لقد ظهرت في الآونة الأخيرة بعض البحوث والمقالات التي تهاجم الكورد وتاريخهم وتراثهم، وتنعتهم بشتى النعوت من ناحية الجنس والأصل، بالإضافة إلى مسح تاريخ وجغرافية كوردستان بجرة قلم، لأجل ذلك، وكمحاولة للرّد على تخرصات هؤلاء الكتاب غير المنصفين والسائرين على نهج العاطفة والأيديولوجيا، فإن الشعب الكوردي قد عاش على أرض أجداده منذ آلاف السنين، وإن كوردستان هي الموطن الثاني للبشرية التي ظهرت إلى عالم الوجود إثر الطوفان المشهور في عهد النبي نوح "عليه السلام" الذي يصادف الألف الرابع قبل الميلاد على رأي العديد من الباحثين والمؤرخين المختصين بالتاريخ القديم، حيث انتشرت البشرية مرة ثانية ابتداءً من جبل الجودي وانتهاءً بسهل شنعار "سهول نينوى وبابل".
وجبل الجودي، كما هو معلوم، يقع في كوردستان الشمالية "تركيا" بالقرب من مدينة الجزيرة "جزيرة بوتان"، كما أن التوراة أشار إلى الجبل الذي استقرت عليه سفينة نبي الله نوح "عليه السلام" وهو "آرارات" الذي يقع هو الآخر في شمال شرق كوردستان، ولحل هذا الإشكال الواقع بين الكتابين المقدسين القرآن والتوراة، يمكن القول إن اسم الجبل والسلسلة الرئيسية هي آرارات، واسم القمة التي استقرت عليها السفينة هي "الجودي" استناداً إلى قوله تعالى: [وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] (سورة هود: الآية 44).
ومن جانب آخر فإن مصادر تاريخ الكورد قبل الإسلام، من دينية "يهودية ومسيحية" ويونانية وأرمنية وفارسية، والرأي الراجح بانتماء اللغات الميدية والكوردية والفارسية إلى أرومة اللغات الهندوإيرانية، استناداً إلى هذه البينات الواضحات، فإن المستشرق الروسي "فلاديمير مينورسكي المتوفى سنة 1966م" طرح نظرية مفادها أن الكورد ما هم إلا أحفاد الميديين الذين هاجروا من المناطق التي تحيط ببحر قزوين غرباً وجنوباً، نحو الغرب "كوردستان" بعد سقوط الدولة الآشورية عام 612 ق.م.، جاء ذلك في المؤتمر العشرين للاستشراق الدولي الذي عقد في بروكسل عام 1938 م.
وكان الصراع سجالاً بين الميديين "أجداد الكورد الحاليين" والآشوريين في الفترة من 836 ق.م، لغاية 612 ق.م عندما تمكن الميديون بقيادة ملكهم أشتياك "أستياكس" بالتحالف مع الكلدانيين "البابليين" بقيادة زعيمهم "نبوبلاصر" من إلحاق الهزيمة بالآشوريين واحتلال عاصمتهم نينوى عام 612 ق.م، وبذلك تقاسمت الدولتان الميدية والكلدانية منطقة الشرق الأدنى مناصفةً بينهما.
وفي الوقت الحاضر، فإن غالبية المؤرخين والباحثين الكورد يعتبرون الميديين أسلاف الكورد الحاليين، وعلى هذا الأساس اعتبروا بداية ظهور الميديين ككيان سياسي عام 700 ق.م تقريباً بداية للتاريخ الكوردي على غرار الأمم الأخرى.
وفي سنة 550 ق.م تمكن زعيم قبائل البارسيين- الفرس "كورش الإخميني" من الانقلاب على جده لأمه الملك الميدي "أستياكس" في العاصمة "همكتانا – همدان"، فأسس أول دولة فارسية في التاريخ تحت اسم "الدولة الإخمينية- الهخامنشية".
وبخصوص الحضارة الميدية ومدى إسهاماتها في خدمة البشرية، فإن العديد من تنظيماتها الإدارية والسياسية والعسكرية اقتبسها منهم أبناء عمومتها الإخمينيون، كالألقاب الرسمية وتنظيم إدارة الدولة والمصطلحات العسكرية كـ "قائد مائة جندي- أو آمر الفصيل- والمسؤول عن العينة– وهيئة العقاب"، وقد نظم أحد الباحثين الأوروبيين قائمة بتلك المصطلحات الميدية التي كانت تستعملها الإدارة الإخمينية، واستعارها فيما بعد اليونانيون الإغريق والرومان.
كما أن إحدى قبائل الميديين الرئيسة، وهي الزاكروتيين، طغى اسمها على الجبال التي تفصل العراق عن إيران وهي سلسلة جبال زاكروس.
أما زرادشت، الذي يعد نبياً أو فيلسوفاً إيرانياً على أقل تقدير، فقد ولد في منطقة الشي جنوب مدينة أورمية "كوردستان الشرقية" في مقاطعة ميديا، وعاش في العصر الميدي في الحقبة ما بين 660- 583 ق.م.، وكتب وصاياه بالخط الميدي، ولغة كتابه المقدس "الآفيستا- الآوستا– الآبستاق" في نظر غالبية الباحثين الأوروبيين هي اللغة الميدية، فلاعجب إن كان للحضارة الميدية تأثير كبير وإسهام فعال في تكوين البنية الفكرية والروحية للشعوب الهندوإيرانية وجيرانهم الساميين.
ومن جانب آخر، كان من نتائج التحالف الميدي الكلداني أن حدثت مصاهرة بين الجانبين، حيث تزوج نبوخذ نصر، ابن الملك الكلداني نبوبلاصر أميتس، ابنة الملك الميدي أستياكس، وعندما لم تستطع أن تساير البيئة الجديدة التي بدأت العيش فيها، لأن مدينة بابل، عاصمة الدولة الكلدانية أرض سهلية وهي ابنة الجبال، بنى لها زوجها الملك نبوخذ نصر برجاً هائلاً على شكل جبل، وبطريقة ميكانيكية رفع إليها الماء من نهر الفرات، وقد سمى الأقدمون هذا البرج بالجنائن المعلقة، وعدت إحدى عجائب الدنيا السبع، وبقيت آثارها إلى ما قبل حوالي 600 عام خلت.
مما لا شك فيه أنه كان للكورد إسهام لا بأس به في الحضارة الإنسانية، لأنه على أرضهم ظهرت أولى الحضارات البشرية، فقد حدد سكان العراق القدماء من السومريين والأكديين والآشوريين بداية انتشار الموجة الثانية من البشرية بعد استقرار فلك أوتونابشتم "نوح عليه السلام" في جبل من الجبال الكوردية هو "كشاد كوتيوم" حسب النص الأكدي، و"نيسيرـ كينيبا" حسب النص الآشوري، وفي العهد القديم، وتحديداً التوراة، يشير ناسخو العهد القديم إلى أنه {... وَبَعْدَ مِئَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا نَقَصَتِ الْمِيَاهُ، 4وَاسْتَقَرَّ الْفُلْكُ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ، فِي الْيَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ}.،[سفر التكوين:8: 3 – 5]. في حين حدد القرآن الكريم موقعًا قريبًا لهذا الحدث الجلل في الآية 44 من سورة هود: [وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ].
وعلى أي حال، فقد حفظت لنا السجلات التاريخية التي تعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، أسماء عدد من الآلهة التي عبدها سكان شمال وادي الرافدين "سكان كوردستان القدماء"، فضلاً عن عدد من الملاحم والأساطير التي كان لها تأثير في تطوير الوعي الاجتماعي والبنية الذهنية لهذه الشعوب والشعوب المجاورة التي انتقلت إليها هذه المعبودات، وكانت لها تأثيرات واضحة وجلية في خلق مشاعر مشتركة حددت بمرور الزمن روابطها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مطورة أوجهاً عديدة للحياة العامة، اندثر قسم كبير منها وظل أقلها مدوناً في وادي الرافدين ومصر وإيران والهند واليونان. ومن هذه الآلهة: "نيني- Nini إينانا"، الإله "موس MUS" أُودو- UDU، إله الشمس "سوريا – آسورا SURIYA"، والإله "تيشوبTESUP"، والإله "كوماربي" KOMARBI، والإلهان شيميكا وكوشوخ "إلاها الشمش والقمر عند الخوريين".
وبجانب المعبودات الزاكروسية التي ذكرناها آنفاً، فقد شاركت آلهة أخرى في عقيدة سكان المناطق الشمالية والشرقية لوادي الرافدين "بلاد سوبارتو" ترجع أصولها إلى المعتقدات والأساطير الميثولوجية للأقوام الهندية – الآرية التي تركت مواطنها في جنوب روسيا في بداية الألف الثانية قبل الميلاد والتجأت إلى كل من الهند وإيران والأناضول وبلاد سوبارتو "كوردستان"، وكان أشهر هذه المعبودات:
آسورا الهندية أو سورياش الكاشية خالق الكون والإنسان، وهورفتات "هاروت في القرآن الكريم"، وماروتاش "ماروت في القرآن الكريم"، ووارونا وإندرا وناساتيا المذكورة في الفيدا "الكتاب الهندوسي المقدس"، وميثرا الذي انتشر خارج المنطقة الكوردية حتى وصل أوروبا، فقد آمن به اليونانيون والرومان واعتبروه إله الملوك والمعاهدات الدولية وإله الجنود، حيث كانت تنحر الثيران في عيد ميلاده.
وبعد انهيار الدولة الإخمينية الفارسية عام 330 ق.م، انتشرت عبادة ميثرا "إله الشمس المنير" في بقعة واسعة بين كوردستان والأناضول، وخاصة بين أفراد الطبقات الأرستقراطية وأمراء الأقاليم، لذلك دخل اسمه في تركيبة عدد كبير من الألقاب الملكية، مثل: ميثرادات الأول والثاني والثالث البرثي، وميثرادات السادس ملك البنطس "منطقة البحر الأسود"، وميثرادات ملك الأرمن وغيرهم، ومنذ عام 136م صنعت في الإمبراطورية الرومانية مئات التماثيل والأصنام لهذا الإله، وأصبحت الميثرائية عند الرومان دين إطاعة الملوك، وقد شجعها الأباطرة، أما في العصر الساساني، فيقول المؤرخ الدانماركي "آرثر كريستنسن المتوفى عام 1945م": "إن الشمس التي كان يعبدها مجوس العهد الساساني ليست خور وإنما هي مهر، ميثرا اليشتات القديم الذي جعل منه الميثريون الشمس التي لا تقهر".
وانعكست صيغة كنيته الحديثة "ميهر" في بعض الكلمات والأسماء الكوردية مثل ميهربان "الرحيم" وميرزا "السيد والمبجل"، و"المار" عند السريان المسيحيين بمعنى الشيخ، كما دخل اسم الاحتفال بيوم مولده إلى العربية بصيغة "مهركان – مهرجان"، أما الكنيسة المسيحية فقد جاملت ميثرا مجاملة عظمى باحتضان عيده الأكبر الذي يقع في 25 ديسمبر/ كانون الأول، وهو يوم ميلاد "الشمس التي لا تقهر"، واتخذت منه عيداً لمولد السيد المسيح "عليه السلام".
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً