عدنان الباجه جي: بغداد كانت مغلقة وانفتحت على عصر السيارات الفارهة وصالات السينما والمدارس الخاصة

07-12-2021
معد فياض
معد فياض
الكلمات الدالة عدنان الباجه جي معد فياض
A+ A-

رووداو ديجيتال

"عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"  

تنشر رووداو على حلقات كتاب "عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"، فهذا الدبلوماسي الذي مثل العراق في الامم المتحدة لاكثر من 50 عاما، وتبوأ منصب وزير الخارجية في الستينيات، ولد في بدايات القرن الماضي، ورحل في الربع الاول من القرن الحالي، وبهذا يكون بالفعل قد عاش بين قرنين مزدحمين بالاحداث العراقية والعربية والدولية.. كما التقى الملك فيصل الاول، مؤسس العراق الحديث، وعاصر كل رؤساء حكومات العهد الملكي ورؤساء الجمهوريات العراقية وصولا الى صدام حسين وما بعده. هذا الكتاب ليس مذكرات بالمعنى التقليدي، لم يكتبها الباجه جي بنفسه، بل هو صفحات بارزة من حياته، وتطلب انجازه المرور بمراحل عدة وعلى مدى اكثر من سبع سنوات، وعبر محطات بدأت في لندن عام 2010 وانتهت في ابو ظبي عام 2017.. انا اسأل وهو يسرد بدقة.. كنا نتناقش، ونحلل، ونبحث، ونمضي خلال ازمنة ودروب وازقة تنطلق من حي السنك في شارع الرشيد، حيث ترعرع الباجه جي، ونذهب الى مدن بعيدة، نجتاز بحار وقارات لنتتبع قصص واحداث وشخوص وتواريخ.. تحدثنا عن السياسة والمدن والازياء واسلوب حياة المجتمع العراقي خلال مائة عام تقريبا.
 
الحلقة (4)
بغداد.. المدينة المغلقة

حدث هذا قبل أن تتغير بغداد بسنوات كثيرة، ولو أتيح لمصور فوتوغرافي التقاط صورة من الجو لعاصمة العراق في السنوات العشر الأولى من القرن الماضي لاكتشفنا أنها كانت عبارة عن محلات سكنية مغلقة بعضها على بعض، تتلاصق بقوة، وتنغلق على داخلها بحميمية لأسباب أمنية بالدرجة الأولى، حتى إن الاتصال بين محلة وأخرى كان محدودا، إذ "عاش سكان كل محلة في شبه عزلة، وكان ولاؤهم الأول لمحلتهم، فكانوا يتعاونون ويشدون أزر بعضهم، ويقفون صفا واحدا ضد اعتداءات وتجاوزات المحلات الأخرى".
وينقل عدنان الباجه جي للحديث عن والده بأنه "كان يشارك فتيان المحلة في (الكسار) أي العراك مع فتيان المحلات الأخرى"، والمحلة التي تنتمي إليها أسرة الباجه جي هي محلة العمار سبع ابكار، وكانت تجاورهم في المحلة عشيرة الجنابيين وآل كبة.

يتحدث الباجه جي عن سنوات طفولته الأولى، وتدشين حياته الدراسية في مدرسة أميركية خاصة دخلها وهو في الخامسة من عمره، مسهبا في الحديث عن صالات العرض السينمائي التي شُغف بها البغداديون.

كان ببغداد شارع واحد مُعبد، يعود تاريخه الى العصر العباسي، يحاذي نهر دجلة في جهة الرصافة، ومن النهر استمد اسمه (شارع النهر) الذي يمتد من جسر مود (الجنرال البريطاني مود الذي احتل بغداد، وحمل الجسر اسم جسر الأحرار بعد ثورة 14 يوليو (تموز) 1958، مارا بالمدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة العباسي المستنصر بالله قبل أكثر من على ألف عام، قاطعا سوق الخفافين ومسجدها (مسجد الخفافين)، وهو من المساجد التي بنيت في العهد العباسي "وأعاد بناءه الحاج بكر بن عمر الباجه جي"، متواصلا مع سوق السراي، وماضيا حتى السراي الحكومي العثماني في القشلة وشارع المتنبي.

قصر التمائيل
يعود عدنان إلى البيت الذي ولد وترعرع فيه، كان "في محلة الباجه جي قرب جسر مود في شارع النهر، وهو أول شارع كان ببغداد، ويؤدي إلى سوق السراي قبل أن يتم فتح شارع الرشيد، حيث كانت هناك بيوت الكيلانية (عائلة عبد الرحمن الكيلاني، نقيب أشراف بغداد)، وبيت النقيب، وبيوت بعض العوائل اليهودية الغنية، وهناك أيضا محلات الصاغة الصابئة (المندائيين)، صاغة الفضة والذهب، وكان قصر جدي، والد أمي، هناك ويسمى قصر التماثيل، تحول إلى فندق (جبهة النهر) فيما بعد وتهدم".

 في هذا المثلث السكني الضيق الذي يحتل جزءا من شارع النهر وشارع الرشيد فيما بعد والسنك، قامت مجموعة من بيوتات العوائل البغدادية الراقية.
أما شارع الرشيد الذي تم فتتاحه قبل عام 1910، أي قبل ولادة عدنان بـ13 عاما، والذي سيكون فيما بعد مسرح جولاته في سنوات فتوته وشبابه الأولى (شارع الرشيد من أقدم وأشهر شوارع بغداد، كان يعرف خلال الحكم العثماني باسم شارع خليل باشا جاده سي، على اسم خليل باشا حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني الذي قام بتوسيع وتعديل الطريق العام الممتد من الباب الشرقي إلى باب المعظم وجعله شارعا باسمه عام 1910).

ربما تكون الصورة الوحيدة المحفوظة في أكثر من أرشيف لشارع الرشيد والتي يعود تاريخها إلى عام 1919، هي أصدق ما يعبر عن حياة هذا الشارع وقتذاك.

تظهر في الصورة بضع عربات تجرها الخيول في جادة تقوم على جوانبها بعض المقاهي والدكاكين، لكن هذه الصورة لم تُظهر أول مدرسة تعلم بها عدنان الباجه جي، فهو الولد الوحيد لعائلته، كان يحيا بعز ودلال، لهذا لم يذهب للدراسة على يد الملا (الكتاتيب) مثل ما درج عليه أبناء جيله، أو والده الذي درس "على يد الملا علي أفندي، وختم القرآن، وكان متدينا إلى حد التعصب، فلم يكتف بأداء الصلاة في أوقاتها بل كان يؤذن في مسجد الباجه جي، ويؤم المصلين، ويحث المتقاعسين من أقربائه وأصدقائه على تأدية فرائض دينهم".

مدرسة اميركية خاصة
لقد سعى مزاحم الباجه جي إلى أن يتعلم ولده بأرقى المدارس في وقت كانت فيه المدارس شحيحة على أبناء الطبقات الفقيرة، وأحيانا حتى المتوسطة.. يقول عدنان "كان عمري 5 سنوات عندما دخلت مدرسة أميركية خاصة ببغداد، كانت تقع في منطقة السنك بشارع الرشيد، كانت المدرسة للبنين فقط، وكان معنا تلاميذ مسيحيون ويهود والكثير من أبناء العوائل البغدادية المعروفة، مثل محمود بابان الذي صار وزيرا فيما بعد في العهد الملكي، وطلال ناجي شوكت. كانوا يدرسوننا اللغة الإنجليزية إلى جانب العربية، وكان عندنا أساتذة أكفاء في العربية والتاريخ وقسم منهم لبنانيون، وتخرجت في المدرسة الابتدائية وعمري 11 سنة، وكنت متفوقا في مادتي التاريخ والجغرافيا وضعيفا في الرياضيات، ثم تحسن مستواي في هذه المادة".

وبينما كان الابن يحقق نتائج طيبة ومتفوقة في دراسته، متخطيا أولى مراحلها، كان الأب ينشغل بالسياسة " فخلال هذه السنوات كان والدي منهمكا في العمل السياسي، وفي سنة 1927 عين مندوبا للعراق في لندن، إذ لم يكن وقتذاك لدينا سفراء لأن العراق كان تحت الانتداب البريطاني، وكان توصيف وظيفة والدي هو (DOPLMATIC EGENT) أي الوكيل الدبلوماسي للعراق في لندن، وكان وحده في العاصمة البريطانية وبقيت أنا مع والدتي ببغداد".

سنترال سينما
وقت ذاك دشن عصر دور العرض السينمائي أزدهاره في بغداد، إذ افتتحت عدة صالات سينمائية في شارع الرشيد، مثل "رويال سينما" و"سنترال سينما" و"روكسي" و"ريكس" و"علاء الدين" و"الزوراء" ومن ثم "الحمراء" و"البيضاء" و"الخيام" و"غرناطة"، وهذه كلها كانت في جانب الرصافة وسينما"بغداد" في جانب الكرخ. وكان الفتيان من جيل عدنان ينبهرون برجل بغدادي يتجول في شارع الرشيد وينادي بصوته الجهوري "أحسن رواية بالبلد.. سنترال سينما" وهو يحمل ملصق الفيلم الجديد كنوع من الدعاية المتوافرة وقتذاك.

لم تكن هذه الصالات حكرا على الأغنياء أو أبناء العوائل المترفة، بل إن البغداديين وبكل فئاتهم ارتبطوا بهذا السحر الجديد وفتنوا به. كانت هناك صالات سينمائية مغلقة (شتوية)، وأخرى صيفية مكشوفة وبلا سقوف تفتتح مساء كنوع من مواجهة صيف بغداد الساخن، وبينما يكون النسيم البارد القادم من نهر دجلة قد منح الصالة المفتوحة متنفسا حياتيا، تكون العوائل البغدادية قد أخذت أماكنها في المقصورات المحجوزة لها مسبقا، بل إن غالبية من هذه العوائل كانت تشتري هذه المقصورات وتبقى محجوزة لها، والأوقات المفضلة للمشاهدة من قبل العوائل هي ما بعد العاشرة ليلا "الدنيا كانت آمنة" حسبما يؤكد عدنان الباجه جي الذي عاش طفولة اعتيادية في حي بغدادي عريق لم تغب مشاهده عن ذاكرته الصورية، يقول "كنا نلعب، أنا وأقراني من أبناء الجيران كل ما كان معروفا من ألعاب الطفولة وقتذاك، ومنها لعبة (الختيلة) وغيرها".

لكن سحر السينما كان قد سيطر على فتيان جيله "كنا نذهب إلى السينما مع السائق أو مع أحد العاملين في البيت، وغالبا ما كنا نشاهد الأفلام في (رويال سينما) و(سنترال سينما)، كنا نصل إلى صالة السينما بواسطة السيارة، فأنا وعيت الدنيا في عصر السيارات، لكن الناس كانت لا تزال تستخدم العربات التي تجرها الخيول للتنقل".


سيارات مبكرة
لا يدع عدنان الباجه جي أي لقطة في مشاهد ذاكرته تفلت منه، يتمعن اللقطات بدقة، لا يهمل أي لون أو صوت أو حركة "أتذكر أن رقم سيارة والدي عندما كان وزيرا للداخلية كان (7 بغداد)، وكان نوعها (أولدز موبيل) كشف، (تنتة)، ذات سقف متحرك، ولونها أزرق، واشتراها والدي من الوكيل حيث لم يكن استخدام السيارات شائعا في العراق آنذاك، أما السيارة الثانية فكانت (بيوك) وبعد ثورة 14 يوليو(تموز) 1958 كان رقم سيارتنا (242 بغداد) من دون أن أعرف أين ذهب الرقم الأول".

في صيف 1930 يقرر مزاحم الباجه جي القيام بسفرة عائلية بواسطة سيارته الأولى إلى الشام (دمشق)، ولا يزال عدنان يحتفظ بتفاصيل هذه الرحلة المثيرة بالنسبة له، ذلك أنها "كانت أول سفرة لي إلى خارج العراق، وقد عانينا من الساعات الطويلة للرحلة ومن التراب الذي كان يتسلل إلينا حيث لم تكن نوافذ السيارة مصنوعة من الزجاج وإنما من البلاستيك الشفاف (باغة)، بينما سقفها من الجلد، وكانت محملة بحقائبنا وسلال الطعام (متاع) فلم تكن هناك مطاعم على طول الطريق، وقد وصلنا أولا إلى بلدة الرطبة الحدودية التي كانت عبارة عن مركز شرطة فقط،  واسترحنا قليلا هناك".

 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب