقليم جغرافي مبني على الحقائق التاريخية ضمن دولة سورية اتحادية تحترم تنوعها الإثني والثقافي. في هذا الاقليم، وفي سوريا عامةً، يجب أن تكون الحقوق متساوية بين جميع المكونات، سواء الكورد، السريان - الآشوريين، العرب، أو التركمان، وذلك لضمان التعايش السلمي والمستدام.
ومن هنا فإن الدفاع عن حقوق شعب كوردستان سوريا ليس مسؤولية الكورد وحدهم، بل هو واجب مشترك لكل المكونات التي تعيش في هذه الجغرافية. فتاريخ هذه المنطقة وثقافتها المتنوعة يؤكدان أنها تستحق أن تكون نموذجاً للتعايش والتعاون في إطار يحترم حقوق الجميع.
إن القضية الكوردية في سوريا هي قضية حقوق قومية مشروعة تستند إلى حقائق تاريخية وجغرافية راسخة. إن بناء دولة اتحادية تضمن العدالة والمساواة لجميع مكوناتها هو الحل الأمثل لضمان استقرار سوريا ووحدتها. في هذا الإطار، ينبغي أن يكون الدفاع عن حقوق الكورد جزءاً من مشروع وطني جامع يعترف بالتنوع ويحتفي به كعنصر قوة، وليس كنقطة ضعف.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً