العراق

عبد الرحمن البزاز رئيس وزراء العراق يتوسط الباجه جي وزوجته سلوى في الامم المتحدة في نيويورك عام 1965
رووداو ديجيتال
تنشر رووداو على حلقات كتاب "عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"، فهذا الدبلوماسي الذي مثّل العراق في الأمم المتحدة لأكثر من 50 عاماً، وتبوأ منصب وزير الخارجية في الستينيات، ولد في بدايات القرن الماضي، ورحل في الربع الأول من القرن الحالي، وبهذا يكون بالفعل قد عاش بين قرنين مزدحمين بالأحداث العراقية والعربية والدولية.. كما التقى الملك فيصل الأول، مؤسس العراق الحديث، وعاصر كل رؤساء حكومات العهد الملكي ورؤساء الجمهوريات العراقية وصولاً إلى صدام حسين وما بعده. هذا الكتاب ليس مذكرات بالمعنى التقليدي، لم يكتبها الباجه جي بنفسه، بل هو صفحات بارزة من حياته، وتطلّب إنجازه المرور بمراحل عدة وعلى مدى أكثر من سبع سنوات، وعبر محطات بدأت في لندن عام 2010 وانتهت في أبو ظبي عام 2017.. أنا أسأل وهو يسرد بدقة.. كنا نتناقش، ونحلل، ونبحث، ونمضي خلال أزمنة ودروب وأزقة تنطلق من حي السنك في شارع الرشيد، حيث ترعرع الباجه جي، ونذهب إلى مدن بعيدة، نجتاز بحاراً وقارات لنتتبع قصصاً وأحداثاً وشخوصاً وتواريخ.. تحدثنا عن السياسة والمدن والأزياء وأسلوب حياة المجتمع العراقي خلال مائة عام تقريباً.
الحلقة (19)
اللقاء مع الملك فيصل الاول
يمتد تاريخ الدولة العراقية الحديثة منذ عام 1921، حيث تتويج فيصل الأول ملكا على العراق، وحتى سقوط العراق محتلا من قبل القوات الامريكية في أبريل(نيسان) عام 2003 في عهد الرئيس الاسبق صدام حسين، ليبدأ بعد ذلك تاريخ جديد للعراق تحت الإدارة الأميركية قبل أن تتشكل حكومات مؤقتة وانتقالية ودائمة، وإن كانت القوات الأميركية لا تزال في البلد.
عدنان الباجه جي يشكل ذاكرة العراق، فهو كان التقى الملك فيصل الأول، مرورا بكل الحكومات والعهود وحتى صدام حسين، وما بعده، كما التقى عددا من قادة ورؤساء العالم، سواء باعتباره الممثل الدائم للعراق لدى الأمم المتحدة، أو كوزير للخارجية.
وحتى لا نقع في إشكال زمني فإنه يوضح: "عندما التقيت الملك فيصل الأول كنت طفلا، أعتقد كان عمري ثماني سنوات، وحدث ذلك خلال مناسبة وطنية أو اجتماعية رافقت فيها والدي، السياسي مزاحم الباجه جي رئيس حكومة في العهد الملكي، وحييته". وربما كان الملك غازي، ثاني ملوك العراق، الوحيد الذي لم يأت على ذكره لانه لم يلتقيه، كون الباجه جي كان خارج العراق لانهاء دراسته الثانوية خلال عهد الملك غازي، ثاني ملوك المملكة العراقية حكم من 8 سبتمبر(ايلول) 1933 ولغاية وفاته في 4 أبريل (نيسان) 1939.
يستطرد قائلا: "لكنني بالتأكيد قابلت الأمير عبد الإله، الوصي على العرش، والملك فيصل الثاني الذي رافقته في زيارة إلى المملكة العربية السعودية، كما ذكرت في مرة سابقة، وكل رؤساء الحكومات في العهد الملكي تقريبا، سواء عندما كنت أعمل في الخارجية، أو عندما كانوا يزورون والدي في بيتنا".
جولة ليلية مع الزعيم
لكن المفاجأة هي مقابلته للزعيم عبد الكريم قاسم الذي أنهى العهد الملكي الذي ينتمي إليه الباجه جي، بل وخرج معه في جولة، يقول: "في نهاية عام 1961 جئت إلى بغداد في إجازة، وكنت المندوب الدائم للعراق لدى الأمم المتحدة، وطلبت مقابلة رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، فحُدد لي موعد في الليل وذهبت إلى مكتبه، إذ كان يقيم في مقر وزارة الدفاع (القديمة على ضفاف نهر دجلة بجانب الرصافة)، فحياني وقال: نحن نقدر عملك وجهودك، ثم بدأ يتحدث عن نفسه، وعما يريد تحقيقه للعراق، وعرض لي بدلته العسكرية التي فيها بقايا الدم، التي كان يرتديها عندما تعرض لمحاولة الاغتيال التي تعرض لها في شارع الرشيد، مساء السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1959، من قبل مجموعة من البعثيين، وتحدث لي عن الثورة وكيف تمت، والمباغتة التي قاموا بها، وأسهب في ذكر مصطلحات عسكرية، ثم أخذني معه في جولة في بغداد بسيارته العسكرية بعد منتصف الليل".
يصف الباجه جي تلك الجولة الليلية، قائلا: "كنت أجلس إلى جانب عبد الكريم قاسم في المقعد الخلفي، وكان هناك مرافق عسكري يجلس إلى جانب السائق ولم تكن هناك حمايات او سيارات تحمل مسلحين امامنا او خلفنا،ككما ان سيارته كانت من نوع شوفرليت عادية اي غير مصفحة ضد الرصاص، وتجولنا في كل بغداد، حيث أخذني إلى قناة الجيش التي افتتحت في زمنه، ثم مررنا بمخبز للصمون (الخبز) العراقي، وتوقف هناك وقال للعاملين والناس الذين تجمعوا لتحيته: كل هذا سويناه من أجلكم حتى لا يبقى في العراق أي فقير، بعد ماكو فقراء بالعراق".
ولا يزال الباجه جي يحتفظ بالشعور الأول، أو الفكرة الأولى التي كونها عن قاسم: "كان شخصا بسيطا للغاية، والناس كانت تلتف حوله لأنهم كانوا يحبونه، والبغداديون كانوا يسهرون حتى الصباح، وهذه عادتهم منذ العهد الملكي، فالناس كانت تشعر بالأمن والاطمئنان".
يستطرد في حديثه عن لقاه مع الزعيم، قائلا:"عدنا من جولتنا مع بداية الصباح حيث قدموا لنا (الريوك) الفطور، وكان عبارة عن صحن كباب عراقي مشوي، كان فطورا بسيطا (كان الحارس يجلب الكباب لقاسم من مطعم بسيط وشعبي من منطقة باب المعظم قريبا من وزارة الدفاع) واستغربت أن يكون طعام الفطور (الريوك) كبابا مشويا، ثم أعطاني صورته بعد أن كتب عليها إهداء (إلى عدنان الباجه جي تقديرا لإخلاصه للوطن) ووضع توقيعه، وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي التقيته فيها، حيث عدت إلى نيويورك وحدث انقلاب عبد السلام عارف والبعثيين (والتي عرفت بحركة 8 شباط عام 1963 أو ثورة رمضان هي حركة مسلحة أو انْقِلَابٌ عَسْكِرِي، أَدَّى إِلَى الإِطَاحَةِ بنظام حكم رئيس الوزراء عَبْد الكَرِيمِ قَاسِم)، إذ أعدموا قاسم بلا محاكمة في احدى ستوديوهات مبنى الإذاعة العراقية في الصالحية".
الاعدام عقوبة وحشية
يطري الباجه جي على قاسم وفي ذات الوقت ينتقده، قائلا:" كان عبد الكريم قاسم يعمل مخلصا من أجل إصلاح وإعمار العراق، وأراد أن يرتقي بمستوى الفقراء اقتصاديا، ولكن، أيضا، من أكثر أخطائه فداحة هي قيامه بإعدام الضباط القوميين في ساحة أم الطبول، وأشهرهم العميد الركن ناظم الطبقجلي، قائد الفرقة الثانية، والعقيد رفعت الحاج سري، الأب الروحي لحركة الضباط الأحرار والمؤسس الحقيقي لها، ومدير الاستخبارات العسكرية بوزارة الدفاع".
يكرر الباجه جي رفضه لأي قرار بإعدام أي سياسي أو بسبب أفكاره، مهما كانت هذه الأفكار، بل هو بصورة عامة ضد عقوبة الإعدام، يقول: "لقد شعرت بالأسف على مصير قاسم، فأنا مبدئيا ضد القتل وضد عقوبة الإعدام لأنني أعتقد أنها عقوبة بربرية ووحشية وخاطئة، أما الإعدام لأسباب سياسية فهذا مرفوض تماما وعلى الإطلاق، وأنا كنت ضد إعدام صدام حسين، وضد إعدام أي شخص، يعني من البربرية والوحشية إعدام رئيس جمهورية أو رئيس وزراء أو أي سياسي كان، ويحدث في عقوبات الإعدام كثير من الأخطاء، مثلا يتم إعدام شخص متهم بالقتل، ومن ثم يكتشف فيما بعد أنه بريء، وحدث ذلك كثيرا في العراق وفي أماكن أخرى من العالم، لهذا أفضل وضعه في السجن. وإلغاء حكم الإعدام أصبح مقبولا في أوروبا وكثير من الولايات الأميركية ودول العالم".
مع عبد السلام عارف
واحدة من مميزات الباجه جي هي تنظيمه الدقيق لحياته، لهذا نجد أن ذاكرته منظمة للغاية، تضم في طياتها ملفات أتخيلها معتنى بها وبمعلوماتها الغنية، يقول: "قابلت الرئيس عبد السلام عارف عام 1964 عندما ترأس وفد العراق في مؤتمر عدم الانحياز في القاهرة، وأنا كنت وقتذاك في نيويورك كمندوب دائم للعراق لدى الأمم المتحدة، فطلبوا مني الالتحاق بالوفد العراقي في المؤتمر، وكان صبحي عبد الحميد وزيرا للخارجية، وقد بذلت جهودا كبيرة خلال المؤتمر، خاصة في مناقشة قضيتي فلسطين وعدن".
يستطرد الباجه جي قائلا: "جلست مع الرئيس عارف كعضو في المؤتمر، وقد نقل لي وزير الخارجية شكر وتقدير رئيس الجمهورية للجهود التي قمت بها". منوها "أنا كنت أقابله دائما عندما عينت وزيرا للدولة للشؤون الخارجية عام 1966، إذ كان عبد الرحمن البزاز رئيسا للوزراء ووزير الخارجية، لكن عمليا كنت أنا وزير الخارجية، وكان من عادة الوزراء مقابلة رئيس الجمهورية في أي قضية مهمة، أو عندما يطلب هو، أو أي منهم يريد مقابلته، وعندما مات الرئيس عبد السلام عارف في حادث سقوط طائرة الهليكوبتر في محافظة البصرة كنت لا أزال وزير الدولة للشؤون الخارجية".
توفي الرئيس عبد السلام عارف على أثر سقوط طائرة الهليكوبتر السوفياتية الصنع طراز مي (Mi) في ظروف غامضة. إذ كان يستقلها هو ومحافظ البصرة محمد الحياني، وبعض وزرائه ومرافقيه بين قضاء القرنة ومركز مدينة البصرة مساء يوم 13 أبريل (نيسان) 1966 وهو في زيارة تفقدية لألوية، محافظات، الجنوب للوقوف على خطط الإعمار وحل مشكلة المتسللين الإيرانيين.
لقاء يتيم مع البكر
يتذكر الباجه جي، أنه "في عهد الرئيس عبد الرحمن عارف (الرئيس الثالث لجمهورية العراق، والحاكم الجمهوري الثالث منذ تأسيس الجمهورية، شغل منصب الرئيس للفترة من 16 ابريل (نيسان) 1966 إلى 17 يوليو (تموز) 1968وكان أحد الضباط الذين شاركوا في انقلاب 14 تموز 1958). صرت وزيرا أصيلا للخارجية وكنت أقابله (عبد الرحمن عارف) باستمرار، كما رافقته في سفرات إلى إيران وتركيا".
يبتسم الباجه جي وهو يتذكر لقاءه مع أحمد حسن البكر: "فاجأني أحمد حسن البكر بزيارة في مكتبي في وزارة الخارجية، وأنا لم أكن قد قابلته أو تعرفت عليه من قبل، ووقت ذاك كان هو خارج الحكومة، فرحبت به وتحدثنا سوية، فقال لي: نحن المؤمنين بالتيار القومي العربي يجب أن نتعاون ونتكاتف، وأرجو أن تتحدث مع الرئيس عبد الرحمن عارف لمساعدة إخوانه البعثيين وأن يتعاون معهم. كان يهدف لخداعي واستغلالي (يقشمرني يعني)، فقلت له: إن شاء الله، وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي ألتقي فيها معه. وبالفعل أبلغت رسالته إلى عارف، فضحك، ثم قال: نحن بالفعل نريد أن نفتح صفحة جديدة مع الآخرين ونفسح لهم المجال".
صدام التكريتي
كان لعدنان الباجه جي أكثر من لقاء مع الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين، يقول: "كنت قد سمعت عنه قبل أن أراه، كان ذلك عام 1967 وخلال اجتماع لمجلس الوزراء في حكومة ناجي طالب، كنت وزيرا للخارجية، إذ سأل أحد الوزراء قائلا: هل سمعتم أن صدام التكريتي قد هرب من السجن. لم أكن قد سمعت أو عرفت أي شيء عنه، فاستفسرت من يكون صدام التكريتي هذا؟ فأجاب الوزير قائلا: هذا شاب بعثي شارك في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، وهو متحمس جدا. وانتهى الموضوع".(محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم من قبل البعثيين تمت في شارع الرشيد في 7 تشرين الاول عام 1959، اذ لم تكن ترافقه في جولاته اية حمايات وسيارته كانت نوع شوفرليت موديل 1957 عادية وغير مصفحة ضد الرصاص).
بعد سنوات تركت العراق وكنت في أبوظبي مستشارا للشيخ زايد (رحمه الله) ، فجاء صدام حسين عام 1972، كان لا يزال نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة أحمد حسن البكر، فالتقى الشيخ زايد وكنت أنا أجلس إلى جانبه، فقال الشيخ زايد لصدام: الإنجليز والإيرانيون يهاجمون عدنان الباجه جي لأنه يتصدى لموضوع الجزر الإماراتية، كانت إيران قد احتلتها، وما زالت، فقال له صدام: لهذا نحن نحب عدنان".
في زيارته لأبو ظبي كان صدام حسين قد اجتمع مع الجالية العراقية هناك، يقول الباجه جي: "أنا كنت، ولا أزال أتصرف كمواطن عراقي وإماراتي، وأحمل جنسيتين وجوازين، عراقيا وإماراتيا، وليس عندي أي جواز آخر، لا بريطاني ولا أميركي، وخلال هذا الاجتماع كنت أجلس إلى جانب صدام حسين، قلت له: الآن هناك فرصة لتحققوا لنا حلمنا بإقامة الوحدة بين العراق وسوريا، فالجماعة الذين كانوا ضدكم في دمشق قد رحلوا. وكنت أعني صلاح جديد وجماعته الذين كانوا ضد ميشال عفلق، إذ أقدم حافظ الأسد على حركة سماها التصحيحية. وواصلت حديثي مع صدام حسين: اليوم هناك فرصة نتمنى أن لا تضيع ونتمنى أن تتفاهموا حول الوحدة. وبالفعل كانت هناك مباحثات قد جرت بين العراق وسوريا حول الوحدة بين البلدين، لكنها كانت مباحثات كاذبة، لا صدام ولا الأسد كانا جادين في تحقيق هذه الوحدة".
ويسترجع هنا حادثة لقائه مع عبد الحليم خدام، يقول: "فيما بعد التقيت مع عبد الحليم خدام في أحد المؤتمرات، حيث كان وزيرا للخارجية السورية، وتحدثت معه أيضا عن موضوع الوحدة بين العراق وسوريا، فقال لي: نحن نعرفهم، يعني القيادة العراقية، جيدا ولا نثق بهم. حتى وصلت الأمور إلى عام 1979 عندما استولى صدام حسين على السلطة في العراق وأعلن ما سماها بالمؤامرة الشهيرة التي اتهم فيها سورية وقيادة البعث في العراق، وبالتأكيد كانت كذبة كبيرة وعبارة عن صراع على السلطة ومن يسيطر على حزب البعث في العالم العربي. صدام كان يريد أن يسيطر على العراق والأسد على سوريا".
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً