عدنان الباجه جي: والدي انضم للمعارضة ولم يهتم للمناصب.. ونوري السعيد كان يحل مشاكله مع الاخرين بـ"قفشاته"

08-12-2021
معد فياض
الكلمات الدالة عدنان الباجه جي نوري السعيد فيصل الاول الامم المتحدة الفاتيكان
A+ A-
 
رووداو ديجيتال

"عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"
 
تنشر رووداو على حلقات كتاب "عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"، فهذا الدبلوماسي الذي مثل العراق في الامم المتحدة لاكثر من 50 عاما، وتبوأ منصب وزير الخارجية في الستينيات، ولد في بدايات القرن الماضي، ورحل في الربع الاول من القرن الحالي، وبهذا يكون بالفعل قد عاش بين قرنين مزدحمين بالاحداث العراقية والعربية والدولية.. كما التقى الملك فيصل الاول، مؤسس العراق الحديث، وعاصر كل رؤساء حكومات العهد الملكي ورؤساء الجمهوريات العراقية وصولا الى صدام حسين وما بعده. هذا الكتاب ليس مذكرات بالمعنى التقليدي، لم يكتبها الباجه جي بنفسه، بل هو صفحات بارزة من حياته، وتطلب انجازه المرور بمراحل عدة وعلى مدى اكثر من سبع سنوات، وعبر محطات بدأت في لندن عام 2010 وانتهت في ابو ظبي عام 2017.. انا اسأل وهو يسرد بدقة.. كنا نتناقش، ونحلل، ونبحث، ونمضي خلال ازمنة ودروب وازقة تنطلق من حي السنك في شارع الرشيد، حيث ترعرع الباجه جي، ونذهب الى مدن بعيدة، نجتاز بحار وقارات لنتتبع قصص واحداث وشخوص وتواريخ.. تحدثنا عن السياسة والمدن والازياء واسلوب حياة المجتمع العراقي خلال مائة عام تقريبا.
 
الحلقة (5)
 
الملك.. والمعارضة
 
يروي، عدنان الباجه جي، عن والده، مزاحم الباجه جي، بانه كان سريع الغضب ولا يهادن في أي قضية وطنية تهم العراق يقول "حضر ذات مرة احتفالا للملك جورج الخامس في القصر الملكي (باكنغهام بالاس) وسط لندن، وخصصوا مكانا لوالدي مع ممثلي المستعمرات، فاحتج وقال: أنا لا أقبل أن تضعوني هنا مع المستعمرات، فالعراق دولة مستقلة مع أنها تحت الانتداب، ولنا علاقات مع بريطانيا وفق معاهدات ولسنا مُستَعمرين.. فطلب منه ياسين الهاشمي عدم التصعيد مع بريطانيا"، مشيرا الى انه كان للهاشمي، وزير المالية في حكومة جعفر العسكري الثانية، تأثيرا على مزاحم الباجه جي "كونهما كانا في المجلس التأسيسي الذي وضع الدستور، وهناك نحو 20 رسالة منه إلى والدي، الذي كان في جبهة المعارضة التي يتزعمها الأول (الهاشمي)، وبعد أن تم إنجاز الدستور وتم توقيع المعاهدة مع بريطانيا، وضع الملك فيصل الأول المعارضين في الحكومة، وكان هذا أحد أساليبه في تقريب المعارضة منه، وأجبرهم على تنفيذ المعاهدة البريطانية التي وقعها عبد الرحمن النقيب سنة 1922، والتي كانت المعارضة ضدها، وصادق عليها المجلس التأسيسي، وعلى الدستور الذي كان اسمه القانون الأساسي، وفيما بعد تمت المصادقة على اتفاقية النفط".

 

 
العراق قبل المناصب والقوميات والاديان
 
لم يشغل الساسة العراقيين الأوائل موضوع المناصب بقدر اهتمامهم ببناء العراق واستقلاله، فرئيس الوزارة يكون في الغد وزيرا في حكومة يترأسها أحد وزرائه السابقين، وهذه المعادلة تكررت في مرات عدة خاصة مع السياسي العراقي نوري باشا (السعيد)، "ففي سنة 1924 ألف الهاشمي الوزارة ودخل والدي فيها كوزير للمواصلات والأشغال، وبقي 11 شهرا، وكان من أعضاء الوزارة ساسون حسقيل (يهودي) وزيرا للمالية، ورشيد عالي الكيلاني وزيرا للعدلية، ورضا الشبيبي وزيرا للمعارف، وعبد المحسن السعدون وزيرا للداخلية، ولم يستمر والدي في الحكومة إذ صار من أقطاب المعارضة في الحزب الوطني برئاسة جعفر أبو التمن".
 
وفي تفحص سريع للأسماء الواردة سنعرف أن هذه الوزارة، كما بقية الوزارات العراقية في العهد الملكي، كانت تضم عراقيين من مختلف الأديان والمذاهب، ففيهم العربي والكوردي والسني والشيعي والمسيحي واليهودي.
 
ساهم قصر التماثيل، منزل مزاحم الباجه جي، ببناء شخصية عدنان سياسيا وثقافيا واجتماعيا، اذ كان مسرحا للأحداث السياسية ومقرا للقاءات السياسيين ومنبرا للسجالات "كنت صغيرا، يقول عدنان، لكنني كنت أشعر بهذا الحراك السياسي الذي كانت تجري أحداثه في بيتنا الذي كان يجمع كبار الساسة أمثال ياسين الهاشمي ونوري السعيد وعلي جودت وجميل المدفعي وجعفر العسكري، وغيرهم. ولم يضع أي سياسي عراقي وقتذاك في حساباتهم هذا شيعي وذاك سني أو عربي وكوردي أو مسلم وغير مسلم، فالأحزاب العراقية كانت مختلطة، أبو التمن (شيعي) رئيس الحزب الوطني، وأعضاؤه مزاحم الباجه جي، ومحمود رامز (سنة)، ومحمد مهدي كبة (شيعي) رئيس حزب الاستقلال، ومعه فائق السامرائي وصديق شنشل (سنة)، وأعضاء الحزب الشيوعي، ومن ثم حزب البعث لاحقا، كانوا خليطا من السنة والشيعة والعرب والكورد والتركمان والمسيحيين، وهذا كان وضع جميع الأحزاب السياسية في العراق (ماكو شي اسمه سني وشيعي)، كان من يفكر بهذه الطريقة هم المعممون (الملالي) لأنهم يعرفون أن نفوذهم قائم على أساس الطائفية".
 
"قفشات" نوري السعيد
 
نحن وسط خطوط تتشابك وقد تتعقد، أحداث وأسماء وصور وتواريخ، يجب أن يكون كل حدث في مكانه الصحيح، وأن تتصل الخطوط من غير أن تتقاطع، وبما عرف عنه من عقلية منظمة، يرتب عدنان الباجه جي الأحداث حسب تواريخها، ويحرص على أن تكون في موقعها المناسب والصحيح، يصمت قليلا، ينظم ملفات الذاكرة المتّقدة، ترتسم، من دون أن يدري حتى، على وجهه سحابة شفافة من أسى، ويستطرد "كان هدف وعمل السياسيين العراقيين هو الوطن والناس، وكانوا مثقفين ومنفتحين وما عندهم هذه القسوة التي نشهدها اليوم، يختلفون سياسيا أو فكريا لكنهم يبقون أصدقاء وأصحابا، ولا قاتل ولا مقتول ولا سجن ولا خطف.. بل إن السياسيين حتى وإن كانوا مختلفين إلا أنهم يتزاورون ويتبادلون الأحاديث الاجتماعية كأحبة، وغالبا ما يأتون الى بيتنا مع عوائلهم، زوجاتهم، وأبنائهم لتوطيد اللحمة الاجتماعية فيما بينهم".

 

 
وهذه اللقاءات السياسية لم تكن تخلو من روح إنسانية شفافة، ومن المزاح والنكتة، يتذكر: "كنا، أنا وأبناء جعفر العسكري، نزار وقيس وزياد، متقاربين عمريا، ونلعب معا سواء في بيتنا أو في بيتهم، وكان نوري السعيد يزورنا دائما، أتذكر ذات صيف، كان عمري 10 سنوات، عندما زارنا، كنا نناديه عمو ابو صباح، أو عمو نوري، وجمعنا ذات مرة واستأجر زورقا من زوارق نهر دجلة، المعروفة حتى يومنا هذا، أخذنا فيه إلى جزيرة صغيرة كانت تظهر امام بيتنا وسط نهر دجلة خلال الصيف، كان الوقت ليلا، وضوء القمر ينير النهر، فسبحنا بالنهر، ثم جاءوا بالسمك المسكوف لنتعشى، بينما كان السعيد يشرب العرق لوحده وهو يراقبنا فرحا، وعمل هذه النزهة لغرض الترفيه عن الأولاد، ثم دعانا لنقف في صف واحد مثلما العسكر وأشار إلى مسناة تقع في الضفة المقابلة وكنا قريبين منها (مسناة بيت الشابندر)، والمسناة هي (مرفأ نهري للزوارق كان يقيمه البغداديون أمام بيوتهم أو في مناطقهم السكنية التي تقع على ضفة النهر)، وقال: الآن رددوا بصوت عال ما أقوله لكم.. وفعلنا، حيث كان يسخر من  محمود جلبي الشابندر، وبدأنا نردد ما يقوله السعيد: محمود جلبي الشابندر، انت ما تستحي، انت حرامي.. وكنا نطلق أصواتنا بكل قوتها ونردد ما يقوله بحماس كبير وسط قهقهات نوري باشا، إذ كان يضحك ملء روحه بينما كان الشابندر يجلس في المسناة ويسمع كل شيء من غير أن يرد. هذا كان جزءا من التناحر أو الاختلاف بين السياسيين، مع أن الشابندر لم يكن سياسيا، بل كان تاجرا لكنه كان متهما بتهريب الذهب، وقد أراد السعيد أن يوصل له رسالة عدم رضا، وفي الوقت ذاته أن يمزح معه، ونقل لنا والدي أن الشابندر عندما التقى السعيد بعد هذه الحادثة عاتبه بود وقال له: هاي شنو باشا ليش هيجي تسوي بيه، صرت بلسان الزعاطيط (الاطفال)؟!.. وهما يضحكان. هكذا كانت العلاقات والخلافات".
 
ملابس داخلية حرير
 
لم تكن الخلافات بين الحكومة والمعارضة تقود إلى الإقصاءات أو تشويه السمعة، بل عبر رسائل ساخرة وغير جارحة، "ففي قصة رويت على مسامعنا عن نوري السعيد الذي كان رئيسا للوزراء والمعارض محمود رامز المعروف بجديته ورصانته، وذات مرة كان السعيد عائدا من سفرة من خارج العراق فالتقى برامز وقال له أمام الآخرين: محمود لقد جلبت لك هدية (صوغة).. فسأله رامز باهتمام عن الهدية: شنو هيه؟ (ما هي).. فأجابه السعيد: اشتريت لك ملابس داخلية حرير حمراء اللون.. فاحتج رامز قائلا: هاي شنو باشا. وفي حادثة مشهورة هي الأخرى، جاء موظف كبير بالحكومة ومسؤول عن البلدية إلى جعفر العسكري وكان رئيسا للوزراء، وقال له: باشا أنا مسافر إلى لندن، ما هي الأماكن التي تقترح أن أزورها هناك، متاحف أو مكتبات؟، باعتبار أن العسكري كان قد عاش في لندن.. فأجابه رئيس الوزراء: من الأفضل أن تقوم بزيارة الحمامات (التواليتات او المرافق الصحية)، خاصة (التواليتات) العامة في الشوارع هناك لترى كم هي نظيفة. وهذه المزحة كانت تنطوي على نقد وتوجيه أكثر منها مزحة. كانت هناك علاقات اجتماعية، والسياسيون كانوا يتمتعون بروح إنسانية وروح نكتة وسخرية".

 

 
التجربة المدهشة
 
تزامن إنهاء عدنان الباجه جي لدراسته الابتدائية عام 1934 مع "عرض الحكومة على والدي مزاحم الباجه جي منصب الممثل عن العراق في عصبة الأمم في جنيف، والوزير المفوض في روما. لم يكن هناك سفراء للعراق، فالوزير المفوض هو الذي كان مسؤولا عن البعثة الدبلوماسية للبلد، ووافق والدي، لكنه لم يأخذني معه لأنه أراد أن أبقى وأتعلم في دولة عربية، لهذا ذهبت إلى كلية فيكتوريا، وهي مدرسة إنكليزية داخلية في مدينة الإسكندرية المصرية". يقول: "كان عمري 11 سنة، وسافرت مع والدتي من بغداد إلى دمشق ومن ثم إلى بيروت بواسطة السيارة".
 
في بيروت تشكلت الدهشة الأولى في عيون وروح الصبي القادم من مدينة قديمة هي بغداد، مدينة بلا أبنية عالية، بلا ألوان بهيجة، وتخلو من زحمة الحياة وتدفقها اليومي، بل إن الدهشة الأكبر شكلها البحر، وبكثير من العناية والاهتمام يصف عدنان هذه اللقطة وكأنه يرسمها بريشة فنان، ويرفقها بموسيقى صوتية ساحرة، يقول "شاهدت البحر واندهشت منه وأحببته، حيث لم أكن قد شاهدت في بغداد سوى نهر دجلة"، وسوف تستمر علاقته مع البحر وتتوطد أكثر عندما يكون في أحضانه وليس مجرد مشاهد له من الضفاف البرية، سوف يتنفس رائحته عن قرب، ويتبلل وجهه برذاذه، ويسمع صوت أمواجه "من بيروت استقللنا الباخرة إلى مدينة الإسكندرية في مصر في رحلة بحرية استغرقت يومين".
 
وعلى الرغم من متاعب والدته ومشاقها في المشي، فإنها لم تتحمل فكرة سفر ابنها الوحيد وهو في الحادية عشرة من عمره إلى خارج بغداد، بل إلى عالم بعيد جدا عن محلة الباجه جي وشارع النهر، إلى الإسكندرية، قاطعا ما يقرب من ألفي ميل من البراري من بغداد إلى دمشق، ثم إلى بيروت، وثمة مئات الأميال البحرية وصولا إلى ميناء الإسكندرية، يقول: "رافقتني والدتي إلى الإسكندرية حيث عاشت هناك لسنة واحدة وبعدها عادت إلى بغداد وأنا بقيت في المدرسة الداخلية".
 
أدار عدنان وهو في الثانية عشرة من عمره، حياته وحده في مدرسة داخلية إنكليزية بكل هدوء، مستفيدا من كل الفرص التي أتاحتها المدرسة من جهة والحياة في المدينة المصرية الساحلية "كانت الدراسة ممتازة" يوضح، فهي "مثل مدارس هاروو في لندن وتعتمد مناهجها، وقد استفدت كثيرا منها والدراسة كانت باللغة الإنكليزية، وخارج المدرسة كنا نذهب إلى البحر في الإسكندرية ونسبح في الصيف".
 
في رحاب الفاتيكان
 
كان العمل الدبلوماسي للدولة العراقية الفتية يوزع مزاحم الباجه جي بين مقر عصبة الأمم في جنيف وموقع عمله كرئيس للبعثة الدبلوماسية لبلده في روما، لكن قلبه كان عند نجله الوحيد عدنان، لهذا "وفي أول عطلة صيفية طلب والدي من عمي أن يصطحبني إلى روما حيث كان والدي يعمل، ووالدتي بقيت ببغداد لأنها كانت مريضة ومقعدة، كما أنها امرأة بغدادية لا تحب مغادرة مدينتها ولم تكن على قدر واسع من الثقافة والاطلاع".
 
ومع أن هذه السفرة سياحية وترفيهية، إلا أن مزاحم الباجه جي الحريص على تنشئة ولده وفق قيم معرفية وأخلاقية راقية، جعل من زيارة عدنان إلى العاصمة الإيطالية مناسبة للتعلم والثقافة والاطلاع، ويشاء حظه السعيد أن يهيئ له شخصية عراقية مثقفة لتتولى مهمة الدليل الثقافي والمعلم له، يقول: "في روما أرادني والدي أن أتعلم وأطلع على الثقافة الإيطالية، وكان هناك قس عراقي اسمه بولص هندو، من عائلة عراقية معروفة (بيت هندو)، فطلب منه والدي أن يأخذني لأرى روما، فكان القس هندو يأخذني إلى المواقع الأثرية ويشرح لي قصص المواقع وأسماءها وأحداثها، ثم أخذني لزيارة الكنائس، بدءا بكاتدرائية القديس بطرس الكبيرة وعموم الفاتيكان وأعمال مايكل أنجلو والتماثيل. كان هذا القس رجلا مثقفا ومطلعا ودمث الأخلاق، وكان يلقي علي المحاضرات القيمة في التاريخ والفن والعمارة كقصص مشوقة، وزرنا المغارات التي كان يختبئ بها المسيحيون عندما كانوا مضطهدين، ويسمونها (كتاكوم)، يعني اطلعت على روما بطريقة لم تتح لأي سائح آخر.. شاهدت كل روما، الكنائس والقصور، وأنا أحب التاريخ، لهذا استمتعت بهذه الزيارة خاصة أن معلومات هندو كانت مفيدة كونه شخصا متمكنا".

 

 
ويمضي في هذه الرحلة مع والده إلى أقصى مدياتها الجغرافية والمعرفية والسياحية "في تلك العطلة الصيفية زرنا ألمانيا وسويسرا، كون والدي كان مندوبا في عصبة الأمم في جنيف، وزرنا باريس، ولندن".
 
وكمن ينتبه إلى اكتشاف تفصيل ربما، أو خيل إليه أنه فاته شيء في السابق، ينبهنا إلى معلومة يجدها جديرة بالتنويه: "أنا في طفولتي وشبابي تمتعت بأمور كانت الأغلبية الساحقة من العراقيين محرومة منها، ولم يطلعوا على ما شاهدته أنا وعشته، فعندما كان عمري 12 سنة زرت كل أوروبا تقريبا، ووقتذاك كان هذا الأمر مستحيلا تحقيقه من قبل الآخرين، وعنى الكثير بالنسبة لي، خاصة أن السفر والتنقل لم يكن متاحا مثل اليوم".
 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب