معد فياض
في شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2013، أتيحت لي الفرصة للقاء زعيم التيار الصدري، السيد مقتدى الصدر، لإجراء حوار صحفي مطول معه. قبل ذلك دخلنا في نقاشات مع مكتب العلاقات الخارجية للتيار الصدري، في لندن ولأكثر من عام، حتى تمت الموافقة، حيث كنت في أربيل عندما اتصل بي مكتب السيد واتفقنا على الموعد، في اليوم التالي.
كان من الصعب الحصول على مقعد لرحلة الذهاب إلى النجف والعودة إلى أربيل خلال أقل من 24 ساعة، لولا تدخل ودعم مكتب رئيس حكومة اقليم كوردستان، وقتذاك، السيد نيجيرفان بارزاني إذ وضع اسمي على لائحة الانتظار قبل أن يتم تأكيد الرحلة من مطار أربيل إلى مطار النجف وبالعكس، وبذات اليوم.
حاول العديد من الأصدقاء، وبعض من لا يؤيد التيار الصدري، تحذيري، وإبداء النصح بإلغاء هذه الرحلة والمقابلة، بالرغم من أني كنت على يقين بأن الغاية هي مهمة صحفية ولا تتعدى ذلك، والحقيقة أنا كنت متحمساً للتعرف على الرجل وعلى افكاره بعد أن سمعت هذه التحذيرات التي حفزتني أكثر للقيام بالرحلة.
لا أخاف من الصدر
التحذيرات التي أراد البعض، من المقيمين في الخارج، لم تكن لها علاقة بالواقع ولا بعادات وتقاليد العراقيين الاصلاء، كانت تحذيرات مبالغ بها حتى اني أستهزأت بها، لأنني كنت أعرف أن ضيف السيد مقتدى الصدر سوف ينال الكثير من العناية والرعاية والاهتمام، وهذا ما شعرت به حال وصولي إلى حي الحنانة، وهو من الاحياء النجفية الاصيلة، وما يزال محافظا على طابعه المعماري التقليدي، حيث يقع بيت و(براني) السيد محمد محمد صادق الصدر، والذي اتخذه نجله مقتدى مكتباً ومسكناً له بعد تعرض والده وشقيقيه مؤمل ومصطفى للاغتيال قبل 23 سنة بالضبط، يوم الجمعة 19 فبراير (شباط) 1999.
كان السؤال الذي يوجه لي من هؤلاء، البعض، "أنت ما تخاف من اللقاء مع مقتدى الصدر"، وكنت أستغرب هذ السؤال، ولماذا أخاف منه، وكنت ذاهباً إليه بلا أية ضمانات سوى موافقته على إجراء الحوار الصحفي، وكلمته كانت كافية لشعوري بالأمان، وهذه بالنسبة لي، وبالنسبة للكثير من الصحفيين سبق مهني مهم، خاصة وأن الرجل يقود تياراً يتبعه أكثر من ثلاثة ملايين من العراقيين، ويشكل ظاهرة جديدة في السياسة العراقية.
رحلة إلى الحنانة
هبطت طائرة الخطوط الجوية العراقية مساء يوم العاشر من تشرين الأول في مطار النجف، في رحلة مباشرة من مطار أربيل، كان الجو طيباً وهادئاً، ووجدت مجموعة طيبة من العاملين بمكتب السيد مقتدى، وصديق صحفي (حيدر) في انتظاري، بينهم مدير مكتبه وقتذاك، حيث استقبلوني بحفاوة، ومرت عملية عبور مكتب الجوازات بسلاسة، ووصلنا إلى الفندق الذي تم اختياره بعناية من الناحية الأمنية، وشعرت بأمان واطمئنان كبيرين عندما تجولنا، أنا و صديقي لوحدنا ليلاً في شوارع النجف وشربنا الشاي في أحد مقاهيها الشعبية، فهذه المدينة التي تضم مرقد الإمام علي (عليه السلام) لها سحرها الخاص بالنسبة لي منذ طفولتي حيث كنت ازورها مع عائلتي.
متواضع ومتقشف
كان موعد اللقاء قد حدد بعد الساعة العاشرة صباح يوم 11 (أكتوبر) تشرين الأول 2013، وقبيل الوصول إلى منزل السيد مقتدى الصدر، في حي "الحنانة"، وهو من الأحياء النجفية العريقة، مررنا بجانب شاهد عبارة عن منارة صغيرة بنيت من المرمر الأبيض تتصدره صورة آية الله محمد محمد صادق الصدر، ونجليه مؤمل ومصطفى. هنا في هذا المكان بالذات تم اغتيال السيد الصدر ونجليه في 14 فبراير (شباط) 1999، أي قبل 23 سنة من اليوم بالضبط.
قال لي مرافقي، وهو شاهد عيان، واصفاً الحدث: "كانت سيارة القتلة، من نوع (أولدزموبيل)، تتربص بهم هناك عند زاوية الشارع، وما إن استدارت سيارة السادة، وكانت سيارة متواضعة وصغيرة نوع (ميتسوبيشي) في طريقهم إلى بيتهم حتى انهال عليهم الرصاص من كل جانب، فجنحت السيارة واصطدمت بشجرة سدر كانت في المكان، وفر المجرمون". وأشار إلى أن "قصي صدام حسين كان مسؤول جهاز الأمن الخاص، وهو من خطط وأشرف على تنفيذ الجريمة"، حسب قوله.
اجتزنا بوابة يقف عندها اثنان من الحراس، علما بأن الحراسة ليست مشددة، بل بسيطة قياسا بحراسات شخصيات سياسية أو حكومية أقل وزناً. استقبلنا مساعده الذي يرتدي الزي الإسلامي والعمامة السوداء ليقودنا مباشرة إلى بيت السيد مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، الذي استقبلني بحفاوة وبالأحضان، مع ابتسامة عريضة ومفردات ترحيب خففت الكثير من التوقعات المسبقة لأول لقاء بيني وبين الزعيم الشيعي الذي صار شاغل الشارع العراقي.
أثاث صالة استقبال الضيوف تدل على بساطة البيت وتواضع ساكنيه، تتصدر الصالة صورتا عمه آية الله محمد باقر الصدر، المفكر الإسلامي والأب الروحي لحزب الدعوة، الذي جرى إعدامه في مساء يوم 9 أبريل (نيسان) 1980 مع شقيقته بنت الهدى بأمر من صدام حسين، وصورة والده الراحل آية الله محمد محمد صادق الصدر.
آراء واقعية
ما يميز الحديث مع زعيم التيار الصدري هو بساطته وجديته وجرأته في آن واحد، فهو يقول ما يؤمن به مباشرة وبمنتهى الصراحة والشفافية، وتقشفه في الإجابة والشكليات الروتينية، وانا ليس من التيار الصدري ولا مهتماً بتجميل الواقع بقدر ما أريد ان أحافظ على مصداقية اللقاء وأجوائه، فالسيد لم تغب عن حديثه روح النكتة، وهذا جانب إنساني مهم في شخصيته، وجدية الافكار، في آن واحد، عند حديثه حتى إنه يشعر المتحاور معه بالراحة والقرب منه وكأنه يعرفه من زمن بعيد.
ويعد مقتدى الصدر نجل المرجع العراقي العربي الوحيد بين مراجع خلفياتهم إيرانية وباكستانية وأفغانية، كما انه لا يعيش في برج عاجي بعيداً عن الناس، ولم يعرف عنه امتلاكه عقارات في لندن أو نيويورك أو الامارات، بل يحيا ويتحرك بين أهله واتباعه وفي أسواقهم، ويستقبلهم ويتحدث معهم بلهجة عراقية، نجفية خالصة خالية من أية مفردات فارسية أو أفغانية، كما بقية أبناء المراجع، ولا يمرر افكاره المبطنة من خلال مراكز بحوث أو دراسات، داخل العراق أو خارجه، كما يفعل البعض من أمثاله، بل يعلن ما يفكر به بصراحة وبصوت عال أمام الرأي العام.
علاقاتي متميزة مع الرئيس بارزاني
الحوار الذي كنت قد أجريته في 11 تشرين الثاني عام 2013، مع السيد مقتدى الصدر اتسم بالصراحة والشفافية، واليوم إذ أعود إلى نص هذا الحوار أجد أن المبادئ الوطنية التي يؤمن بها الصدر لم تتغير، بل ان جل أفكاره ثابتة مثلما هي، وصقلتها وعمقتها الخبرات السياسية والفكرية التي اكتسبها نتيجة تجاربه وتعامله مع بقية القيادات السياسية، ومع جماهيره، ففي ذلك الحوار وصف رئيس إقليم كوردستان، مسعود بارزاني بانه" صديق مقرب وتربطنا علاقة متميزة"، وقال عن نيجيرفان بارزاني، كان رئيساً لحكومة الإقليم وقتذاك، عنه: "نيجيرفان بارزاني، رئيس حكومة إقليم كوردستان، صديقي وهناك اتصالات مستمرة بيننا، وهو يحاول أن يصلح ويبني ويعمر ويبدع بكل جهده. هناك في أربيل عمل متواصل وعلاقات طيبة بين الشعب والحكومة، إذ إنهم يحاولون تقديم إنجازات كبيرة، لكن هنا، في باقي مناطق العراق، لا يوجد هذا الشيء"، مستطردا". وما تزال علاقة الصدر ببارزاني عميقة ومبنية على أسس من الثقة والصراحة، لهذا اختاره الرئيس مسعود بارزاني لينقل للصدر مبادرته السياسية الوطنية قبل أيام.
وبالمقابل ينظر الحزب الديمقراطي الكوردستاني وجماهيره، إلى الصدر كصديق موثوق به ومناصر لقضاياهم، حيث كان قد استقبله في أربيل الرئيس مسعود بارزاني لأكثر من مرة.
الكرسي هدف الحكومة
وعن أسباب وصول العراق إلى هذه الاوضاع من الخراب، قال: "برأيي سبب ذلك هو عدم وجود شخصية أبوية حاكمة.. لو كان هناك حاكم أب راعٍ لكل أطياف المجتمع لما آل الوضع إلى ما هو عليه"، موجهاً لومه إلى رئيس الحكومة وقتذاك، نوري المالكي، وعندما واجهته بسؤالي "أنتم من أوصلتم من يحكم العراق اليوم، ولنسمِّه نوري المالكي، رئيس وزراء العراق، إلى الحكم للمرة الثانية، واليوم تتحدثون ضده؟"، أجاب "نعم، هذا صحيح.. فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه"، مستطرداً بقوله: "حاولت أن يتم تكليف غيره لرئاسة الحكومة". وقال عن حكومة المالكي الثانية: "ليس هناك أي أداء.. الأداء الوحيد للحكومة هو الحفاظ على الكرسي فقط، وقد نجحوا فيه ولله الحمد.. الكرسي هدفهم.. الحفاظ على الكرسي صار هدفاً". وما يزال هذا رأيه عن زعيم دولة القانون، نوري المالكي، وهو رافض إشراكه في الحكومة القادمة.
لماذا يخشون قرارات الصدر
زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، واضح بأفكاره، ومصر على مبادئه، وهذا ما يسبب الخشية لبقية زعماء الأحزاب الشيعية، خاصة تلك المنضوية تحت "الاطار التنسيقي"، فهو الوحيد بينهم الذي يستطيع أن يلوح لاتباع تياره ليخرجوا بتظاهرات مليونية، كونه يمثل صوت الفقراء والشباب الغاضبين على الفساد، وهو الوحيد الذي لم يخذله اتباعه ومنحوه 71 مقعداً في مجلس النواب الحالي مما وضعه في موقع يمكنه، خاصة بعد تحالفه مع تحالف السيادة، تقدم وعزم، بزعامة محمد الحلبوسي، رئيس مجلس النواب، وخميس الخنجر، والحزب الديمقراطي الكوردستاني بزعامة مسعود بارزاني، من انتخاب رئيس الجمهورية ومن ثم تسمية رئيس الحكومة القادمة لتشكيل حكومة "أغلبية وطنية" والاطمئنان على المصادقة عليها تحت قبة البرلمان.
في حواري معه، قبيل انتخابات 2014، سألته فيما اذا كان تياره سوف يشكل الحكومة القادمة، قال الصدر: "إذا كُتب للتيار الصدري تشكيل الحكومة القادمة بروح وطنية وبروح أبوية فأنا معه، وإلا فأنا ضد التيار الصدري إذا اقترف هذه الذنوب التي تقترفها الحكومة اليوم (حكومة المالكي). أنا لست صاحباً (صديقا) لأحد، أنا صاحب الشعب العراقي.. أنا صاحب العراق. إذا العراق استفاد فأنا معه وإذا لا.. فلست معه. أنا معروف عني أستنكر وأصدر تعليمات كصاكيص (أي الأوراق القصيرة المقصوصة) ضد من ينتمي إلي أكثر مما أصدرها بحق الآخرين.
أغرد خارج السرب الشيعي
وعندما سألته عن قصة اعتزاله للعمل السياسي ومن ثم عودته عن هذا القرار؟، أجاب بوضوح: "هذا من اليأس.. ليس اعتزالاً من العمل السياسي، بل من اليأس.. المثل يقول اليد الواحدة لا تصفق. أنا أسمع الكثير من الملاحظات والتعليقات ضدي مثل: أنت صرت ضد الشيعة، أو أنت تغرد خارج السرب، أو يصفونني بأني أمشي خارج القواعد السياسية والقانونية. أنا أمشي مع القواعد الشعبية، مع القواعد الإلهية. الذي أجده يمليه علي ضميري وقواعد الشعب ومخافة الله أنفذه، هم يريدون أن يكسروني ولا يستطيعون ذلك". وصدق في ذلك، حيث لم يستطع "الاطار التنسيقي"، ومن أراد وضع الصعي في دولابه كسر إرادة التيار الصدري وقرارات زعيمه في تشكيل الحكومة القادمة، والتأثير على إصراره بان تكون "حكومة أغلبية وطنية".
موقف الصدر من المالكي ليس بجديد، فقد كان من المساهمين الاساسيين بمشروع سحب الثقة من حكومة نوري المالكي الثانية، عندما قرر قادة كتل سياسية عراقية في اجتماع عقد في أربيل، في حزيران 2012، سحب الثقة عن رئيس الوزراء، ووجهوا رسالة الى الرئيس جلال طالباني بهذا الصدد.وقال بيان صدر عن اجتماع ما وصف بأطراف لقاء أربيل النجف التشاوري، الذي ضم قادة القائمة العراقية والتيار الصدري والتحالف الكردستاني، إنهم اجتمعوا لدراسة آخر المستجدات السياسية وما يتعلق بسحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء، فضلا عن التأكيد على مواصلة الجهود والخطوات الكفيلة بتحقيق هدفهم اعتماداً على جميع الآليات الدستورية والتمهيد لتحويلها إلى التطبيق العملي.
وكان الصدر قد لعب دورا محوريا في عملية سحب الثقة من المالكي.
وكشف مقتدى الصدر عن أن أهم الأسباب التي أدت إلى فشل مشروع سحب الثقة من المالكي هي تراجع الرئيس جلال الطالباني عن موقفه.
وقال الصدر عبر مقال له نشر على موقعه في الانترنيت في آب 2012، إن "إنهاء معاناة الشيعة المستقبلي" كان من أهم الأسباب التي دفعته ليكون جزءا من مشروع سحب الثقة والذهاب إلى أربيل، رغم تحذيرات المالكي ورئيس فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني له من الذهاب.
ضد الميلشيات
الصدر هو أول من أطلق وصف"الميلشيات الوقحة"، ودعا الى سيطرة الدولة على السلاح المنفلت، وما يزال مصرا على موقفه هذا، إذ طالب الاحزاب الشيعية التي تريد الاشتراك بالحكومة القادمة ان تسلم سلاحها للحكومة.
وفي هذا السياق، نشر زعيم التيار الصدري، تغريده أكد فيها ألا مكان للمليشيات والطائفية والعرقية في الحكومة المقبلة مشددا على أنها ستكون حكومة أغلبية وطنية.وطلب أيضا من الفصائل تسليم أسلحتها لقوات الحشد الشعبي المخولة من الحكومة.
وفي المقابل، طلب من قوات الحشد الشعبي "تطهير" صفوفها من "العناصر غير المنضبطة" وتسليم "الأفراد الفاسدين" إلى القضاء.
وكان رأيه عام 2013، حول (عصائب أهل الحق)، قال: "هم الآن (خطية) يأتون إلينا ويجلسون معنا ويعودون إلى صفوف التيار ويوحدونه، لا يوجد عصائب، بل يتركون العصائب ويعودون إلى التيار وينضمون إلينا إذا جاز التعبير، وما بقي من العصائب صارت أقرب للحكومة، ولنسمِّها ميليشيات مدعومة من قبل الحكومة (المالكي)، وهذا أمر أنا لا أقبله".
يذكر ان زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر كان قد أمر في آب 2008، بتجميد جيش المهدي الجناح العسكري لتياره إلى أجل غير مسمى، مشددا على ضرورة الالتزام بقرار التجميد.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً