عدنان الباجه جي: قصة حب جمعتني بزوجتي أكثر من 80 عاماً.. والزواج ساهم كثيراً بنجاح عملي الدبلوماسي

14-12-2021
معد فياض
معد فياض
الكلمات الدالة عدنان الباجه جي العراق
A+ A-
"عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"

تنشر رووداو على حلقات كتاب "عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"، فهذا الدبلوماسي الذي مثّل العراق في الأمم المتحدة لأكثر من 50 عاماً، وتبوأ منصب وزير الخارجية في الستينيات، ولد في بدايات القرن الماضي، ورحل في الربع الأول من القرن الحالي، وبهذا يكون بالفعل قد عاش بين قرنين مزدحمين بالأحداث العراقية والعربية والدولية.. كما التقى الملك فيصل الأول، مؤسس العراق الحديث، وعاصر كل رؤساء حكومات العهد الملكي ورؤساء الجمهوريات العراقية وصولاً إلى صدام حسين وما بعده. هذا الكتاب ليس مذكرات بالمعنى التقليدي، لم يكتبها الباجه جي بنفسه، بل هو صفحات بارزة من حياته، وتطلّب إنجازه المرور بمراحل عدة وعلى مدى أكثر من سبع سنوات، وعبر محطات بدأت في لندن عام 2010 وانتهت في أبو ظبي عام 2017.. أنا أسأل وهو يسرد بدقة.. كنا نتناقش، ونحلل، ونبحث، ونمضي خلال أزمنة ودروب وأزقة تنطلق من حي السنك في شارع الرشيد، حيث ترعرع الباجه جي، ونذهب إلى مدن بعيدة، نجتاز بحاراً وقارات لنتتبع قصصاً وأحداثاً وشخوصاً وتواريخ.. تحدثنا عن السياسة والمدن والأزياء وأسلوب حياة المجتمع العراقي خلال مائة عام تقريباً.
 
الحلقة  (8)
 
قصة حب كاثوليكية
 
قد لا يتحدث السياسي أو الدبلوماسي العراقي عادة عن حياته الخاصة وقصص الحب التي ربطته بالنساء اللواتي التقى بهن خلال مسيرته الحياتية، بل الأكثر من ذلك يعتبرون الحديث عن الحياة الشخصية والزواج من الأمور التي يجب أن يتستروا عليها، كونها شأناً عائلياً.
 
لكن شخصية منفتحة فكرياً واجتماعياً وثقافياً مثل الدبلوماسي العريق عدنان الباجه جي يعتبر هذا الموضوع جزءاً مكملاً لحياته السياسية والدبلوماسية والاجتماعية، خاصة وأنه عاش قصة حب لم يُعرف مثلها حتى في الروايات الرومانسية، ويفتخر بهذه القصة التي بدأت وهو في عمر العاشرة ولم تنته حتى وفاته عن 96 عاماً، إذ ربطته هذه العلاقة بزواج مقدس ودائم (كاثوليكي).
 
حدث ذلك عام 1933، كان في عمر الطفولة، عندما التقى ذات يوم خلال حفلة في مدرسته الأميركية الابتدائية بوالدة وأخت زميل دراسته، البنت تصغره بعامين، يشع الذكاء من عينيها، بينما كان شعرها الأحمر غير المسترسل مربوطاً بشريط، وحتى اليوم لا يدري عدنان الباجه جي لماذا أثرت فيه هذه البنت وانطبعت صورتها في مخيلته، صورة سيبقى يتذكرها، ويعيد وصفها بكثير من العناية، وفي كل مرة يتحدث عن تلك المصادفة، سوف يكتشف المزيد من التفاصيل الدقيقة، ربما لون ثوبها، أو لون الشريط الذي كانت تربط به شعرها.
 

قبل أن يبدأ بالحديث عن أول لقاء بينهما، استعدل في جلسته، تهيأ جيداً وكأنه سوف يسرد قصة أول حب يبوح بها للمرة الأولى، هدأ قليلاً، ابتسم خجلاً أو محرجاً، لكنه كان بالتأكيد سعيداً وهو يتحدث "أول مرة التقيت بفتاة، كان عمري 10 سنوات، كانت قد جاءت مع والدتها إلى حفل في مدرستنا ببغداد، حيث كان شقيقها معي في المدرسة وصديقي، عمرها وقتذاك لم يتجاوز الثماني سنوات، ولا أدري ما الذي شدني إليها مع أننا كنا أطفالاً".
 
وبينما ينشط ذاكرته كي لا تتبخر هذه الصورة أو الذكرى، أو بالأحرى الصورة الذكرى من رأسه، وبعد أربع سنوات من ذلك اللقاء سيكون عليه أن يلتقي بذات البنت الحلوة مع عائلتها، وهذه المرة سيكون اللقاء أطول، وسيأخذ مساحة أوسع، بعيداً عن الأرض، وفي عرض البحر إذ سيعود من نابولي، عندما كان في زيارة إلى والده في إيطاليا، إلى الإسكندرية على نفس الباخرة التي تقل علي جودت الأيوبي، رئيس الوزراء السابق، وعائلته، ولم يصدق أن البنت التي كان قد التقاها مع والدتها وأخيها في الحفلة المدرسية، هي ابنة علي جودت، صديق والده، قد كبرت وصارت أحلى.
 
يتذكر الباجه جي هذه الأحداث ويصفها، تماماً مثلما يصف حقلاً واسعاً من الزهور البرية التي تمتد على مد النظر "لكن الاهتمام الحقيقي بيننا بدأ في نابولي عام 1937، إذ كان والدها رئيس البعثة العراقية في باريس، أي بمثابة سفير، ذلك أن الدول الصغيرة وقتذاك وحسب اتفاقية فيينا الأولى لا تعين سفراء بل وزراء مفوضين وهم رؤساء بعثات ويقدمون أوراق اعتمادهم إلى الملوك والرؤساء، وكذلك كان والدي في روما، فقدم والدها استقالته وكان عائداً مع عائلته إلى بغداد عن طريق روما ليأخذوا الباخرة إلى الإسكندرية، وكنت وقتذاك في زيارة إلى والدي في العاصمة الإيطالية، حسب ما ذكرت سابقاً، فصادف أننا صعدنا على نفس الباخرة، وقد أتاحت لنا هذه السفرة المزيد من اللقاءات وتبادل النظرات، ووقتذاك كان هذا أقصى ما يمكن أن يحدث بين فتى وفتاة".
 
كان يتحدث وهو ينظر إلى اللوحة الزيتية التي رسمت لزوجته، بورتريه، وهي تقف في كامل بهائها وأناقتها، كان في الحقيقة يغازلها، اللوحة، فبانت زوجته خلال باب الصالة مبتسمة، وكنت بحاجة إلى طاقة تعبير غير الكتابة أو التسجيل الصوتي لرصد لحظات الحب هذه التي قادتهما إلى 72 سنة من عمر علاقتهما، وقت تسجيل هذه المذكرات، علقت زوجته قائلة وهي لا تزال تبتسم: "كان تبادل النظرات يعني الكثير، فالرومانسية كانت هي التي تحرك العلاقات والمشاعر وليس مثل اليوم.. اليوم ليس هناك مشاعر رومانسية للأسف"، ثم غابت في الغرفة المجاورة تسمع من خلالها الحديث وكأنها تريد أن تخفي مشاعر تفضح أول وآخر حب في حياتهما، بينما استطرد هو قائلاً: "أنا لم أتسلم منها سوى رسالة واحدة بعثت معها الصور التي التقطناها مع عائلتها على ظهر الباخرة".
 
لقاء في الجامعة الأميركية
 
كشفت لي ابنته، المخرجة السينمائية، ميسون الباجه جي، خلال لقائي بها في أبو ظبي، أنها عثرت، بعد وفاة والدتها، على دفتر ملاحظات صغير وقديم كانت أمها تحتفظ به، قالت "كانت أمي تدون تفاصيل هذه الرحلة، بين نابولي والاسكندرية، وهي عبارة عن مذكرات حب، إذ كانت ترمز لوالدي بحرف (A)، كي لا يتعرف عليه أحد فيما لو وقع هذا الدفتر بيد أحد غيرها، فمثلا كتبت "اليوم التقيت (A) على سطح الباخرة ونظر إلي، أو سلم علي، أو تحدثنا بضع كلمات، وتستمر بكتابة هذه الملاحظات المقتضبة وبلا تفاصيل كثيرة".
 
اللقاء الحاسم بين عدنان وسلوى سيكون في بيروت حيث كانا يدرسان هناك، يستمر بسرد حكاية الحب هذه قائلاً "عندما ذهبت إلى الجامعة الأميركية في بيروت كانت هي تدرس في كلية للبنات هناك، بالطبع كنا قد كبرنا فأنا كان عمري 19 سنة وهي 17 سنة، وكنا نلتقي هناك، لكن طوال السنوات التي لم نكن قريبين كنا نفكر في بعضنا من دون أن تكون هناك أي مراسلات أو اتصالات"، وسيعيشان واحدة من أجمل وأعمق قصص الحب التي لن تتكرر مثيلاتها، قصة حب بدأت بينهما، ومن غير أن يشعرا، في عمر الطفولة، ولن تنتهي حتى وفاتها.
 
أتذكر في أول لقاء جرى بيننا في أبو ظبي بعد رحيل زوجته، عزيته بوفاتها، قال بصوت منكسر وحزين "سلوى راحت يا معد وتركتني وحيداً"، ولم ينقطع عن ذكر اسمها، كأن يقول "هذا الكرسي اختارته سلوى، وهذه اللوحة جلبتها سلوى، وحتى عندما كان الطباخ الهندي يطهو أكلة عراقية، قال "هذه الأكلة سلوى علمته كيف يطبخها".
 
كان كل منهما يشعر بعواطف الآخر من غير أن يعلنا عن تلك المشاعر، فمهما كانت عائلتاهما متقاربتين اجتماعياً، ومنفتحتين فكرياً، إلا أنها تبقى ابنة علي جودت، الرجل العربي القادم من الموصل والمنتمي إلى عائلة شديدة في تحفظها وتمسكها بتقاليدها، بينما هو سليل الباجه جية، الذين نشأوا على تعاليم الدين الإسلامي، وتمسكوا بعاداتهم البغدادية العريقة.
 
تشع عيناه تألقاً، يتدفق الحب في شرايينه فيفضحه وجهه الذي يشرق بابتسامة فيها بعض الخجل "ما كنا بحاجة إلى الرسائل حتى إذا لم نلتق لسنوات، فكلانا يعرف مدى حب بعضنا لبعض".
 

"عباس المستعجل"
 
لكن واشنطن هي التي جمعتهما إلى الأبد، وعليه أن يبقى ممتناً، وهو كذلك، لأرشد العمري، وزير الخارجية الذي عينه لأول مرة سكرتيراً ثالثاً في السفارة العراقية لدى الولايات المتحدة بمعية السفير علي جودت الأيوبي، والد حبيبة عمره.
 
كلما تحدث عدنان الباجه جي عن هذه القصة تتملكه مشاعر من السعادة والنقاء، سعادة كمن يحب اليوم لأول مرة في حياته: "كنا نخرج معاً في واشنطن قبل الزواج، ولكن ضمن ضوابط، حيث كان يجب أن نعود إلى البيت في وقت معين يحدد من قبل عائلتها"، وكان راضياً بسعادة عن هذه اللقاءات مهما كانت قصيرة أو محدودة.
 
شعر الشاب المتطلع تواً لحياته العاطفية والعملية بأن طمأنة الروح والعقل والشعور بالرضا لم يعودا كافيين لخلق سعادته الحقيقية، قال: هناك "في واشنطن تعمقت علاقتي مع سلوى علي جودت، وطلبت من والدي أن يكتب رسالة إلى صديقه علي جودت الأيوبي، والدها، ليخطب ابنته لي، حيث لم يتمكن والدي من المجيء إلى أميركا لغرض الخطبة، فبعث، والدي، لي برسالة يقول فيها: (اشدعوة كأنك عباس المستعجل)، وهذا مثل يقوله العراقيون لكل من يستعجل في إنجاز أي شيء، وهو محق فقد كان عمري 23 سنة عندما أردت الزواج لكن شعور الشباب والحب دفعاني لأهم خطوة في حياتي، وتزوجنا بعد عام واحد من وصولي إلى العاصمة الأميركية، ومن حسن حظي أن زواجي كان نتيجة علاقة حب عميقة جداً، وهذا ما جعلنا نستمر طوال 64 سنة من الزواج (حتى وقت تسجيل هذه المذكرات) وارتباطي مع سلوى ساهم كثيراً بنجاح عملي الدبلوماسي".
 
من هارفارد إلى الزواج
 
لم يشغل الزواج عدنان عن عمله ودراسته، لكنه (الزواج) غيّر خطط الزوجة بإرادتها وليس بمقترح أو بإشارة منه، يقول: "كنت في واشنطن أدرس في جامعة جورج تاون لنيل شهادة الدكتوراه التي حصلت عليها سنة 1949، وهذا سبب تأخير سفرتنا الأولى إلى بغداد، التي تمت بعد 3 سنوات من زواجنا، بينما كانت زوجتي تدرس في جامعة هارفارد لنيل شهادتها العليا في الهندسة المعمارية، ثم جئت أنا لأغير كل شيء (خربطت عليها) خططها الدراسية، وصار النصيب مثلما يقال، وتزوجنا عام 1946، الحمد لله والشكر، ورزقنا بأول بنت، ميسون، سنة 1947"، يتطلع، ثانية أو للمرة الثالثة إلى اللوحة الزيتية، بورتريه زوجته، المعلقة قبالته تماماً فوق الحائط الذي يتصدر غرفة المعيشة في شقته بحي نايتس برج الراقي في لندن، ويعقّب "كان زواجنا ثمرة حب عميق وحقيقي وهو أول وآخر حب أشعر به لأول وآخر امرأة في حياتي، لم أحب أي امرأة سوى زوجتي التي أحببتها منذ بداية شبابي، وتزوجنا وصار عندنا 3 بنات هن ميسون وريم وليلى".
 
ميسون الباجه جي اتجهت إلى السينما، وهي اليوم مخرجة سينمائية معروفة عالمياً، وريم، التي يناديها والدها (ريمة) متخصصة بتصميم المجوهرات، أما ليلى فأخذتها الأوبرا العالمية إلى المانيا وهي مغنية أوبرا مشهورة.
 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب