لم يبق منها سوى 20 بالمائة.. الحروب وتجريف البساتين والمياه المالحة قضت على غابات نخيل البصرة

17-05-2022
معد فياض
الكلمات الدالة العراق معد فياض النخيل
A+ A-
معد فياض

حتى بداية الثمانينيات، كانت البصرة وما حولها، تبدو، وفي مشهد جوي من الطائرة، مثل بستان نخيل ممتد حتى آلافق، ولم نكن لنشاهد أية بناية من بين أشجار النخيل التي تعلو متباهية بخضرة سعفها ولون تمرها الذي يشبه الذهب، هذا يوم كان في عموم العراق أكثر من 35 مليون شجرة نخيل، ثلث هذا العدد في محافظة البصرة، ومجموع أشجار النخيل كانت تنتج ما يقرب من 627 صنفاً من التمور منها حوالي 50 صنفاً تجارياً.
 
ومن يزور البصرة اليوم سيصاب بصدمة نتيجة القتل الجماعي المتعمد لغابات النخيل، وإن الأراضي الخضراء تحولت إلى صحراء، والأكثر من هذا هو اقتراف جريمة تجريف بساتين النخيل وتحويلها إلى أراضي سكنية خلافاً لكل القوانين.
 
ويحدد متابعون عدد نخيل البصرة بعد عام من توقف الحرب العراقية - الإيرانية، وفي ضوء إحصائية عام 1989 بمليون وتسعمائة ألف نخلة بعد أن كانت تقدر عام 1977 قبل اندلاع الحرب مع إيران ب3 سنوات بأكثر من 13 مليون نخلة، إذ كانت الفسائل تزرع بوجود النخلة الأم والنخلة الجدة وكلها مثمرة.

 

 

 
الشجرة المقدسة
 
يعد العراق، تاريخياً، من أقدم مواطن زراعة النخيل في العالم، إذ كان أول ظهور موثق لشجرة نخيل التمر في العالم القديم في مدينة أريدو السومرية في جنوب العراق (حوالي 4000 ق.م) والتي كانت منطقة رئيسية لزراعة النخيل، كما يوجد في المتحف العراقي ختم يحتوي على رجلين بينهما نخلة يعود إلى عصر الأكديين (حوالي 2730 ق.م). وفي مسلة الملك البابلي حمورابي (1754 ق.م)، وردت سبعة قوانين متعلقة بالنخيل منها قانون يفرض غرامات كبيرة على من يقطع نخلة، وقوانين أخرى تتعلق بتلقيح الأشجار وبالعلاقة بين الفلاح ومالك الأرض وعقوبات على الإهمال وعدم العناية حيث تَفرض على الفلاح أن يدفع إيجار البستان كاملاً إلى المالك إذا سبب اهماله أو عدم عنايته بالأشجار قلة إنتاج التمر. وكان الآشوريون يقدسون أربعة أشياء هي نخلة التمر والمحراث والثور المجنح والشجرة المقدسة.
 
وجاء ذكر النخلة في القرآن الكريم في ثلاثة وعشرين موضعاً، وقال تعالى: "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون" (النحل:67). وفي حديث للنبي محمد (ص) "أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم". وسُمِع الأصمعي مراراً يردد: "سمعت هارون الرشيد يقول: نظرنا فإذا كل ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغان ثمن نخيل البصرة".
 

 
الحروب أولى المشاكل
 
حسب الخبراء في زراعة النخيل، فإن مشكلة انحسار مساحات بساتين أشجار النخيل لها مسببات عديدة، أهمها الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988)، إذ وجهت المدفعية الإيرانية فوهاتها نحو مدينة البصرة مما أدى إلى هجرة أصحاب بساتين النخيل وتركها، كما أن غالبية من قيادات الفرق والألوية وآلافواج في الجيش العراقي، القاطع الجنوبي، اتخذت من بساتين النخيل مقرات لها واستخدمت أشجار النخيل دروعاً لحمايتها من رصد القوات الإيرانية ومن مدفعيتها، وصارت هذه الأشجار المقدسة عراقياً ضحايا حيث تم اغتيال عشرات الآلاف منها بوحشية، واليوم نرى هناك عشرات الآلاف من أشجار النخيل وقد فقدت قممها التي هي قلب النخلة.
 
كما ساهم الجيش العراقي بقطع أعداد كبيرة من أشجار النخيل لاستخدام جذوعها كمعابر للأنهر (قناطر أو جسور) تمر فوقها الدروع والعجلات الثقيلة، وهذا تسبب بتجريف الآلاف من أشجار النخيل وطمر الأنهار والسواقي الفرعية التي تسمى حسب لهجة المزارعين في جنوب البصرة بـ(الشاخات) ومفردها (شاخة)، وتدمير التربة، غير هذا فان غالبية من الضباط وضباط الصف كانوا يقتلون أفضل أنواع نخيل تمر البرحي كي يأخذوا قلبها (الجمار) كهدية لعوائلهم دون أن يعرفوا أن النخلة ونخلة تمر البرحي وهو من أجود التمور في العالم هي بمثابة الابن لصاحب الأرض لما تتطلب من عناية وصبر طويل لانجاح زراعتها.
 
وجاءت حرب تحرير الكويت لتقتل الآلاف من أشجار النخيل عندما قصفت طائرات قوات التحالف غابات النخيل بمواد كيمياوية حولت الأشجار إلى جذوع خاوية وصارت كشواهد على هذه المجازر الاجرامية بحق البيئة والثروة الزراعية.
 

 
تجريف ومياه مالحة
 
المهندس الزراعي، مفيد بدر عبد الله، من أهالي البصرة، يضيف أسباباً أخرى لانحسار مساحات غابات أشجار النخيل في البصرة، منها: "تجريف البساتين لصالح تحويل الأراضي الزراعية إلى أراضي سكنية وارتفاع نسبة ملوحة المياه وشحة المياه الصالحة لسقي الأشجار".
 
وقال عبد الله لشبكة رووداو اليوم الثلاثاء، 17 أيار 2022، إن: "عدم توزيع الحكومة للأراضي السكنية دفع بجشع أصحاب شركات ومكاتب العقارات لغواية المزارعين من أصحاب بساتين النخيل ببيع أراضيهم بأسعار مغرية، ومن ثم بناء المساكن فوق هذه الأراضي خلافاً للقوانين التي توضح بان من حق صاحب الأرض الزراعية التي مساحتها خمسة دوانم بناء مسكن واحد له، لكن التجاوزات غير القانونية على الأراضي الزراعية مستمرة خلافاً لكل القوانين وفي غياب المتابعة والمحاسبة"، مشيراً إلى ان "أصحاب بساتين النخيل يجدون اليوم ان الاحتفاظ ببساتينهم التي تحولت إلى أراضي غير صالحة للزراعة وبعد موت النخيل موضوعاً غير مجدٍ اقتصادياً فقرر غالبيتهم بيع بساتينهم وترك أراضيهم التي عاش عليها أجدادهم وآباؤهم لمئات السنين".
 
ويشخص المهندس الزراعي الذي يشعر بالحزن على ما يجري للنخيل أسباباً أكثر أهمية، وهي: "ارتفاع نسبة الملوحة في شط العرب إلى أكثر من 12 بالمائة، ووصول مياه الخليج العربي المالحة (اللسان الملحي)، في شط العرب إلى حدود مركز البصرة (العشار) بعد أن قطعت إيران مجرى نهر الكارون الذي كان يغذي شط العرب وشحة المياه القادمة من نهري دجلة والفرات، بسبب السدود المقامة عليها خارج العراق، والتي تصل ملوثة أصلاً بعد أن ترمي فيها المصانع فضلاتها الكيمياوية والمياه الثقيلة للمحافظات من الموصل، بالنسبة لدجلة، والأنبار بالنسبة للفرات وحتى القرنة مما جعل من مياه شط العرب غير صالحة للاستخدام البشري وتسبب ذلك بظهور أنواع من أمراض السرطان، حتى أن زوجتي مصابة بالسرطان بسبب التلوث البيئي للمياه". موضحاً أن "البصرة التي كان يطلق عليها اسم (بندقية الشرق) تشبيها بمدينة فينيسيا (بندقية) الإيطالية لكثرة شبكات الأنهر فيها، تشكو اليوم من الجفاف ويستطيع أي شخص اليوم عبور أنهار بساتين مهيجران وحمدان وأبو الخصيب وباب سليمان مشياً لشحة المياه، وهكذا ماتت الآلاف من أشجار النخيل بسبب ملوحة المياه وشحة المياه الصالحة لسقي المزروعات، بل ان هذه المياه اثرت سلباً على الثروة السمكية".
 
يضيف المهندس الزراعي مفيد بدر عبد الله قائلاً: "المشكلة ان الخراب يعم كل شيء في العراق، الزراعة والصناعة والتعليم والصحة وليس موضوع النخيل فحسب، وبسبب هذا الخراب غابت مكابس التمور التي كانت تنتشر في مركز وجنوب البصرة وهي مصدر تصدير التمور إلى الخارج، وباتت أسعار التمور لا تغني ولا تسد حاجة المزارع الذي اتجه للعمل التجاري بعيداً عن زراعة النخيل والاهتمام بها"، وقال: "هل تصدقون بأن تمور الإمارات والسعودية تباع اليوم في البصرة بعد أن كانت تمورنا تغزو العالم كله، حدث هذا بسبب تراجع صناعة التمور وعدم اهتمام الحكومات بها وبالنخيل".
 
وفيما إذا كانت هناك بحوث تجري لتطوير زراعة النخيل، قال المهندس الزراعي عبد الله، إن "مركز الدراسات والبحوث في جامعة البصرة يجري الكثير من البحوث العلمية والعملية لزيادة زراعة النخيل عن طريق الزراعة النسيجية التي تتم في مختبرات متطورة مجهزة بمعدات خاصة، كما ان هناك بحوثاً لمعالجة أمراض النخيل، لكن للأسف، غالبية هذه البحوث ونتائجها لا يتم تطبيقها من قبل المزارعين أو أصحاب بساتين النخيل".
 
ومن الجدير أن نورد هنا ما كتبه فونتيه، القنصل الفرنسي في البصرة عام 1833 "ترسو كل سنة في نهر البصرة (شط العرب) نحو مائة وخمسين بغلة (سفينة شراعية) منها للعرب ومنها من تحمل العلم الإنجليزي لتنقل التمر، وهو عماد الثروة الرئيس للبصرة في العقد الأول للقرن التاسع عشر".
 
أصناف من التمور اختفت في العراق
 
ويتحدث، عبد الله الشاوي، صاحب بستان نخيل في منطقة حمدان القريبة من أبي الخصيب، بحزن بالغ على ما وصلت إليه أوضاع بساتين النخيل في البصرة، حيث "تحولت إلى أراضي جرداء ومالحة (سبخ) بسبب الجفاف وعدم اهتمام الحكومات المتعاقبة بهذه المصيبة التي حلت بثروة وطنية كانت الأهم قبل وبعد اكتشاف النفط".
 
وقال الشاوي لشبكة رووداو: "الأمر لا يقتصر على تناقص أعداد النخيل فحسب، وإنما اختفاء أو انقراض أنواع من التمور لم تعد تزرع اليوم، كالبرحي واليلوي والقنطار والخضراوي والحويز، ضمن أكثر من 25 نوعاً اختفت من المزارع والأسواق"، مشيراً إلى أن "أشعة الشمس لم تكن تخترق بستاننا في حمدان لكثافة النخيل، وكنا نمتلك أكثر من مائة شجرة نخيل برحي من أفضل الأنواع، لم يتبق منها سوى شجرتين في حديقة المنزل"، موضحاً بان "جدي كان من زرع نخيل البرحي، ووالدي زرع الكثير منها أيضاً، واهتم بها لأنها تحتاج إلى عناية كبيرة حتى تثمر، وبالتالي راحت ضحية الحروب والمياه المالحة التي غيرت حتى طعم التمر الذي أصبح جافاً وذابلاً، ولم يعد بتلك الحلاوة التي نعرفها سابقاً".
 
ويذكر الشاوي بان في عموم العراق كان هناك 627 صنفاً من التمور منها حوالي 50 صنفاً تجارياً، وأستطيع تسمية بعضها لا جميعها: بريم، جبجاب، برحي، خستاوي، مكتوم، أشرسي، أشرسي أسود، أشرسي هبهب، بربن، خصاب، مجهول، زركاني، قنطار، ليلوي، شكر، مريم، سلطاني، تبرزل، أحمر حلاوي، أخت استعمران أو ساير، أشقر، أبيض، أشوط، أصابع العروس، خضراوي البصرة، سكري". منوهاً إلى ان تمر الزهدي الشهير يشكل أكثر من نصف إنتاج العراق من التمور، ويرجع سبب ذلك لما تتميز به نخلة الزهدي من إنتاجيتها العالية والتي تتراوح ما بين 90 إلى 130 كغم، وكذلك تحملها الملوحة والجفاف والبرد لفترات قصيرة، وهي سريعة النمو في البيئة العراقية، وتتميز تمور الزهدي بتحملها الخزن لفترات طويلة".
 
ويختتم الشاوي حديثه قائلا: "أنا في حيرة اليوم بين أن أضحي بأرض آبائي وأجدادي وأبيعها إلى مكاتب العقارات ليتم تحويلها إلى قطع سكنية، أو أبقى محتفظاً بها بلا طائل، خاصة وان الحكومة غير مهتمة على الاطلاق بدعم أصحاب بساتين النخيل واعادة هذه البساتين إلى سابق عهدها وتطويرها، ونحن نعرف مدى اهتمام الدول المجاورة، خاصة الإمارات العربية بزراعة النخيل، حيث كان الشيخ زايد قد أمر بمنح ألف درهم شهرياً لكل من يزرع في بيته أو مزرعته نخلة ويهتم بها، وهذا القرار ما زال سارياً حتى اليوم".
 

 
من العراق لأميركا
 
في عام 1920 نشرت مجلة ناشيونال جوغرافيك الأميركية صوراً للدكتور والتر سوينجل، وهو على ظهر ناقلة بضائع (دوبة) محملة بعشرات الآلاف من فسائل النخيل، تنطلق من بغداد حتى البصرة لتحمل من هناك المزيد من هذه الفسائل قبل أن تنقل بواسطة باخرة كبيرة أبحرت من شط العرب إلى ولاية كاليفورنيا الأميركية، حيث كانت توجد هناك محطة للتجارب وتطوير زراعة النخيل ومن ثم انتشر النخيل في كاليفورنيا وأريزونا.
 
ويعتبر سوينجل هو الأب الروحي لزراعة النخيل في أميركا بتكليف من وزارة الزراعة في الولايات المتحدة آنذاك، والتي لعبت دوراً مهماً في نشر زراعة النخيل في أميركا، حيث قامت بتمويل الأبحاث العلمية المتعلقة بالنخيل والتمر وخاصة عن طريق محطات التجارب التابعة لها في ولايتي كاليفورنيا وأريزونا اللتين لهما دورٌ مهمٌ في تطور النخيل وخاصة في مجال الأبحاث التطبيقية التي تؤثر في نمو النخيل، وأيضاً على كمية وجودة التمورالمنتجة تحت الظروف البيئية في الولايات المتحدة.
 
في العام 1890 استوردت وزارة الزراعة الأميركية من العراق المغرب والجزائر وتونس ومصر وسلطنة عمان مجموعة من فسائل النخيل المختلفة معظمها صنف "دجلة نور" من دول شمال إفريقيا، وصنف "البرحي" من العراق، وتمت زراعتها في محطات الأبحاث الخاصة بالوزارة في كل من ولاية كاليفورنيا، وولاية أريزونا وفي تكساس، ونيومكسيكو. وبعد نجاحها وإنتاجها فسائل جديدة، تم توزيع هذه الفسائل على المزارعين الراغبين في زراعة النخيل مجاناً، والباقي زُرع في مراكز الأبحاث التابعة لوزارة الزراعة لأغراض الدراسة والبحث وتطبيق التجارب الحقلية عليها.
 

 
في عام 1921 ظهرت صورة الدكتور والتر سوينجل، أيضاً على غلاف مجلة ناشيونال جيوغرافيك وهو يحمل أولى تمرات البرحي العراقي، أي أنهم عملوا طوال أكثر من عشر سنوات من أجل إنجاح زراعة النخيل في الولايات المتحدة، ولم يتوقفوا عند هذا الحد، بل ان بحوثهم العلمية طورت النخيل ليعيش ويتكاثر في بيئة جديدة وهجنتها لتنتج تموراً متطورة ولذيذة، واليوم تصدر بساتين أشجار نخيل كاليفورنيا واريزونا أصنافاً متنوعة من التمور إلى كافة انحاء العالم، وتباع بأسعار غالية، إذ يتراوح سعر التمرة الواحدة ما بين دولارين إلى ثلاث دولارات.
 
كما طورت مراكز أبحاث السعودية ودولة الإمارات العربية زراعة النخيل وإنتاج التمور في الصحراء، والبلدان يصدران اليوم إنتاجهما من التمور إلى كافة البلدان العربية وأوربا، بينما العراق خسر هذه الثروة وقتل نخلته المقدسة بالإهمال.

 

 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب