في البدء أود لفت انتباهكم إلى بعض أسطر من مقال سابق كتبته لحظة هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر، ونشر في اليوم التالي على موقع شبكة رووداو الإعلامية تحت عنوان "طوفان الأقصى يهدأ في طهران".
كتبت حينها: في زمن وظروف مثل زمن وظروف تقدم وسائل المعلومات والتكنولوجيا العسكرية والاستخباراتية الحالية، من الصعب تصديق أن إسرائيل كانت غافلة لهذه الحد عن تسلح وتدريبات حركة حماس عند أقرب بوابة إلى جسدها. لكن الأصعب من ذلك القول بأن إسرائيل تغاضت عن قيام حماس بهذه المبادرة وتوجيه ضربة من هذا النوع. من الصعب جداً على شعب وسلطة مؤسساتية كدولة إسرائيل، أن يساوم أي قائد أو سياسي بهذه الصورة على الشعب الإسرائيلي، إلا إذا كان ذلك من أجل هدف تراه إسرائيل مصيرياً وستظهر نتائجه في المستقبل.
هناك رأي يقول إن كل عمل يقيّم بنتائجه. فلو نظرنا نظرة واقعية إلى نتائج حرب الـ15 شهراً بعد 7 أكتوبر بعيداً عن تأثير الخطاب المضلل لبعض الحركات الإسلامية في جبهة المقاومة التي ما زالت تعتقد أنها منتصرة وأن الصهيونية قد أذلّت، سنرى التداعيات على أرض الواقع واضحة في غزة ولبنان، وقطع يد إيران في المنطقة، وسقوط سلطة الشيعة التي استمرت خمسين عاماً في سوريا ومجيء تيار سلفي جهادي سني للحكم في الشام. إذا قيّمنا النتائج كما هي، فقد حققت إسرائيل ما يكفي لجعل المرء يشك في أن 7 أكتوبر كان مساومة ببعض الجنود والمواطنين الإسرائيليين من أجل مكاسب وأهداف لم يظهر منها سوى القليل حتى الآن.
ومن تداعيات حرب غزة، الكشف عن الخطة التي ظهرت في الأيام القليلة الماضية خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، للبيت الأبيض، وكشف عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، وهي "خطة إخلاء غزة". رغم أنه بعد هذا التصريح من الرئيس الأمريكي، بادر معظم الدول العربية والإسلامية وحتى الدول الغربية المتحالفة مع إسرائيل وأمريكا لإبداء المعارضة الشديدة لهذا المشروع الذي صوره ترمب على أنه حل يحقق الاستقرار للشرق الأوسط. لكن هل حقاً يعارض العالم العربي والغرب إخلاء غزة؟
دعوني أعود بذاكرتكم إلى بضع سنوات من الآن، في نهاية الدورة الأولى لإدارة ترمب، في العام 2020 تم الإعلان عن مشروع الاتفاق الإبراهيمي برعاية أمريكية كمشروع لتطبيع العلاقات، واتفاق ومعاهدة شاملة بين إسرائيل والدول العربية. رغم أن مواد أو فقرات الوثائق والبيانات الرسمية لم تشر إلى إخلاء غزة بشيء، إلا أنه انتشر في الإعلام العربي والكوردي والعالمي آنذاك وبشكل واسع الحديث عن أنه سيتم نقل سكان غزة إلى بعض الدول العربية في إطار هذه الاتفاقية. بل كان هناك حديث عن نقل بعضهم إلى عفرين وإلى العراق وتوزيعهم على المناطق الممتدة من الرمادي على طول الحدود السورية العراقية حتى سهل نينوى.
لنتساءل: هل هناك أي مبرر حالياً أو حتى في المستقبل لإجماع على إخلاء غزة؟ أو ما هو المبرر عندما يريدون نقل سكان غزة؟ هل الموضوع مرتبط فقط بأمن واستقرار إسرائيل؟ إن كان الأمر يتعلق فقط بأمن إسرائيل، ألم يكن ممكناً العمل على إرساء سلام دائم؟ أم أن لديهم مخططاً أكبر يرتبط بجغرافيا غزة؟
أعتقد أنه لا يوجد من يشكك في أن المشاكل والحروب والنزاعات بين الدول تدور جميعاً حول المصالح الاقتصادية، وفي أيامنا هذه، تتمثل المصالح الاقتصادية الكبرى في مصادر الطاقة والممرات التجارية، والصراع والتنافس بين القوى العظمى العالمية هو من أجل الوصول إلى مصادر الطاقة والسيطرة على الممرات، خاصة القنوات والممرات المائية.
هناك من جهة، هيمنة إيران على مضيق هرمز، ثم بعد الربيع العربي والمشاكل الداخلية في اليمن وسيطرة الحوثيين على المناطق الاستراتيجية في ذلك البلد، ظهر تهديد على مضيق باب المندب والبحر الأحمر. فوجدت دول الخليج العربي بصفتها المنتج الرئيس للطاقة، والدول الغربية بصفتها المستهلك الرئيس، أنفسهم أمام تحدي وخيار البحث عن طرق بديلة.
من جهة أخرى، أدى النمو والتطور الكبيران للصين التي أصبحت على وشك فرض هيمنتها على الاقتصاد العالمي، إلى توحيد أمريكا والغرب ودول الخليج في الرغبة بالسيطرة على الممرات المائية التي تربط الخليج بالغرب، والتي هي في نفس الوقت طريق "التمدد" الصيني باتجاه أوروبا. فكان عليهم لتحقيق ذلك، الابتعاد عن "مضيق هرمز وباب المندب". إذن مشروع إخلاء غزة مرتبط بمشروع تغيير مسار الممر المائي التجاري العالمي.
المشروع يتمثل في إنشاء ممر مائي يربط الخليج العربي والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط ببعضهم البعض، وهذا من جهة يختصر طريق التجارة بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، ومن جهة أخرى ينقذ أمن الطريق من التهديد. في المرحلة الأولى، يتم ربط الخليج العربي بالبحر الأحمر من كلا جانبي مضيق هرمز. أحج الطريقين يمتد من قطر والإمارات إلى صحراء السعودية، والطريق الثاني من عُمان إلى نفس الصحراء، من خلال إنشاء قناة تسمى "قناة سلمان" يكون بمثابة ممر مائي يربط الخليج بالبحر الأحمر عبر الأراضي السعودية. بهذا سيتم إخراج مضيق هرمز وباب المندب من المسار المائي التجاري العالمي. الجزء المتعلق بإسرائيل في هذه العملية هو إنشاء قناة تمتد من العقبة إلى البحر الأبيض المتوسط تسمى "قناة بن غوريون" والتي ستمر عبر جغرافيا غزة.
قد يكون من الصعب على القارئ تصديق تحويل طريق بري طويل يمتد آلاف الكيلومترات إلى قناة مائية وربط الخليج العربي بالبحر الأبيض المتوسط. لكن بالنظر إلى ذلك العصر والوقت الذي تم فيه شق قناة السويس كقناة اصطناعية بقوة وسواعد مئات الآلاف من العمال وبأدوات ومعدات صناعية بدائية جداً مقارنة باليوم، فإن هذا ليس مستحيلاً في أيامنا التي بلغت فيها الثورة الصناعية ذروتها وأصبحت أدوات القطع والحفر كثيرة ومتاحة.
ستكون غزة الضحية الأولى لهذا المخطط الجديد الذي اتفقت عليه العرب وإسرائيل ونشأ من رحم الاتفاق الإبراهيمي. لذلك سواء أكان بالحرب والدمار أم بالسلام، وسواء أتحقق ذلك اليوم أم غداً، فإن الهدف هو تحويل جغرافيا غزة إلى قناة مائية وممر للسفن العملاقة لنقل النفط والبضائع التجارية.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً