رووداو ديجيتال
عراق.. يا عراق كان العراق قريباً مني، بعيداً عني، كانت تفصلني عن بغداد، مدينتي التي ولدت وترعرعت فيها ساعات عشر بواسطة السيارة من عمان. شاشة الفضائية العراقية (الرسمية في عهد صدام) تنقل أحاديث صدام حسين لقواده حاثاً إياهم تعليم الجنود كيف يغسلون أياديهم بعد استخدام التواليت، مستمعاً لأحاديث مكرورة عن بطولتهم في قادسية صدام (الحرب العراقية الإيرانية)، كان القائد منتشياً، وهو يمنح متحدثيه كل الرضا بمفردته المشهورة (عفية)، بينما شاشات العالم كله كانت مشغولة بنقل تفاصيل نقل آلاف الأطنان من المعدات العسكرية من أميركا وبريطانيا وأستراليا، وآلاف الملقاتلين الذين كانوا يتوافدون إلى الكويت لخوض حرب أخيرة ضد صدام، حرب تحرير العراق، والبعض من الصحافيين العرب كانوا يظهرون على شاشات الفضائيات العربية منتشين، كصدام، بالنتائج والدروس التي سيلقنها "بطل التحرير القومي" للأميركان، ومتهمين إيانا بالعمالة لأننا كنا في انتظار ساعة الصفر التي ستنقذ العراق من صدام. لم يبق صحفي، كبيراً كان أو متواضعاً في مهنيته، إلا وتحول في تلك الأيام إلى محلل سياسي وعسكري في الشأن العراقي، وكانت بعض المحطات التلفزيونية تستبعد، عن عمد، الصحفيين العراقيين الذين في الخارج كي لا يتحدثوا عن الأحداث بواقعها الواضح مما يزعج المواطن العربي الذي غسلت دماغه أبواق فارغة.
بداية النهاية
في نهاية شهر شباط من العام 2003، حيث كانت أنباء الحشود العسكرية الأميركية والبريطانية في منطقة الخليج تؤكد أن رئيس الولايات المتحدة الأميركية، جورج دبليو بوش اتخذ قراره ببدء العمليات العسكرية لتحرير العراق وإزاحة صدام حسين، كان غالبية من الصحافيين والمحللين السياسيين لا يقرأون الأحداث بصورة واضحة فيتصورون أن كل هذه الأرتال العسكرية هي مجرد تهديد ليس إلا! بينما كنا نحن نسمع هدير محركات الدبابات والمدرعات التي كانت تتحرك عن قرب.
كنت أبحث عن طريقة أدخل فيها إلى العراق لأهداف كثيرة، قد تكون التغطية الصحفية من ضمنها لكنها ليست كل شيء بالنسبة لي، فدخول العراق بعد عقد من السنوات، ومعايشة حدث رحيل أو إزاحة صدام حسين من الداخل، إلى جانب أني لم أكن لاتحمل مراقبة الأحداث من خلال شاشات التلفزيون، كل هذه الأمور كانت تدفعني لأكون هناك، في الداخل، وليس في أي مكان آخر.
كان العراق قريباً مني وبعيداً عني، ففي الحسابات الجغرافية والعاطفية كان أقرب ما يكون، وفي الحسابات الواقعية والسياسية كان بعيداً.. بعيداً جداً. كيف لي أن أصله وأنا المطلوب هناك لاكثر من جهاز أمني؟ لم أرتكب أية تهمة سوى انتمائي للعراق الذي كتبت فاضحاً جروحه التي كان يعتملها النظام في جسده.
كل الطرق تؤدي إلى العراق
كان الدور الأميركي يتلخص بتسهيل عملية دخولنا، كمجموعة إغاثة، إلى العراق، وبوساطة من الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البحرين، الذي فتح لنا أراضيه لتكون لنا الجسر الذي ينقلنا إلى بلدنا، وهو الشخصية العربية الوحيدة التي دعمت مشروع وصولنا إلى العراق كأول مجموعة عراقية تدخل البلد عام 2003 حيث كان صدام حسين ونظامه ما يزال مسيطراً على العراق، وكان ذلك أمراً طبيعياً، فكيف لنا أن ندخل إلى العراق والحرب تدور رحاها، والحدود مغلقة من كل الجهات؟ حتى وسائل الإعلام الغربية ومنظمات الإغاثة والعون الدولية كان عليها أن تحصل على موافقة مسبقة من قبل قوات التحالف (الأميركية والبريطانية خاصة) لتكون في الداخل. وأسأل اليوم أولئك الذين انتقدوا دعم الإدارة الأميركية، ومساعدتها لنا بالدخول إلى العراق، عن من دعمهم وسهّل لهم عملية دخولهم بعدنا إلى الأراضي العراقية ؟ وعن من وفر لهم الحماية للتحرك هناك؟ وعن من قلدهم مناصب قيادية في بغداد؟ ألم يعتمدوا كلياً على القوات الأميركية للوصول إلى الأراضي العراقية؟ أوَلم تكن الإدارة الأميركية هي التي أجلستهم فوق كراسي من ذهب؟ أعترف أن القوات الأميركية ساعدتنا كثيراً من أجل الوصول إلى العراق بسلام.
هدير محركات أنواع من مختلف الطائرات ما يزال يدور في رأسي، بدءاً بهدير الطائرة الخاصة التي كانت قد أقلتنا من مطار "غاتويك" قرب لندن، ومروراً بطائرات الشحن العسكرية العملاقة، وليس انتهاء بطائرات الهليكوبتر المتعددة الأغراض. اكثر من ستة أنواع من الطائرات تعاقبت على إيصالنا من إنجلترا حتى البحرين ثم العراق، وربما أكون قد ارتكبت خطأ عندما أغفلت معرفة وتسجيل أنواع هذه الطائرات وأجيالها وامتيازاتها.. طائرات كنت قد شاهدت مثيلاتها في الأفلام السينمائية الحربية أو خلال الأخبار عن الحرب الأميركية على العراق، وما كنت لأتصور بأني سأصعد يوماً على متن إحداها.
كنت قد سافرت كثيراً، بالطبع، بواسطة طائرات نقل المسافرين الاعتيادية، ولن أنسى أنني أقحمت مراراً في أنواع مختلفة من طائرات الهليكوبتر التابعة لطيران الجيش العراقي خلال الحرب العراقية الإيرانية عندما كانت تحتدم المعارك فأنقل فجأة، كمراسل حربي، أستطيع أن أميز واحدة مترفة منها وهي (الغزال) الفرنسية الصنع والتي تتسع لأربعة أشخاص بضمنهم الطيار. الطائرة الخاصة التي كان يفترض ان تقلنا إلى أرض الوطن كانت تبدو مترفة من الخارج، وهي كذلك، كنا نتصور أن يتم نقلنا بطائرة عسكرية معتمة اللون، لكن هذه طائرة التي حلقت بنا من مطار غاتويك، كانت بيضاء، ليس عليها أي شعار يوحي بعائديتها لأية شركة طيران معروفة، فهي طائرة للأجرة (تاكسي)، مثلما كان مدوناً في داخلها وعلى لوائح الأمان وتعليمات النجاة.
في مطار"غاتويك"، وبعد أن تم تفتيش حقائبنا في ركن من أركان الطائرة، وليس في أقسام مغادرة المسافرين العاديين، وقبل أن نرتقي سلم الطائرة، عرفت بأننا ذاهبون إلى البحرين، وكنت أعتقد بأن رحلتنا إلى العراق ستكون من خلال الأراضي الكويتية ثم البصرة، باعتبار أن الكويت هي الأكثر قرباً إلى الأراضي العراقية، وأن القوات الأميركية اتجهت من أراضيها نحو العراق. ثم أنه ليس هناك ما يمنع دخولنا إلى بلدنا من خلال الكويت المؤيدة للحرب والمعادية لنظام صدام.
وقبيل الساعة الواحدة ظهراً بدأت الطائرة بالإقلاع من مطار غاتويك. وبينما كنت أراقب لندن وهي تتحول إلى خطوط ومربعات من خلال النافذة، كان لكل من في المجموعة المتوجهة معنا إلى العراق، طموحه في هذه الرحلة، وإذا كانت للبعض منهم طموحات سياسية وجد أن هذه هي الفرصة المناسبة لتحقيقها، فقد كنت شخصياً أريد معايشة حدث التخلص من نظام صدام حسين من الداخل، ذلك النظام الذي لم نكن لنتخيل السيناريو الذي سيزيحه من فوق صدور العراقيين، وكأنه قدرنا الأزلي. حتى أنه انتابتنا شكوك بمصداقية أو قدرة الحشود العسكرية الأميركية والبريطانية العملاقة لإزاحة ذلك النظام الذي بالغ في قسوته ففاق الخيال.
لا أدري لماذ افكر الآن بمعنى الوطن وأنا انتظر موعد وصولنا إليه بعد كل هذه السنوات. ألم تتحول بريطانيا التي استقبلتنا ومنحتنا الأمان إلى وطن؟ ألم يقل الإمام علي قبل ما يقرب من خمسة عشر قرناً إن خير البلاد من آواك وآمنك، وإن الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن؟ مرت في ذهني صور فلمية عن أولئك الذين نزحوا من العراق منذ بدء فصول الذبح المجاني والدم التي دشنها الضباط الأحرار عندما اخترقوا حرمة العائلة المالكة وذبحوها فجر يوم صيفي قائض، 14 تموز 1958، عند مدخل مسكنها في قصر الرحاب في حي الحارثية الراقي بجانب الكرخ من بغداد، فصار كل ضابط يحلم بأن يكون رئيساً، يصعد على ظهر دبابته ويتجه نحو قصر الحكم ليغير النظام بقوة السلاح من غير وضع أي اعتبار للشعب الذي يتحدثون باسمه، ويبيدونه في ساحات الإعدام والانقلابات والحروب تحت حجة رعاية المصالح الوطنية والقومية التي حاربوا باسمها كورد العراق وأبادوا بلدات مع أهلها في كوردستان العراق، مواطنون كورد عراقيون دفنوا الآلاف منهم أحياء تحت تراب الوطن الذي نتغنى باسمه؟ ثم ماذا بقي لنا من وطننا العراق؟ وأي وطن هذا تجردنا حكومته من الانتماء إليه وتسحب أوراقنا الثبوتية في أية لحظة تريد، وطن تتهمك شرطته السرية بالخيانة والردة والتجسس، وطن حولته الأنظمة الشمولية والعسكرتارية إلى سجن كبير ومقبرة جماعية هائلة للعرب والكورد.
الوصول إلى دلمون
أعود بعد عقود من النفي من غير أن أعرف بأية لغة سأتفاهم بها مع عراقيي الداخل الذين شوه صدام صياغتهم خلال خمسة وثلاثين عاماً من الحروب والقسوة والحرمان. هل سنجد أهلنا مثلما هم، مثلما تركناهم، أم أن الظلم والاضطهاد غير من إنسانيتهم وجعلهم يتشبهون بالظالم؟ كان غالبية الأصدقاء القربيين قد حاولوا جهدهم لإثنائي عن المشاركة في هذه الرحلة من غير أن يقنعوني بالأسباب سوى القول "ليس هذا الوقت المناسب" مع أني وجدته الوقت المناسب جداً لأكون هناك في العراق. أفكر اليوم وأتساءل: ترى ما الذي دفع بذلك الشاب العراقي الذي ظهر على شاشات الفضائيات لحظة دخول القوات الأميركية إلى بغداد أن يهتف قائلاً "أنا اليوم أصبحت أميركياً" ولم يقل إني استعدت اليوم عراقيتي.
بدأت الطائرة تهبط تدريجياً من ارتفاع خمسة وثلاثين ألف قدم إلى مستويات قريبة من الأرض، فجأة تكشفت ومن خلال نوافذها أنوار بدت وسط ظلمة الصحراء مثل ثريا كبيرة وزاهية، تلك هي البحرين إذن، وها هو الجزء الأول من الرحلة قد أوشك على البداية.
لم نهبط في المنامة كما تصورت، كما لم يهيأ لنا فندق ذو خمس أو أربع نجوم، بل ولا نجمة واحدة. كنا قد هبطنا في الصحراء، أو هذا ما بدا لي لحظة نزولنا من الطائرة، لم تكن هناك أية بناية أو منشأة تدل على وجود مدينة، كانت الصحراء تحيط بنا من كل جانب، ولم يكن هناك أي من المستقبلين يتحدث العربية بل بإنجليزية وبلهجة أميركية، وهذا يعني ببساطة أننا هبطنا في قاعدة عسكرية أميركية. حتى تلك اللحظات كنا نتصور أن مكان إقامتنا سيكون في بناية أو دار استراحة تتوفر فيه مستلزمات الراحة، لكن الباص الذي كان يقوده جندي أميركي طويل القامة ويضع نظارة طبية قادنا إلى مجموعة من الخيام، خيام متقابلة يفصلها خطان متوازيان. نزلنا مع حقائبنا قرب هذه الخيام، قادتنا مجندة أميركية إلى خيمتين متقابلتين في آخر الصف، كانت هذه الخيام هي المقر الذي خصص لإقامتنا المؤقتة.
صباح اليوم التالي اكتشفنا أن البحر على مبعدة ثلاثمائة متر منا، لكن هناك حواجز تمنع الوصول إليه، بل تحجب رؤيته بسهولة، كما أن جداراً كونكريتياً عالياً كان يحدنا من جهة اليمين، ويقف باستمرار ثلاثة من الجنود، أو المجندات، بالقرب منا، لا أدري إن كانوا هناك من أجل حراستنا أو الاحتراس منا.
لم أكن أعرف إلى متى سنبقى في تلك القاعدة، أيام تشابه بعضها، وكل ما نفعله هو تكرار الأحاديث والأكل وشرب الشاي والقهوة، ومتابعة أخبار العراق من خلال شاشة التلفزيون الذي وضع خصيصاً لنا واحتدام النقاشات في بعض الأحيان. وكان كل ما حولنا هو اللون الخاكي. أحالني المشهد الخاكي إلى كراج ساحة النهضة في جانب الرصافة من بغداد خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) وازدحام هذا الكراج وكراج الكرخ في منطقة (علاوي الحلة) بالجنود الذاهبين إلى جبهات الموت.. كانت هناك حروب داخلية مستمرة ضد الكورد، وضد الحزب الشيوعي، وضد الشيعة، وضد السنة، وضد الشباب الذين يطلقون شعورهم، وضد العشاق، وضد كل ما هو حياتي.
كانت قوات التحالف تتقدم من الأراضي الكويتية باتجاه المدن العراقية من غير أن نسمع عن تحرير كامل لأية مدينة، وكان القصف الجوي والصاروخي يدك بغداد، ونحن في انتظار تحرير أية مدينة لننتقل إليها. كانت الخطط الأولية تقضي بدخولنا البصرة أولاً، ثم تغيرت وأصبحت محاور مدينة السماوة هي المرشحة، لكن سرعان ما جاءت الأخبار لتتحدث عن قرب تحرير مدينة النجف ثم الناصرية. لم تكن تعنيني أية مدينة ستتحرر أولاً، بل المهم أن نتحرر، نحن تحررنا من هذا الحجر الممل، كنت أشعر بأني محتجز بالرغم من (الدلال) والاهتمام الذي كانت السلطات البحرينية توفره لنا ريثما نغادر القاعدة.
قلت لمسؤول الرحلة "لماذا لا نذهب إلى أربيل عن طريق تركيا أو سوريا"، ذلك أن مدن كوردستان هي جزء من العراق ومحررة وآمنة منذ عام 1991، وأنا على يقين بأن الكورد، وخاصة الحزب الديمقراطي الكوردستاني، سوف يوفر لنا الإقامة الآمنة، ومن هناك يمكننا أن نصل إلى بغداد، أجاب بأن دخولنا إلى العراق من مسؤولية الإدارة الأميركية لضمان سلامتنا، كما أننا نريد الوصول إلى مدينة جنوبية أو وسط العراق لتنفيذ مشروعنا الإغاثي، وأربيل مدينة آمنة ومستقرة ولا تحتاج جهودنا الإنسانية مثلما البصرة أو النجف أو السماوة.
الذهاب إلى المجهول
بعد أربعة أيام من وصولنا إلى القاعدة اقتربت منا سيارتان شيفروليه (سوبربان) جديدتان لم تحملا بعد أية ارقام، هبط من الأولى شخص أميركي، كان طويلاً بعض الشيء ونحيفاً للغاية، يضع نظارة شمسية ويرتدي فانيلة (تي شيرت) زرقاء ذات خطوط صفراء، وله شارب خفيف، تعرفنا عليه باسم (أبو توام) كان يتحدث اللغة العربية بصعوبة مستخدماً اللهجة الفلسطينية، كان يعمل في القدس قبل أن يعمل في الشأن العراقي في الخارجية الأميركية، وسنعرف بأنه سيكون المسؤول عن مرافقتنا إلى الأراضي العراقية، بينما هبط من السيارة الثانية ثلاثة شبان من قوات المارينز، في ذات اليوم تناولنا طعام غداء مختلفاً عن بقية الأيام إذ قدموا لنا الرز العربي واللحم، وهي أكلة خليجية تدعى (الكبسة)، أخبرونا بأن هاتين السيارتين لنا وستكونان معنا لمساعدتنا في أداء مهماتنا الإنسانية في الأراضي العراقية، وبعد وجبة الغداء (الدسمة) تلك وزعت علينا الهواتف المرتبطة بالأقمار الصناعية (ثريا)، عند ذاك أدركت أن موعد رحيلنا إلى العراق صار قريباً جداً.
في الليل تضيع كل التفاصيل.. لم نكن نعرف حتى تلك الليلة التي سبقت مغادرتنا للقاعدة العسكرية، أية تفاصيل عن المكان الذي سنغادر إليه، قبل أن أخلد للنوم، كنت أفكر بإيجاد أجوبة عن الأسئلة حول الرحلة المقبلة، كان يجب اختيار خمسة أشخاص من بيننا ضمن الوجبة الأولى التي ستغادر إلى العراق، وكنت ضمن الوجبة التي ضمت ستة أشخاص. عند الساعة الحادية عشرة ليلاً، كنا نحن الستة على أهبة الاستعداد للمغادرة، أجبرنا على ارتداء الدروع الواقية من الرصاص، وجهزنا بالأقنعة الواقية من الأسلحة الكيماوية، إذ كان هناك اعتقاد كبير بأن صدام سوف يستخدم الأسلحة الكيماوية في فصل من فصول القتال. وضعنا حقائبنا ومعداتنا في إحدى السيارتين اللتين خصصتا لنا، ونقلتنا السيارة الأخرى إلى مطار القاعدة.
كان هدير محركات طائرتين ضخمتين عسكريتين مخصصتين للنقل تابعتين للقوات الأميركية، يمزق سكون الليل الصحراوي ويكون خلفية صوتية مناسبة للحدث، تستعدان لنقلنا إلى الأراضي العراقية، حملت إحداهما إحدى السيارتين وصناديق الطعام والمياه، وصعدنا نحن في الطائرة الثانية مع السيارة الأخرى ومجموعة كبيرة من مشاة البحرية الأميركية (المارينز). كانت هذه هي المرة الأولى التي نصعد فيها إلى طائرة من هذا النوع حيث مقاعدها مصنوعة من شبكة بلاستيكية غير مريحة. لم نكن نعرف إلى أية مدينة سنذهب، وفي أي مطار سنهبط، وكانت الطائرة من الداخل تبدو وكأنها ورشة عمل وضجيجها يصم الآذان بالرغم من أننا وضعنا في آذاننا قطعاً اسفنجية مانعة للضجيج. كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل عندما حلقت الطائرتان الخاليتان من النوافذ، وكان جنود المارينز في داخلها يتحدثون بلغة الاشارات فيما بينهم، تذكرت أنواع الطائرات المدنية المترفة التي كنت أسافر عليها بين مطارات العالم، وتلك الاشارات التي تؤديها المضيفات الحسناوات وهن يرشدن المسافرين إلى علميات السلامة برفقة التعليق الصوتي الصادر من مكبرات صوت مخفية، وهي إشارات تختلف كلية عن هذه التي تصدر عن جنود يرتدون بدلات مبالغ فيها ويحملون معدات حربية ثقيلة. فكرت فيما إذا انطلق في لحظة ما من زمن هذه الرحلة صاروخ أرض ـ جو طائش من قبل القوات العراقية وأصاب هذه الطائرة وبعثر كل أحلامنا ومشاريعنا الإنسانية الذاهبين من أجلها إلى العراق، وضحكت في سري لما كان سيقوله محمد سعيد الصحاف وزير إعلام نظام صدام بالنصر ومتباهياً أمام الصحفيين بإسقاط طائرة نقل عسكرية، وتخيلت هيئته الكوميدية وأسلوبه الفكاهي وهو يتحدث مزهواً أمام الصحافيين عن أهمية وخطورة هذه الطائرة الأميركية.
في ربوع أور
كان من الصعب علي الاسترخاء والنوم فوق المقاعد البلاستيكية، وكنت بحاجة شديدة للنوم ولو لساعة واحدة، تسللت إلى السيارة ذات المقاعد المريحة لأنال قسطاً من النوم هناك، وسرعان ما تبعني بعض أفراد المجموعة وكأنهم اتنبهوا تواً لوجود السيارة معنا، أو أنهم كانوا يعتقدون أنه غير مسموح لنا بصعود السيارة طالما الطائرة ما تزال تحلق في الجو، وسرعان ما غفوت بعمق.
صحونا عندما تحركت السيارة لتغادر الطائرة التي كانت قد هبطت تواً، وعندما قاد الجندي الأميركي السيارة إلى مدرج المطار اكتشفت الظلمة الحالكة التي تخيم على المكان مثل عباءة سوداء قاتمة.
نبدأ بأول مدن التاريخ.. أور، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية فجراً بعشر دقائق، ولم نستطع أن نتبين المكان الذي هبطنا فيه، كما أن أحداً لم يخبرنا بالموقع الجديد، كنت أتصور أننا هبطنا في قاعدة الشعيبة بالبصرة فظلام الليل الحالك لم يمنحنا فرصة رؤية أية تفاصيل للمكان، لكننا عرفنا بأننا في قاعدة الإمام علي السرية القريبة جداً من آثار أور السومرية في الناصرية، والتي صار اسمها، قاعدة (طليلة)، وكانت هذه أول أرض عراقية نصلها بعد كل تلك السنوات.
في الليل تركت العراق، وفي الليل أعود اليه. عندما غادرت الأراضي العراقية قبل أكثر من ثلاثة عشر عاماً أتذكر أنني تجاوزت الحدود العراقية بعد منتصف الليل من غير أن أتذكر الوقت بالضبط، وها أنا أعود إلى العراق عند الساعة الثانية فجراً. أعود إلى الوطن المصادر من غير أن تكون هناك أية حدود أو حاجة لجوازات سفر، أو نقاط تفتيش. عندما هبطت بنا طائرة الشحن العسكرية الأميركية التي أقلتنا من البحرين، كنا ما نزال في السيارة التي كان من المفترض أن نستخدمها في مهماتنا الإغاثية، كانت الظلمة حالكة حولنا بينما هناك مئات الآلاف من النجوم التي ترصع السماء مثل مجوهرات تطرز عباءة سوداء.. نجوم افتقدت رؤيتها لسنوات طويلة في سماوات أوربا، فيما الجنود الأميركان يستخدمون نواظير ليلية تعمل بأشعة ما فوق الحمراء تمكنهم من مشاهدة كل شيء. كان صوت الصمت العميق هو ما نسمعه، وهمسات المارينز السرية وإشاراتهم الغريبة فيما بينهم، بعد قليل بدأت أعيننا تتطبع مع ظلام الليل، وصرنا نشاهد ما حولنا كأشباح، وأول ما استدللنا عليه كان بقايا سقيفة عملاقة محطمة لم يبق منها سوى هيكل هائل بدا مخيفاً، ومعدات عسكرية محطمة ومحترقة وسط وحشة الليل الصامت.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً