تاريخ الصراع على القدس.. بناء الهيكل الثالث أنموذجاً (2)

08-01-2018
د. فرست مرعي
الكلمات الدالة القدس الهيكل الثالث الصراع
A+ A-

الهيكل كلمة يقابلها في العبرية (بيت همقداش) أي (بيت المقدس) أو (هيخال) وتعني البيت الكبير في كثير من اللغات السامية، والبيت الكبير أو العظيم التعبير الذي كان يشار به إلى مسكن الإله،  ومن أهم أسماء الهيكل (بيت يهوه) لأنه أساساً مسكن للإله وليس مكاناً للعبادة، وهو أهم مبنى للعبادة اليسرائيلية، وبعد هدمه عام 70م على يد القائد الروماني تيتوس، لم يحل محله مبنى مركزي مماثل، وقد كان اليهود يحجون إليه في أعياد الحج الثلاثة: الفصح، والأسابيع، والمظال، وبعد العودة من بابل عام538 ق.م كان السنهدرين (سندريون – المجلس اليهودي الأعلى) يجتمع في قاعة ملحقة به.

ومع استقرار العبرانيين في بلاد كنعان كان العبرانيون يقدمون الضحايا والقرابين للآلهة في هيكل محلي يعبر عن استقلالية كل قبيلة، ومع هذا ظل تابوت العهد مركز العبادة اليسرائيلية، وبعد تدمير شيلوه (المكان المقدس عند اليهود غير أورشليم) عام 1050ق.م، واستيلاء الفلسطينيين عليه أحضره داوود وبنى له خيمة في أورشليم، وقد ظهرت أماكن العبادة اليسرائيلية في أماكن مختلفة، لكن أياً منها لم يفلح في أن يصبح مركزاً دينياً لكل القبائل العبرانية المتناثرة، ولذا فمع تركز السلطة في يد الملوك (داوود وسليمان) تركزت العبادة القربانية في مكان واحد هو الهيكل في أورشليم التي كانت تقع على الحدود بين العديد من القبائل، كما أنها لم تكن تابعة لأي منها، لكل هذا أصبحت أورشليم مركزاً دينياً للقبائل العبرانية، ومن ثم لعبادة يسرائيل القربانية، وتاريخ بناء الهيكل هو أيضاً تاريخ تحول عبادة يسرائيل (البدوية المتجولة) إلى العبادة القربانية المركزية (المستقرة).

يشغل الهيكل مكانة خاصة في الوجدان اليهودي، فقد كان يتصور أنه يقع في مركز العالم، فقد بني في وسط أورشليم (القدس) التي تقع في وسط الدنيا، فقدس الأقداس الذي يقع وسط الهيكل هو بمنزلة سُرة العالم، والهيكل كنز الإله مثل جماعة يسرائيل، وهو عنده أثمن من السماوات والأرض، بل إن الإله قرر بناء الهيكل قبل خلق الكون نفسه.

فالهيكل يذكر عند الميلاد والموت، وعند الزواج يحطم أمام العروسين كوب فارغ ليذكرهما بهدم الهيكل، ويرى منظرو الحركة الصهيونية أن ظهور الصهيونية يعود إلى اللحظة التي هدم فيها الهيكل وفرض الشتات على اليهود، ويقوم الصهاينة بالتأريخ لوقائع تاريخ العبرانيين وتواريخ أعضاء الجماعات اليهودية في فلسطين بمصطلحات مثل (الهيكل الأول) و(الهيكل الثاني)، ويشير أول رئيس وزراء لإسرائيل (ديفيد بن غوريون المتوفى سنة 1973م) وكثير من الإسرائيليين إلى دولة إسرائيل باعتبارها الهيكل الثالث.

أولاً: هيكل سليمان
اشترى النبي والملك داوود (1004-965ق.م) أرضاً ليبني فيها هيكلاً مركزياً، ولم يبدأ هو نفسه بالبناء، حيث جاء في العهد القديم أن داوود كان يريد أن يبني هَيكلاً للرب في أورشليم، ولكن النبي (ناتان) أبلغه – من لدن الرب ِ- بأن يترك هذا المشروع لابنه سليمان (صموئيل الثاني7)، فقام بالمهمة ابنه النبي والملك سليمان (حوالي 965-928ق.م) وأنجزها بين 960 و953ق.م، وكان قد شرع في بنائه في السنة الرابعة لملكه، وهي السنة الأربعمائة والثمانين لخروج بني إسرائيل من مصر (الملوك الأول7:1)، بينما استغرق بناء قصره وملحقاته ثلاثة عشر عاماً، ولذا يسمى (هيكل سليمان) أو (الهيكل الأول). 

وبحسب التصور اليهودي، قام سليمان ببناء الهيكل فوق جبل موريا –  جبل بيت المقدس- أو هضبة الحرم التي يوجد فوقها المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ومن الصعب الوصول إلى وصف دقيق لهيكل سليمان، فالمصدران الأساسيان لمثل هذا الوصف هما كتاب (الملوك الأول 6:1-38)، و(الأخبار الثاني2:4)، وهما يقدمان صورتين تختلفان في كثير من التفاصيل، كما أن المصادر الأخرى تعطي تفاصيل أخرى تتناقض مع المصدرين الأساسيين.
وهيكل سليمان ليس بناءً واحداً إذ يضم قصر الملك ومباني أخرى، وكان ملحقاً بهذا المركب المعماري المذبح الصغير الذي يضم تابوت العهد، وكان يحيط بهذه المباني جميعاً فناء واسع، وقد أقيم هيكل سليمان مكان المذبح الصغير يحيط به فناء مقصور عليه يفصله عن المركب المعماري الأكبر.

كان للهيكل عدة بوابات، وتبلغ أبعاده 90 قدماً و30 قدما عرضاً و45 قدماً ارتفاعاً، وهو لا يختلف كثيراً في تقسيم الثلاثي (المدخل- البهو المقدس- قدس الأقداس) عن الهياكل الكنعانية، ونظراً لحياتهم البدوية، كان العبرانيون يجهلون فنون العمارة والهندسة على خلاف الحال في البلاد المجاورة بلاد الرافدين ومصر، ولذا فقد جلب سليمان البنائين والمهندسين من مدينتي صور وصيدا، كما تم استيراد القسم الأعظم من مواد البناء من جبال فينيقيا (لبنان).

وقد كرس سليمان جزءاً كبيراً من ثروة الدولة والأيدي العاملة فيها لبناء الهيكل، ولذا فإن ثورات وانقسامات عديدة حدثت بعد إتمام بنائه، وانتهت هذه الثورات بانقسام الدولة العبرانية المتحدة وتساقط العبادة القربانية المركزية.

وعند انقسام مملكة سليمان بعيد وفاته عام 928ق.م فقد الهيكل كثيراً من أهميته، إذ شيد ملوك المملكة الشمالية (إسرائيل) بقيادة يربعام مراكز مستقلة للعبادة، وقد هجم فرعون مصر شيشنق على مملكة يهوذا في ربيع عام924ق.م ونهب نفائس الهيكل، كما هاجم يهواش ملك المملكة الشمالية (إسرائيل) المملكة الجنوبية (يهودا) في عهد ملكها(إمصيا) وهدم سورها، وأخذ ما في هيكل سليمان من الذهب والفضة والأواني ونهب قصر سليمان وأخذ بعض الرهائن وعاد إلى السامرة العاصمة (الملوك الثاني14:14)، وفي عام 586ق.م هدم نبوخذنصر الكلداني هيكل سليمان وحمل كل أوانيه المقدسة إلى بابل.

وعلى أي حال فعلم الآثار يعطينا معلومات بأنه لم يبق من هيكل سليمان ولا من أسواره حجر واحد، وجل ما بقي قائماً إلى اليوم هو جزء من أساسات سور هيكل زرو بابل (الهيكل الثاني) الذي أقيم بعد العودة من المنفى في بابل عام520-515ق.م، وما يدعى خطأً ببرج داوود، الذي يرجع إلى فترة المكابيين في القرن الثاني قبل الميلاد، وأجزاء من سور الملك هيرودس (37ق.م -4م) بما فيها حائط المبكى (حائط البراق) التي تعود الى القرن الأول قبل الميلاد، وتؤكد عالمة الآثار السيدة (كاثلين كينيون)، التي كشفت عن كل ما يمكن كشفه في موقع القدس (أورشليم) القديمة، عدم جدوى البحث عن هيكل سليمان لأنه قد ضاع إلى الأبد.

ثانياً: هيكل زروبابل
مع هدم هيكل سليمان قام (زروبابل- أحد كبار الكهنة) الذي سمح له الملك الأخميني الفارسي بالعودة إلى فلسطين بإعادة بناء الهيكل من جديد (520- 515ق.م)، ويذكر العهد القديم أن الهيكل الثاني بني بأمر من إله يسرائيل وبأمر من أباطرة الفرس(كورش – سايروس الإخميني 559-529ق.م)، ولذا كانت تقدَم فيه يومياً قرابين لصالح الحاكم الوثني حامي صهيون، وكانت خارطة العاصمة الأخمينية الفارسية (سوسه – شوشه) مرسومة على مداخله، ولا توجد إشارات كثيرة إلى معمار هيكل زرو بابل ولا تقسيمه، ويميل معظم الباحثين والمؤرخين إلى أن نبوخذ نصر لم يهدم الهيكل الأول بل أحرقه ونهبه، فاستخدم العائدون اليهود من بابل بناءه دون تغيير.

وفيما يتصل بالمحتويات فإن قدس الأقداس كان فارغاً لأن تابوت العهد اختفى، وقد لعب هذا الهيكل دوراً أساسياً في إسباغ شرعية على فئة الكهنة التي صارت الفئة الإدارية الأساسية في مقاطعة يهودا (يهودا الأخمينية الفارسية)، وقد تعرض هذا الهيكل للنهب عدة مرات.

ثالثاً: هيكل هيرودس (الهيكل الثاني)
هيكل هيرودس هو الهيكل الذي بناه الملك هيرودس الكبير (37ق.م-4م) الذي عينه الرومان حاكماً رومانياً يحمل لقب (ملك) ويشار إليه بأن باني (الهيكل الثاني)، وأحياناً يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى الهيكل الذي أسسه زرو بابل، وبهذا يكون هيكل هيرودس (الهيكل الثالث)، وإن كان مصطلح الهيكل الثالث يستخدم للإشارة عادة إلى الهيكل الذي سيُشيَد في آخر الأيام مع بداية العصر المشيحاني،  وحينما اعتلى هيرودس العرش وجد هيكل زروبابل متواضعاً فقرر بناء هيكل آخر لإرضاء اليهود، ولكنه قرر في الوقت نفسه بناء هيكل لآلهة روما لإرضاء الإمبراطور الروماني (أغسطس)، ويبدو أن الهيكل الروماني لم يختلف عن الهيكل اليهودي في معماره.

بدأ هيرودس البناء في 19 -20 ق.م فهدم الهيكل القديم واستمر العمل في البناء وقتاً طويلاً، ومات دون إتمامه، استمر البناء حتى عهد حفيده أجريبا الثاني 64م، بل كانت تنقصه بعض اللمسات عندما هدمه تيتوس في9- 10/8/ 70م.

بني الهيكل على الطراز اليوناني – الروماني السائد، وقد وسع هيرود نطاقه ليضم مساحة واسعة وكانت له عدة بوابات وأربعة جسور.

ويذكر الباحث (حسن ظاظا- زازا) أن حائط البراق (حائط المبكى) كان على الأرجح جزءاً من جدار هيكل هيرودس الغربي، أو جزءاً من السور الخارجي الذي بناه هيرودس على حد تعبير الباحث المصري المختص باليهودية (عبد الوهاب المسيري)، واليهود يحرصون على تسميته حتى الآن (الجدار الغربي)، ويعتبر من أقدس الأماكن عند اليهود في الوقت الحاضر، يبلغ طوله مائة وستون قدماً وارتفاعه ستون قدماً، سمي باسم حائط المبكى لأن الصلوات حوله  تأخذ شكل عويل ونواح، وجاء في الأساطير اليهودية أن الحائط يذرف الدمع في التاسع من آب/ أغسطس يوم هدم الهيكل على يد القائد الروماني تيتوس، والتاريخ الذي بدأت فيه إقامة الصلوات بالقرب من الحائط غير معروف، وحتى القرن السادس عشر نجد أن المصادر التي تتحدث عن يهود القدس تشير إلى ارتباطهم بموقع الهيكل فحسب، ويبدو أنه أصبح محل قداسة بدءاً من سنة 1517م بعد الفتح العثماني لفلسطين على يد السلطان سليم الأول (1512-1520م) وهجرة يهود المارانو (الأندلس) حَمَلة النزعة الحلولية المتطرفة في اليهودية، فالنزعة الحلولية تظهر دائماً في شكل تقديس الأماكن والأشياء، كما أن وجود اليهود داخل التشكيل الحضاري الإسلامي ترك أثره العميق فيهم، فشعيرة الحج إلى مكة المكرمة والطواف حول الكعبة المشرفة وجدت صداها في تقديس حائط المبكى.

وقد قام الأثريون الإسرائيليون بعد حرب حزيران/ يونيوعام1967م بعمل حفائر في أساس الحائط، فكان أقصى ما عثروا عليه في الحجارة تحت الأرض آيتين من سفر النبي أشعيا محفورتين بخط يجعل نسبة هذه الحجارة لداود أو سليمان مستحيل، ويرجح العثور على هذا النص الى الشهور السابقة لإحراق المسجد الأقصى في سنة 1969م.

رابعاً: الهيكل الثالث
الهيكل الثالث مصطلح ديني يهودي يشير إلى عودة اليهود بقيادة الماشيَح (المسيح المنتظر) إلى صهيون لإعادة بناء الهيكل في نهاية الأيام، والهيكل الأول هيكل سليمان الذي هدمه نبوخذ نصر، والهيكل الثاني هيكل هيرودس، والهيكل الثالث مرتبط بالرؤى الأخروية لا بالتاريخ الإنساني، ومع هذا فقد صبغ الصهاينة هذه الرؤية بصبغة علمانية وجعلوا الاستيطان الصهيوني هو العودة المشيحانية، وبالتالي فإن الدولة الصهيونية (يسرائيل الحالية) هي الهيكل الثالث.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الإعلامية.

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب