هل المحكمةُ الاتحادية العليا الحالية دستورية؟

04-03-2022
الكلمات الدالة المحكمة الاتحادية الحزب الديمقراطي الكوردستاني مجلس النواب العراقي
A+ A-
 
محمد شاكر
 
للإجابة على هذا السؤال الحساس والخطير، يجب أن نرجع بعض الشيء إلى الوراء حتى تكون الإجابة شافية ووافية وتتوضح الصورة أكثر.
 
عندما أحيل عضو المحكمة الاتحادية العليا القاضي (فاروق السامي) إلى التقاعد نظراً لسوء حالته الصحية، ثم تلا ذلك وفاةُ عضوٍ آخر للمحكمة الاتحادية وهو القاضي (عبود التميمي)، أصبحت المحكمة الاتحادية معطّلة ولم تتمكّن من عقد جلساتها، إذ أن المادة (5) من قانون المحكمة الاتحادية رقم 30 لسنة 2005 تنصّ على أنه: "لا يكون انعقاد المحكمة صحيحاً إلا بحضور جميع أعضائها"، ولم تستطع أيّة جهة أن تعالج الاختلال الحاصل في نصاب المحكمة، وذلك لوجود فراغ دستوري وقانوني بخصوص الجهة أو الجهات التي تقوم بترشيح وتعيين القضاة للعضوية الدائمة في المحكمة، حيث لم يعُدْ هناك جهة معيّنة تقع على عاتقها هذه المَهمّة بعد أن كانت المحكمة الاتحادية قد حكمت بعدم دستورية المادة (3) من قانون المحكمة الاتحادية ووقامتْ بإلغائها، فلم يعُد بإمكان مجلس القضاء الأعلى ولا أية جهة أخرى أن يقوم بذلك، الأمر الذي استدعى ضرورة جبر هذا النقص الحاصل في عدد أعضاء المحكمة وتحديد الجهة التي ترشّح وتعيّن الأعضاء، وذلك  من خلال تعديل القانون النافذ أو تشريع قانون جديد، حتى تُفعَّل المحكمة من جديد وتتمكن من القيام بمهامّمها الدستورية والقانونية، وبعد أن عجز مجلس النواب عن التصويت على أصل مشروع قانون المحكمة الاتحادية، نظراً لكون الجلسة التي تنعقد لهذا الغرض تقتضي حضور وتصويت أغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب على القانون - أي 220 نائباً على الأقلّ -، كما تنصّ على ذلك المادة 92 البند / ثانياً من الدستور، وقد أدركت الكتل السياسية في مجلس النواب أنّ التصويت على القانون بأغلبية الثلثين أمرٌ معقّدٌ للغاية إن لم نقلْ أنه كان شبهَ مستحيل في ظل الانقسام والاختلاف الكبير الذي كان سائداً بين الكتل السياسية ولاسيما في مسألة تكوين المحكمة وكذلك نصاب صدور قراراتها، فدعتْ الى التصويت على تشريع قانون التعديل الأول للقانون النافذ ( الأمر 30 لسنة 2005)، وارتأوا أن تعديل القانون لا يستلزم حضور أغلبية الثلثين وتصويتهم عليه، بل أنّ الجلسة المخصصة لذلك - بحسب رأيهم - تنعقد بالأغلبية المطلقة لعدد الأعضاء - أي بحضور 166 نائباً على الأقلّ - والتصويت على القانون يكون بالأغلبية البسيطة - كأن يصوّت عليه 84 نائباً فقط من مجموع 166 نائباً - وقد تبنّوا هذا الرأي وتم تمرير القانون على هذا الأساس، رغم أنّنا اعترضْنا على ذلك، وعزّزنا وجهة نظرنا بأدلة، ودخلنا معهم في مناقشات مستفيضة، ولكن دون جدوى، حيث إنهم ظلوا متمسّكين برأيهم وعضّوا عليه بالنواجذ، ولم يُعيروا لرأينا أية أهمية تذكر، بل قالوا لنا بالحرف الواحد: بإمكانكم أن تطعنوا في دستورية القانون لدى المحكمة الاتحادية العليا بعد أن يؤدّي أعضاؤها الجدد اليمينَ الدستورية، باعتبار أنّ تفسير الدستور والحكم بدستورية القانون يقع ضمن اختصاصها، وبذلك أوصدوا جميع الأبواب في وجوهنا، وأُصِبْنا نحن المعترضين على ذلك - وكنّا قلّةً قليلة - بالإحباط وتيقّنّا بأنه لم يعُد هناك بصيصُ أملٍ لأنْ تُفسَّر المادة الدستورية على النحو الذي كنّا نفهمه ونتبنّاه ونؤمن به، لأنّنا حتى لو قدّمنا طعناً بخصوص عدم دستورية القانون آنذاك، فإنّ أعضاء المحكمة الاتحادية الجدد على الأرجح سيردّون الطعن وسيحكمون بدستورية القانون، لأنّ عضو المحكمة الاتحادية سيكون وقتئذٍ خصماً وحَكَماً في آنٍ واحد.
 
وعليه فإنه من المستبعد أن يُصدِر قراراً يقضي بعدم صحة عضويته، وفعلاً تمّ التصويت على قانون التعديل الأول للأمر 30 لسنة 2005 (قانون المحكمة الاتحادية العليا) بتأريخ 18/3/2021 بالأغلبية البسيطة في جلسة حضرها 204 نواب، أي أقلّ من ثلثي أعضاء مجلس النواب البالغ عددهم 329 نائباً، وقد قاطعنا نحن نوّابَ كتلة الديمقراطي الكوردستاني الجلسةَ، ولكن ذلك لم يغيّر من الواقع شيئاً، فالتصويت قد مضى دون عائق، ولانّ المحكمة الاتحادية كانت معطّلة، لم نستطع أن نقدّم طعناً آنذاك بشأن عدم دستورية الجلسة، وعلى إثر تشريع هذا القانون أحيل أعضاء المحكمة الاتحادية القدامى على التقاعد، وتمّ تعيين الأعضاء الجدد، وأدّوا اليمين الدستورية، الأمر الذي أدّى بنا نحن المعترضين على القانون أن نقف مكتوفي الأيدي حيال هذا الموضوع ولم نفكر حتى في تقديم الطعن لأعضاء المحكمة الاتحادية بعد مباشرتهم، لأنّهم بقبولهم للترشيح وبأدائهم لليمين الدستورية يكونون قد اعتنقوا الرأي الآخر وتبنّوه، وإلا لما أقدموا على ذلك ولما قبلوا العضوية في تلك المحكمة. 
 
لذلك طوينا هذه الصفحة، وأسدلنا عليها الستار، ثم دار الزمان ومرّت الليالي والأيام، وتمّ حلّ البرلمان، وإجريت الانتخابات المبكرة، وإذا بالمحكمة الاتحادية العليا تتصدّر مشهد الأحداث في العراق بقراراتها المثيرة للجدل، ولاسيما قرارها باستبعاد السيد هوشيار زيباري من سباق رئاسة الجمهورية، وكذلك قرارها الآخر بعدم دستورية قانون النفط والغاز الذي أقرّه برلمان كوردستان، الأمر الذي دعاني مجدّدا الى مراجعة الأدلة التي كنّا قد استندنا عليها في رأينا بخصوص عدم دستورية الجلسة التي تمّ التصويت فيها على قانون المحكمة، علّني أجد فيها دليلاً ملزِماً، وتمعّنتُ في النصوص الدستورية ذات العلاقة بالموضوع، ووقفتُ عندها طويلاً، وقمتُ بتحليلها تحليلاً دقيقاً من الناحية اللغوية، وكذلك الحال فيما يخصّ الأدلة الأخرى التي كانت بين أيدينا، قرأتها مراراً وتكراراً بلا كلل ولا ملل، وفي نهاية المطاف توصّلت الى رأي قطعي لا يقبل الجدل - بحسب فهمي القاصر وفكري الفاتر - بخصوص عدم دستورية تلك الجلسة، وبالتالي عدم دستورية المحكمة الاتحادية الحالية التي تمخضت عنها، وعدم ترتّب أيّ أثر قانوني على قراراتها، لأنها في تلك الحالة تكون في حكم المعدوم.
 
وقبل أن آتي إلى الدليل القاطع الذي هو بيت القصيد ومربط الفرس، أودُّ أن أسرد الأدلة الأخرى التي كنّا نستند إليها، وأبيّن مدى قوّتها في الاستدلال، ثم أختم كلامي بالدليل الذي أجده بحسب رأيي المتواضع قطعياً وملزِماً في هذا الموضوع.
 
وسأتناول تلكم الأدلة وأوضّحُ مدى قوّتها في الاستدلال وما تحملها من مناقشة على النحو الآتي:
 
1. نيّة المشرّع كانت واضحة حينما جعل نصاب الجلسة التي تعقد من أجل التصويت على قانون المحكمة الاتحادية - في المادة 92 البند ثانياً من الدستور - الثلثين، وكذلك جعل التصويت على القانون أيضاً بأغلبية الثلثين، وذلك لضمان مشاركة جميع المكونات في تشريع هذا القانون الخطير والحساس، ولخلق التوازن بينها، وحتى لا تفرض الأغلبية رأيها على الآخرين، نظراً لاختصاصاتها العديدة الهامّة، فهي التي تحمي النظام الديمقراطي في البلد، وهي التي تحمي الحقوق والحريات العامة، وتضمن نفاذ القانون، وتصون الدستور وتقع على عاتقها مهمة تفسيره، وتقوم بالرقابة على دستورية القوانين والأنظمة، وتفصل في النزاعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم أو المحافظات غير المنتظمة في إقليم، وغيرها من الاختصاصات الهامة، ولأن قراراتها باتة وملزمة للسلطات كافة، وعليه فإن هذا النصاب لم يأتِ عبثاً في الدستور، ولم يوضع اعتباطاً، وإنما كان ذلك تحقيقاً للغايات التي تمت الإشارة إليها، وذلك لأهمية المحكمة الاتحادية وللأدوار الهامة التي تلعبها، ولذلك فإنه ليس من المنطق في شيء أن يسمح بتعديل هذا القانون بالأغلبية البسيطة، لأنها في نهاية المطاف تؤدي إلى نفس النتيجة ويترتّب عليها نفس الآثار، والأمور بمآلاتها، والعبرة بالخواتيم، فعلى سبيل المثال قد نصت المادة 4 من قانون التعديل على إضافة جميع الاختصاصات الدستورية المنصوص عليها في المادة 93 من الدستور والاختصاصات الاخرى التي وردت في مواد أخرى الى المحكمة الاتحادية، فأصبحت تلك الصلاحيات الدستورية ضمن اختصاصها بعد أن لم تكن المحكمة تتمتع بكلّ تلك الصلاحيات، وتأسيساً على ذلك فإنّ من السهولة بمكان أن يقوم المجلس في قادم الأيام بتعديل بقية المواد ويشرّعها على غرار ما ورد في الدستور، ثم يصوّتون عليها داخل قُبّة البرلمان بالأغلبية البسيطة، وبالنتيجة سيشرّع قانون المحكمة الاتحادية العليا على ضوء ما ورد في الدستور تماماً، ولكن ليس بأغلبية الثلثين التي اشترطها الدستور، وإنما بالأغلبية البسيطة، بحجة أنها تعديل لقانونٍ نافذٍ قبل تشريع الدستور وليس بتشريعٍ لقانون المحكمة التي نصّ عليها الدستور!! وهذا هو التحايل بعينه، وهذه هي الطامة الكبرى، والباب مفتوح الآن على مصراعيه لمجلس النواب لكي يُقدِموا على مثل هذه الخطوة ولم يعُد هناك ما يمنع من ذلك.
 
هذا، وقد راجعتُ محاضر اجتماعات لجنة كتابة الدستور، فوجدتُ أنها تؤكد على خطورة وأهمية هذا القانون وضرورة مراعاة كلّ مكونات الشعب العراقي أثناء عملية التشريع، بحيث يكون القانون معبّراً عن إرادتهم، وتلمّستُ تلكم الحقائق من مناقشاتهم بصورة واضحة.
 
ولكن مع وضوح كلّ ما سبق، فإنه لا يكون دليلاً قطعياً على صحة ما نرتأيه بهذا الخصوص، إذ بإمكانهم أن يقولوا بأنّ محاولة اكتشاف حكمة التشريع والوقوف على غاية المشرّع ومراجعة الأعمال التحضرية التي سبقت صدور التشريع تعدّ وسائل مساعدة لتفسير النصّ ويمكن الاستئناس بها، ولكنها ليست بملزِمة وليست قطعية في تحديد المراد.
 
2. إن قانون المحكمة الاتحادية العليا  أو ما يسمّى بالأمر رقم 30 لسنة 2015 قد شُرّع قبل صدور الدستور، ولكنه نافذٌ ويتمّ العمل به بحكم المادة 130 من الدستور والتي تنصّ على أنه "تبقى التشريعات النافذة معمولاً بها، ما لم تُلغَ أو تُعدَّل، وفقاً لأحكام هذا الدستور". فنحن كنّا نرى في ضوء فهمنا للنصّ بأن تعديل قانون المحكمة الاتحادية يجب أن يكون وفقَ أحكام الدستور، أي بأغلبية الثلثين التي نصت عليها المادة 92 البند ثانياً من الدستور، أمّا هُم فكانوا يرون بأنّ هذا النصّ لا علاقةَ  له بالموضوع الذي ندندن حوله، ولا ينهض دليلاً لما كنّا ننشده ونصبو إليه . وبعد أن تمعّنت في النصّ هذه المرّة، وجدتُ أن الإشكال يتعلّق بكلمة (تُعدّل) من حيث الوقوف عليها من عدمه، حيث إنّنا إذا قرأنا النص على النحو التالي: "ما لم تلغَ أو تعدّل وفقاً لأحكام هذا الدستور"، ولم نتوقف على كلمة (تعدّل) وأوصلناها بكلمة (وفقاً)، آنذاك قد يكون معنى النص ما ذهبنا إليه من أنّ التعديل يجب أن يكون وفقاً لأحكام هذا الدستور، شريطة أن نكون قد وقفنا قبل ذلك على كلمة (معمولاً بها). أما في حال لو وقفنا على كلمة (تعدّل) ولم نوصلها بكلمة (وفقاً)، فيكون المعنى حينئذٍ: أن التشريعات النافذة تبقى معمولاً بها وفقاً لأحكام الدستور، ولا يكون دليلاً على ما نحن بصدده، ومن المعلوم أنّ علامات الترقيم تلعب دوراً محورياً في تفسير النصوص والوقوف على معانيها، وقد راجعتُ نسخة الدستور التي بحوزتي، فوجدتُ أنّ الفارزة تقع بعد كلمة (تعدّل)، وكذلك كان الحال في النسخة التي رجعتُ إليها على الشبكة العنكبوتية (الإنترنيت)، - مع ملاحظة أنّ كتابة النصّ التشريعي لا يحظى أصلاً بما يستحقه من اهتمامٍ بعلامات الترقيم وبالإعراب وبالتحريك عندما يقتضي الأمر ذلك بل وحتى بالإملاء الصحيح أحياناً وبالكتابة الصحيحة من ناحية الصياغة وسلامة التعبير أحايين أخرى، مع أنها أمور ضرورية وتساهم في تحديد المطلوب من النص وفهْمِه على الوجه الصحيح - وبناءً على كلّ ما سبق لا يصحّ الاستدلال بهذه المادة الدستورية - حسب قناعتي الحالية - على ما نحن بصدده، لأنها لم تُسَقْ أصلاً لهذا الغرض، وإنما سيقت لإقرار العمل بالتشريعات النافذة التي شُرّعت قبل نفاذ الدستور، على أن لا تكون قد أُلغيتْ أو عُدّلتْ.
 
3. نصّت المادة 92 البند ثانياً من الدستور على الآتي: "تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عددٍ من القضاة، وخبراء في الفقه الإسلامي، وفقهاء القانون، يُحدّد عددُهم، وتُحدّد طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانون يُسنّ بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب"، وعند إمعان النظر في هذا النص الدستوري، يُلاحَظ بأنّ المشرّع الدستوري قد ذكر صراحة بأنّ كل ما يتعلّق بالمحكمة الاتحادية - من حيث عدد أعضاء المحكمة وآلية ترشيحهم واختيارهم لعضويتها وكذلك عمل المحكمة - يجب أن يكون بقانون يسنّ ويشرّع بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب. ومن الواضح أنّ هذا يشمل تشريع قانون جديد للمحكمة الاتحادية ويشمل كذلك التعديل على القانون النافذ، طالما أنها متعلقة بالمحكمة الاتحادية، فقد ذكر النص الدستوري صراحة أنّ كلّ ما يتعلّق بالمحكمة الاتحادية يكون (بقانونٍ) - سواءً كان تشريعاً جديداً أو تعديلاً - (يُسَنّ بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب)، وسنّ القانون: يتناول تشريع قانون جديد ويتناول كذلك التعديل على القانون النافذ، إذ أن كلا الأمرين يُعدّ سنّاً وتشريعاً. ولكنّ الأكثرية من أعضاء مجلس النواب كانوا يرون بأنّ هذا النصّ مختصّ بسنّ قانون جديد للمحكمة الاتحادية ولا يشمل التعديل على القانون النافذ الذي تمّ تشريعه قبل نفاذ الدستور، وبناءً على ذلك كانوا يرون بأنّ عملية تعديل القانون النافذ تحكمها المادة ٥٩ من الدستور، فلا يتطلّب وجود أغلبية الثلثين لانعقاد الجلسة وللتصويت على القانون، وإنما تنعقد الجلسة آنذاك بالأغلبية المطلقة، ويتمّ التصويت على القانون بالأغلبية البسيطة. وهو ما حصل.
 
4. حينما اطّلعنا على الرأي الصادر من المحكمة الاتحادية العليا ذي العدد 107 الصادر بتأريخ 18/11/2012 بخصوص موقفها من مقترح (قانون تعديل قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005) وتفسيرها من خلال ذلك للمادة 92 البند ثانياً من الدستور، شعرنا بأنّنا قد وجدنا ضالّتنا وظفرنا بالمطلوب، حيث إنّ المحكمة الاتحادية قد أوضحت رأيها بهذا الخصوص بأوضح تبيان وأكّدتْ بصريح العبارة بأنّه "لا يخرج المشروع سواءً بشكل قانون أو تعديل القانون النافذ عن نصوص الدستور، وبالأخصّ نصّ المادة (92/ ثانياً) من حيث تُلزِم أن يصدر قانون المحكمة الاتحادية العليا أو تعديل القانون النافذ وفق الآلية المنصوص عليها في المادة (60/أولاً) وبالنصاب المنصوص عليه في المادة (92/ثانياً) من الدستور". وتابعت المحكمةُ وقرّرتْ بأنّ: "الذهاب إلى خلاف ذلك بالنسبة إلى تعديل المقترح يشكّل مخالفةً دستورية، حيث يتضمّن المشروع المقترح تعديلَ أسس القانون الحالي تحت مظلة (تعديل القانون)". وأضافتْ: "ونركّز هنا على أنّ قانون المحكمة الاتحادية العليا - إنشاءً أو تعديلاً- اختصّه الدستور بنصاب معيَّن للمصادقة عليه (بقانون يُسنّ بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب)، ولا يجوز مخالفة ذلك كما تقدّم إنشاءً أو تعديلاً".
 
وتصوّرنا أنه بهذا الرأي الصريح من المحكمة الاتحادية قد تبيّن الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود وتوضّحت الرؤية وحُسِم الموضوع وقُضي الأمر الذي فيه تستفتيان، فتعديل القانون النافذ لا يختلف من حيث الآثار والنتائج عن سنّ قانون جديد، ولكنّهم مع كلّ ذلك ظلّوا متمسّكين برأيهم ولم ينصاعوا لتفسير المحكمة العليا، بحجّة أنّ ذلك بيانُ رأيٍ من المحكمة وليس قراراً منها، وبحسب المادة 94 من الدستور فإنّ: "قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتّةٌ ومُلزِمةٌ للسلطات كافّة"، فاحتجّوا بأنّ المُلزِم من المحكمة -بناءً على هذا النصّ الدستوريّ- هو قراراتُها وليس آراؤها. -علماً أنّ هذه المناقشات التي أتحدّثُ عنها هنا وهناك كانت مع نائبٍ أو نائبين ممّن كانوا  يتبنّون الرأي المغاير، وكانت تُجرى في نطاق ضيّق خارج القاعة التي تعقد فيها الجلسة، وربّما داخلها أحياناً ولكن بصوت خافت حينما تكون الفرصة سانحة، إذ أنّ رئاسة المجلس لا تسمح بفتح باب المناقشة بعد أن يُعرَض القانون على التصويت- وبما أن الأكثرية الساحقة من النواب كانوا متبنّين لهذا الاتجاه، فقد تمّ التصويتُ على تعديل القانون بالأغلبية البسيطة وليس بأغلبية الثلثين، بل أنّ عدد الحاضرين من النواب في تلك الجلسة لم يبلغ الثلثين كما أسلفنا.
 
ولكنّني - ولاسيما بعد أن أصدرت المحكمةُ الاتحادية قراراتِها التي خلقت جدلاً واسعاً في الآونة الأخيرة - راجعتُ هذا الرأيَ الذي كان قد صدر عن المحكمة، ووقفتُ عندها مليّاً، وتساءلت في نفسي وقلتُ: إذا لم يكن بيانُ المحكمة الاتحادية لرأيها قراراً، فإنه وبدون أدنى شكّ تفسيرٌ لنصّ دستوريّ، وتفسير نصوص الدستور - وفقاً للمادة 93 البند ثانياً من الدستور - يعدّ من اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا، فيكون رأيُها واجبَ الاتباع بناءً على ذلك، ولاسيما أنّ هذا التفسير كان قائماً وقت التشريع وكانت المحكمة لازالت تتبنّاه، وبذلك يكون مجلس النواب قد جانب الصواب بتبنّيها لتفسيرٍ مغايرٍ لتفسير المحكمة الاتحادية، وبمنْحِه لنفسِه صلاحيةً هي خارجةٌ عن حدود اختصاصاتها التي نصّت عليها المادة 61 من الدستور، فتفسيرُ نصوص الدستور هو من اختصاص المحكمة الاتحادية وليس من اختصاص مجلس النواب، ناهيك عن عدم قناعتي بأنّ الرأي الصادر من المحكمة لا يكون مُلزِماً، ولكن على فرضيّة صحة هذا التوجّه، فإنّ الحجة الأخرى التي ذكرتُها - وهي كون تفسير الدستور  إنما هو من اختصاص المحكمة الاتحادية وكون التفسير الذي تتبنّاه المحكمة واجبَ الاتباع - هي حجّةٌ مُلزِمة، وهي واضحة وضوحَ الشمس في كبد السماء، ولا تقبل النقاش إطلاقاً.
 
وتأسيساً على ماسبق، فإنّ الجلسة التي تمّ فيها التصويتُ على قانون تعديل قانون المحكمة الاتحادية العليا كانت غير دستورية، ومخرجاتُ تلك الجلسة تكون هي الاخرى في حكم المعدوم، وبناءً على ذلك فإنّ على مجلس النواب أن يشرّع قانون المحكمة الاتحادية أو يعدّل القانون النافذ، حتى تُفعّل المحكمة الاتحادية العليا، وتقوم بالمهمّات الملقاة على عاتقها، لأنّ المحكمة الاتحادية الحالية غير دستورية، والقرارات التي صدرت  وتصدر عنها لا قيمة لها، وهي في حكم المعدوم.
 
وهنا أودّ أن أقول بأنّه مع قوة الدليل الذي أستنِدُ إليه ومع كونه دليلاً دامغاً وداحضاً وقاطعاً وملزِماً في حقيقته وفي كنهه، ولكنّني مع ذلك شبهُ متيقّنٍ بأنّه لن يُلتَفَت إليه، ولن يكون له أيّ تأثير على أرض الواقع، وسيكون بمثابة صيحةٍ في وادٍ ونفخٍ في رماد، ولن يجد آذاناً صاغية، ولن يغير من الواقع شيئاً، ولكن مع ذلك دائماً ما يكون هناك بريقُ أمل، ودائماً ما تتراءى لنا ومضةُ نور وإن كنا في ظلام دامس، وكيف لا ونحن نقطن في بلدٍ عريقٍ خُطَّ فيه أولُ قانونٍ على وجه الأرض، بلد حمورابي والمسلة.
 
وختاماً أقول: هذا ما جادتْ به قريحتي وانتهتْ إليه محاولاتي، ولا يكلّف اللهُ نفساً إلا وسعها، وما على الرسول إلا البلاغ.
 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب
 

آخر الأخبار

طلال محمد

مؤتمر وحدة الصف الكوردي.. ما قيمته التاريخية والسياسية؟

شهدت الساحة السورية مع بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين تحولات كبيرة، فتحت المجال أمام مختلف المكونات الاجتماعية للمطالبة بحقوقها وإعادة طرح قضاياها التاريخية، وفي هذا السياق، برز المؤتمر القومي الكوردي في سوريا بكونه محطة مفصلية في تاريخ الحركة الوطنية الكوردية، ومحاولة جادة لتوحيد الرؤية السياسية للكورد في سوريا ضمن إطار وطني جامع.