اختيار العمارة الطينية كمدخل للتنمية المستدامة في العراق

10-06-2015
آزاد احمد علي
A+ A-

كانت مادة الطين أكثر المواد انتشارا وقرباً من الإنسان البدائي، هذه المادة التي أثارت انتباهه ودفعته إلى استخدامها وإتخاذها مادة أولية لمسكنه، لا شك أن الأرض ـ التراب هي الوسط الطبيعي والمادة التي إحتضنت الإنسان ، وقدمت الأرض ـ التراب  للبشر كل ما يلزم من غذاء ومأوى، وإستمد منها الإنسان القوة والثقة، فكانت في الوقت نفسه موضع إرتياح كبير للإنسان الأول. فلجأ إلى تجاويفها في الأوقات العصيبة، والتصق بها وتفاعل معها عبر التاريخ، ومن هذا الوجود والالتصاق والتفاعل إنبثقت فكرة إستعمال التربة الطينية كمادة للبناء، هذه المادة القريبة من الإنسان، والتي تتشكل بسهولة لتغلف كل إحتياجاته الحياتية، وأولها الحاجة إلى المأوى ـ المسكن.

ومن خلال دراسة تاريخ العمران البشري عبر مختلف العصور يمكن التأكيد على أن العمارة الطينية كانت العمارة الأكثر انتشارا عبر التاريخ وفي مختلف القارات، وهي بالتالي العمارة التي تسود في العالم. وإن ظهرت وتبلورت ملامحها الأولى في حضارات المشرق، حسب كافة المعطيات العلمية: من حفريات أثرية، روايات ومشاهدات تاريخية، إضافة إلى علوم الأنتروبولوجيا. ومازالت تشكل العمارة البيئية الأكثر انتشارا والأقل كلفة، والأسهل تشييداً في العالم، وبالتالي باتت التراث العمراني الإنساني الأوسع بدون منافس. و تشير بهذا الصدد إحصائيات الأمم المتحدة أن ثلث سكان العالم مازالوا يسكون منازل مشيدة من الطين، أو يدخل الطين ـ التراب كمكون رئيس في مادة البناء (الآجر على سبيل المثال).

 وتقدم العمارة الطينية نفسها بقوة كأحد أهم الحلول لمشكلة الإسكان والتنمية المستدامة في عالمنا المعاصر، وأحد أهم الجوانب التطبيقية لربط التراث العمراني مع الحياة المعاصرة. وباتت العمارة الطينية أحد أفضل المداخل لحل معضلة السكن، والتخفيف من مشكلات تصنيع مواد البناء، والحد من تلوث البيئة.

 وبناء عليه يمكن التأكيد من جديد على خطورة عدم الاهتمام بهذا النمط المعماري الواسع الانتشار في المنطقة والعالم، على الرغم مما تحتويه من مظاهر جمالية وإمكانيات فنية قابلة للتوارث والتفاعل والتطبيق في مجتمعاتنا وخاصة الريفية منها. وما يثير الدهشة والاستغراب عدم الاهتمام بهذا الاتجاه – الخط المعماري في العراق وكوردستان، سواء أكاديميا ( في الجامعات حيث الجهل شبه التام بالمنجز المعماري والتقني في هذا الحقل الواسع والواعد) أو تطبيقيا ومهنيا من قبل وزارة الاسكان ونقابتي المهندسين والمقاولين، بل الأغرب من ذلك مازال التفكير النمطي الذي يسود في العراق يتمثل بربط العمارة الطينية بالفقر والتخلف، وضرورة التخلص منها.

 لقد شكلت مادة الطين رفيقاً حيوياً للإنسان عبر العصور، لكونها توفر له الملاذ الآمن والمريح، وهي مادة جيدة تستجيب لمعطيات البيئة بأبعادها المناخية والاجتماعية, يشكلها ويركبها الإنسان كيف يشاء، ليعبر عن حاجاته وعواطفه.

وقد استطاعت مادة الطين -(التربة أساسا)- أن تعمر طويلاً، وأن تصمد أمام عاديات الزمان، بفضل متانة بنائها، وتوازن منشآتها، وسلامة تصميمها المعماري والإنشائي، الذي يعكس مستوى معرفي ومهني متقدمين لدى المعلم والعامل، وراكمت خبرة تاريخية خاصة في سهول بلاد الرافدين. لذلك تبين الدراسات بأن استمرار استخدام الطين كمادة أساسية في البناء في منطقة بلاد الرافدين وكوردستان لآلاف السنين، هو دليل على استمرار صلاحيتها لعمارة اليوم خاصة في الوسط الريفي، بمختلف أشكالها الوظيفية، لأنها تراعي ظروف البيئة الطبيعية والاجتماعية، وتحافظ على الخصوصية الثقافية للسكان، وتحقق التواصل المادي  والروحي مع الماضي، وتضفي طابعا خاصا على الشكل المعماري يتسم بالأصالة والتميز، كما أن إمكانيات التحسين في مواصفات التراب - الطين كمادة بناء واعدة، تم اثباتها عالميا، وتم التأكد من أنها قابلة للتطوير في الأداء الإنشائي، سواء من حيث رفع مقاومتها، أوتوفير سبل الحماية والعزل لها، بما يحقق لها شروط الديمومة والبقاء. وكذلك الحال، فإن تطوير فكرة التصميم العمراني للتجمعات السكنية الطينية، على نحو يساعد على خلق بيئة عمرانية كثيفة ومتضامنة، تضاعف من عملية الحماية والعزل ضمن الشروط المناخية القاسية  من جهة، وخلق علاقات اجتماعية مترابطة من جهة أخرى.

 لقد شكل هذا المنظور – الفكر أحد الأهداف الرئيسية لدعاة العمارة الطينية من المعمارين الكبار، كالمعمار المصري العالمي المرحوم حسن فتحي، والعديد من معماري هذا المرحلة، الذين يواصلون دراسة آفاق تطويرها بشكل أكثر تفصيلا.

 ويحرص دعاة التمسك بالعمارة الطينية – الاجتماعية والبيئية على توزيع منشآت الخدمة وخاصة المدارس على أن تكون قريبة من بيوت الأطفال، وذلك لتوفير شعور بالتواصل بين المسكن والمدرسة، ويساهم مقياس هذا النوع  من المدارس الذي يشكل حلقة بين روضة الأطفال والمدرسة الابتدائية الكبيرة في توفير جو من التآلف والانسجام بين الطفل ومحيطه المادي، الذي هو في الحقيقة إمتداد عضوي لمسكنه.

  إن التوجه نحو الاعتماد على المواد الترابية للبناء والاعمار في المستقبل يحقق وفرا  اقتصاديا كبيرا، يمكن تحقيقه نتيجة استخدام التربة التي تختصر أكلاف البناء المرتفعة، خاصة مادتي الخرسانة المسلحة، البلوك الأسمنتي والحجر).

    يضاعف هذا الوفر من إمكانيات إشادة عدد أكبر من منشآت الخدمة والمساكن بكلفة اقتصادية تصل إلى 40% من الكلفة الحالية للمنشآت الخرسانية، وكذلك الحال بالنسبة لبعض المنشآت العامة الأخرى الإدارية والتجارية والاجتماعية، حيث يمكن التوصل الى حلول اقتصادية مميزة تساعد على توفير بنية هيكلية عمرانية متكاملة، وتوفر الفعاليات الضرورية للسكان.
إن اعتماد مادة التراب كمادة تشييد رئيسية وبالتالي اختيار حقل "العمارة الطينية"  كاحد الحلول الواعدة لحل مشكلة الاسكان الريفي في ضواحي المدن الصغيرة، سواء في إقليم كوردستان أوعموم العراق، وتحديدا في مناطقها الجافة والحارة هو إختيار ضروري للأسباب التالية:

1)    إن تاريخ العمارة الطينية الطويل، ومواكبتها لكافة مراحل المجتمعات البشرية، تثبتان قدرتها على استيعاب كافة نشاطات الإنسان الاجتماعية والاقتصادية عبر مختلف العصور.
2)    العمارة الطينية عمارة عضوية وثيقة الارتباط مع البيئة، تستجيب للشروط المناخية المفروضة وتحقق قدرا كبيرا من الراحة، لأنها توفر عازلية حرارية عالية مما يزيد في اقتصادية الكلف والاستعمال وتوفير الطاقة للتبريد والتدفئة.
3)     العمارة الطينية عمارة نظيفة بيئيا فهي لا تسبب أي تلوث للبيئة جراء عمليات البناء، إذ لا تتطلب عمليات التشييد بها استخداماً للطاقة الملوثة. كما أن التخلص من نواتج البناء الطيني القديم لا يشكل تلوثا للحقول الزراعية، بل يمكن تدوير هذه النواتج إلى تربة صالحة للزراعة، أو إعادة استخدامها في البناء الطيني من جديد.
4)    تؤمن العمارة الطينية متطلبات كافة الشرائح الاجتماعية، فهي عمارة سكنية في المدن والريف. تصلح للمساكن البسيطة وحتى القصور، إضافة إلى المنشآت العامة كالمساجد والمدراس والمستودعات.
5)    إن سهولة استخدام مادة الطين في البناء وعدم اعتمادها على تقنيات خاصة تشجع المشاركة الشعبية في عملية التشييد، مما يساهم في توفير فرص عمل مناسبة لأفراد المجتمع المحلي.
6)    البناء بمادة الطين اقتصادي بالمقارنة مع مواد البناء الأخرى، حيث تتلاءم كلفته مع دخل الفرد في المجتمعات ذات الدخل المحدود، وتخفف من حدة استيراد باقي مواد البناء، بل تساهم حتى في تخفيض أسعارها.
7)    باتت التوجه للبناء بالمواد الترابية المحلية أحد أهم مفاتيح التنمية المستدامة في العديد من بلدان العالم كالهند واستراليا وغيرها.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الاعلامية
 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب