لا أفتقد فقدان الحرية

12-02-2020
سیروان رحیم
الكلمات الدالة الحرية الحرب السياسة
A+ A-

لا أفتقد أي شيء سوري
لا أفتقده!

هذا ما أجابت به سيدة سورية على سؤال: "هل تفتقدين سوريا؟"

كنا مجموعة نحدثها، وكان الحديث يدور حول الحرب، اللجوء والمهجر.

كلنا هنا معاً، هنا في كولن الألمانية، بدون أن تفرق بيننا الاختلافات في اللغة والدين والهوية.

ما أجمل أن نحمل جميعاً هوية واحدة هي الإنسانية! لكن المؤسف أن الإنسان مازال أقصر قامة من هذا المستوى بكثير ولا يستطيع حمل هذه الهوية. لم يستطع حتى الآن وليس معلوماً متى سيبلغ هذا المستوى.

"لا أفتقد أي شيء في سوريا".

لم يفهم أصدقائي الألمان هذه الإجابة. لكن ابتسامة ممزوجة بعلائم حزن عميق غطت وجه السيدة تماماً، وواصلت كلامها لتقول:

"أي مكان أفتقد؟ وماذا أفتقد؟ ففي ظل الحرب، بل قبل الحرب أيضاً، ليس هناك ما أرويه أو أفتقده، أهي الأوضاع السياسية؟ أم الحرية؟ ما الذي قد يفتقده المرء حين يرحل نهائياً عن بلد ما؟ أيفتقد الأشجار والمياه والجو أم يفتقد بعض القيم والأسس التي تجعل حياة الإنسان جميلة وآمنة؟"

تقول السيدة:

"الحرب قائمة هناك منذ سنوات كثيرات، كانت الحرب فيما سبق حرباً من نوع خاص، لم تكن حرباً بالأسلحة، لكنها كانت حرباً، حرباً قاصمة. هناك الآن مجموعة فصائل مختلفة يمثل السلاح لغة التخاطب بينها، أما في الأيام الخوالي فكانت هناك دولة ورئيس يستخدمان الوعيد والتهديد باستخدام السلاح والحرب النفسية المستمرة يرهبان بهما الإنسان باستمرار. كانا مستعدين دوماً للانقضاض على الشعب."

ماذا يفعل الدكتاتوريون بالبشر؟ وكيف يدمرونهم ويحيلون نفوسهم خرائب؟ لا يدرك هذا إلا من عاش الحالة، وحتى إن أدركها فسيدركها بطريقة سطحية. الوحيدون الذين يدركونها ويعرفونها هم الذين عاشوا أو يعيشون في ظل الحرب وتحت تهديد الظالمين.
 
كل الأضرار في جهة، وتلك الناجمة عن تصرفات الظالمين والتي تقتل الرغبة وحب والوطن والديار في جهة. فسطوة وغدر الدكتاتوريين هي وحدها القادرة على قتل حب الوطن في القلوب وتدمير الروح الإنسانية وتشتيتها إلى أشلاء.

ما تشعر به هذه السيدة يدهش المحيطين بها. لكنها تحاول إفهامهم لماذا لا تفتقد سوريا.

دعك عن أن الحرب قائمة هناك الآن، فلا أحد يفتقد الحرب والظروف المتخمة بالكوارث والفواجع. لكنها تقول: "قبل الحرب أيضاً لم يكن هناك ما يمكن أن يوصف بالسعادة، الحرية والمساواة، لكي أفتقده. هنا حياة أخرى، لم أعرفها ولم أرها حتى في الأحلام. هنا توجد الحرية وكانت مفقودة هناك. أنا لا أفتقد فقدان الحرية".

عندما ينظر المرء إلى المنطقة عن بعد أو بصورة سطحية، يبدو له أن الشعوب التي لا دول لها يتم احتلالها، وأوضاعها النفسية مدمرة. لكن الحقيقة هي أنه في البواطن، وفي أعماق الشعوب التي لها دول، حتى تلك المقربة جداً والتي لها مكانة في سلطات الدول، تعيش في ظل غياب الأمان والاطمئنان.

لا أحد يشعر بالطمأنينة في الشرق. هناك قلة، بل قلة قليلة جداً، مازالت تحمل الرغبة وتكن الحب للأرض والديار. من الشخص العادي وحتى الرئيس، ليس هناك من ينعم بشيء من الاطمئنان. فهم لا يضطهدون فقط الشعوب المحتلة، ويجردونها من كل شيء، بل يتعاملون بلا رحمة مع أبناء جلدتهم ومع اقتصادهم وجيوشهم وأرضهم. ليس الكورد وحدهم، والشعوب الشبيهة بالكورد، يواجهون بالخطر وعدم الاطمئنان المستمرين، لأن رئيس الدولة هناك والقوات المقاتلة التابعة للدولة، وعوضاً عن حماية الوطن والدفاع عنه، يمثلون مصدراً لعدم اطمئنان شعوب بلادهم.

أنا أفهم جيداً ما تقول هذه السيدة. فنحن أيضاً أمثلة عن أولئك الضحايا. نحن أيضاً من الذين أمضوا طفولتهم وفترة شبابهم في ظل الحرب وفي ظل سلطة جائرة مضطهدة. طفولة "كانت كل لحظة للمهدي فيها بكاء، للأسف" (بيت شعري للشاعر الكوردي كوران). عندما أنعم النظر في أصدقائي الألمان أتذكر مقولة باول كيلر (1873-1932). أنعم النظر في أصدقائي الألمان وقد ذهلوا لما تقوله هذه السيدة المقيمة في المهجر. يقول الكاتب الألماني باول كيلر: "قلب الإنسان يرنو إلى الوطن ويفتقده حتى لو كان المهجر هو الأكثر إشراقاً".

لكن هنا، يظهر ويثبت أن كلمات كيلر وجملته الجميلة هذه، لا تشمل هذه السيدة ولا تنطبق على مشاعرها وحالها.

لأنه: ليس هناك مهجر، ولا ظروف، ولا أحوال معيشية أكثر مرارة وألماً من أن تغلق أبواب وشبابيك الوطن في وجه الإنسان، ويتم إجباره على العيش في ظل حكم دكتاتور، ويكون مرغماً باستمرار على تمجيده وهو يخافه أشد الخوف.

الدكتاتوريون وأصحاب السلطة والرؤساء الظالمون في الشرق، نجحوا في تعرية الإنسان عن حب الوطن والديار. للأسف استطاعوا ذلك.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له أي علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الإعلامية‬‬‬.

 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب
 

آخر الأخبار

عامر عبدالجبار اسماعيل

مشكلة الطلبة والطموح الطبي تعالج عندما نفكر خارج الصندوق

تداول الاعلام خلال الايام الماضية دعوات من قبل شخصيات علمية وذات مناصب مهمة في المجتمع الطبي والصيدلاني medical and pharmaceutical community تضمنت حث الطلبة على عدم الدخول في مجال الطب والصيدلة في العراق من خريجي الدراسة الاعدادية لأسباب منها: عدم وجود تعيينات حكومية مستقبلاً، وان نصائح الماضي لا تصلح للمستقبل.