بين البعث والإسلام السياسي.. ضياع الهوية السورية

06-05-2025
كاميران حاج عبدو
الكلمات الدالة سوريا
A+ A-
بقدر ما أساء نظام البعث إلى سوريا خلال أكثر من ستة عقود من الحكم، وفشله بل وتعمُّده في طمس الهوية الوطنية الجامعة لمصلحة أيديولوجيا قومية ضيّقة، فإن مسؤولية الإسلام السياسي، وعلى رأسه تنظيم الإخوان المسلمين، لا تقل خطراً، بل ربما كانت أشد وطأة من حيث النتائج التي نعيشها اليوم.
 
منذ عام 1963، هيمن حزبُ البعث على مفاصل الدولة والمجتمع، رافعاً شعارات "الوحدة، الحرية، الاشتراكية"، لكنها لم تكن سوى غطاء لحكم شمولي مركزي. استبدل البعث مفهوم "الوطنية السورية" بمفهوم "القومية العربية"، فأقصى المكوّنات غير العربية كالكورد، السريان، الآشوريين وغيرهم، ورفض الاعتراف بتنوُّعهم الثقافي واللغوي. ورغم ادّعائه العلمانية، اعتمد على بنية طائفية عميقة، مركّزاً السلطة في دائرة ضيقة، ورافضاً أي شكل من أشكال التعدد أو التداول السلمي للسلطة.
 
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، بدأ النظام يتراجع تحت ضغط الجماهير، فبرز الإسلام السياسي، وخصوصاً الإخوان المسلمون، الذين استغلوا حالة الفراغ السياسي. لكنْ، بدلاً من تقديم مشروع وطني جامع، وظّفوا الثورة، وحرّفوها عن مسارها المدني الشعبي، ليحوّلوها إلى صراع طائفي مُسلّح، مما فاقم الانقسامات المجتمعية، وزاد من عمق الشرخ الوطني.
 
تصرّف الإسلام السياسي وكأنهم الممثل الوحيد "للأكثرية"، ساعين إلى إعادة تشكيل الدولة السورية وفق رؤيتهم الدينية الضيقة، التي لا تتسع لغير المسلمين السُنّة، ولا لغير المنخرطين في مشروعهم السياسي. حتى المسلمين الذين لا يشاركونهم هذه الرؤية كانوا خارج دائرة "الشرعية" عندهم. خطابُهم لم يتضمّن عقداً مدنياً وطنياً، بل استند إلى نزعة أيديولوجية إقصائية أكثر تطرُّفاً من تلك التي مارسها البعث، سواءً في الرؤية أو في السلوك السياسي.
 
رغم اختلاف الأسس الفكرية بين البعث والإسلام السياسي، فإنّ كليهما تبنّى أساليب قمعية مشابهة للحفاظ على سلطته وتوحيد المجتمع حول رؤية واحدة. البعث بَنَى شرعيته على أساس "العروبة"، معتبراً أن العربي وحده هو المواطن الكامل، بينما خضعت باقي المكونات لمحاولات تهميش وتعريب. أما الإسلام السياسي، فرفع شعار "الهوية الإسلامية السنية"، وعدّ أن النموذج السياسي المنشود يجب أن يتمحور حول ما يراه "الأمة المسلمة"، واضعاً غير المسلمين السُنّة أو غير المتدينين في خانة المشكوك بولائهم.
 
في الممارسة، اعتمد البعثُ على القمع المطلق، وهيمنة الأمن، وتقديس الفرد القائد، بينما قدّم الإسلام السياسي والإخوان بنية تنظيمية منغلقة واستبدادية لا تقبل بالتعدُّد، وتحالفت مع قوى إقليمية على حساب استقلالية القرار الوطني.
 
البعث أنكر التعدد باسم "الوحدة"، بينما أنكر الإخوان والإسلام السياسي التعدد باسم "الدين". والنتيجة واحدة: تدمير الحياة السياسية، وتقويض إمكان قيام دولة مواطنين أحرار ومتساوين.
 
ما تعيشه سوريا اليوم من تمزُّق مجتمعي، وانقسامات طائفية وعرقية، وخراب سياسي واقتصادي، هو نتيجة مباشرة لتقاطع فشل النظام البعثي والإسلام السياسي في بناء هوية وطنية جامعة وموحدة.
 
كلا الطرفين استخدم السوريين كوقودٍ لمشاريعه، دون الاعتراف بهم كأفراد أحرار، متساوين في الحقوق والكرامة والتمثيل.
 
إن الخروج من هذا المأزق التاريخي لا يتحقّقُ عن طريق أيٍّ من النموذجين السابقين، وإنما يتطلب اعتماد عقدٍ اجتماعي جديد يُرسّخ مبادئ الحرية والمساواة، ويكفل الحقوق المتساوية لجميع المواطنين السوريين دون أي شكل من أشكال التمييز، وذلك على النحو التالي:
 
- الاعتراف بجميع المكوّنات القومية والدينية التي يتكوّن منها الشعب السوري، وضمان حقوقها وصونها بموجب نصوص دستورية واضحة وملزمة.
 
- فصل الدين عن الدولة بما يضمن حياد الدولة التام تجاه جميع المعتقدات، مع احترام الخصوصيات الدينية والثقافية والإثنية لجميع المكوّنات.
 
- إقامة نظام ديمقراطي تعدُّدي، لامركزي، يمنع احتكار التمثيل السياسي من أيّة جهة أو فئة، ويكفل المشاركة العادلة والمتوازنة لكافة المكوّنات، ضمن إطار اتحاد اختياري حر، قائم على مبادئ الحرية والعدالة والمساواة وسيادة القانون.
 
نحو عقد اجتماعي جديد
 
إن استمرار تغييب مشروع وطني جامع قائم على مبادئ المساواة والحرية والعدالة، سيبقي سوريا رهينةً لنموذجين استبداديين: أحدهما قومي والآخر ديني، وكلاهما عاجز عن تأسيس دولة لكلِّ السوريين. وفي غياب عقد اجتماعي جديد يكرّس الحقوق المتساوية لجميع مكونات الشعب السوري دون تمييز، ستظل البلاد عرضة لانقسامات مزمنة وما ينتج عنها من اضطراب سياسي واجتماعي واقتصادي.
 
إن تجاوز هذا المأزق يتطلّب تأسيس نظام سياسي جديد، يعترف بالتعدُّدية كمرتكز بنيوي للدولة، ويكفل - عبر الدستور والقانون - المساواة في الحقوق والحريات، ويضمن التمثيل العادل والمشاركة الفاعلة لكافة المكونات، ضمن دولة مدنية ديمقراطية اتحادية، تقوم على سيادة القانون ووحدة الإرادة الوطنية.
 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب
 

آخر الأخبار

محمود بابان

خمسة أسئلة عن الهجوم على حقل سرسنك والتوقيع على عقد حقلي النفط والغاز في حمرين

في صباح (15 تموز 2025)، تعرض حقل نفط سرسنك للهجوم بطائرات مسيرة، وهو الحقل الذي تديره شركة HKN الأميركية وتمتلك 62% من أسهم الحقل. في نفس اليوم، وبعد ساعات قليلة، أعلنت وزارة النفط العراقية رسمياً عن التوقيع على عقد بين شركة HKN وشركة نفط الشمال لتطوير حقل نفط حمرين بإنتاج يومي يبلغ 60 ألف برميل نفط مع 45 إلى 50 مليون قدم مكعب من الغاز.