عدنان الباجه جي: طالب النقيب عمل للاعلان عن "إمارة البصرة".. واندحار الدولة العثمانية اوقف خططه

06-12-2021
معد فياض
الكلمات الدالة عدنان الباجه جي عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين العراق
A+ A-
"عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين" 
 
تنشر رووداو على حلقات كتاب "عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"، فهذا الدبلوماسي الذي مثل العراق في الامم المتحدة لاكثر من 50 عاما، وتبوأ منصب وزير الخارجية في الستينيات، ولد في بدايات القرن الماضي، ورحل في الربع الاول من القرن الحالي، وبهذا يكون بالفعل قد عاش بين قرنين مزدحمين بالاحداث العراقية والعربية والدولية.. كما التقى الملك فيصل الاول، مؤسس العراق الحديث، وعاصر كل رؤساء حكومات العهد الملكي ورؤساء الجمهوريات العراقية وصولا الى صدام حسين وما بعده. هذا الكتاب ليس مذكرات بالمعنى التقليدي، لم يكتبها الباجه جي بنفسه، بل هو صفحات بارزة من حياته، وتطلب انجازه المرور بمراحل عدة وعلى مدى اكثر من سبع سنوات، وعبر محطات بدأت في لندن عام 2010 وانتهت في ابو ظبي عام 2017.. انا اسأل وهو يسرد بدقة.. كنا نتناقش، ونحلل، ونبحث، ونمضي خلال ازمنة ودروب وازقة تنطلق من حي السنك في شارع الرشيد، حيث ترعرع الباجه جي، ونذهب الى مدن بعيدة، نجتاز بحار وقارات لنتتبع قصص واحداث وشخوص وتواريخ.. تحدثنا عن السياسة والمدن والازياء واسلوب حياة المجتمع العراقي خلال مائة عام تقريبا.
 
الحلقة(3)
 
قصص بعبق التاريخ
 
يفتح صناديق عتيقة، يبحث بهدوء وعناية عن اوراق وصور وحكايات يقصها علينا..قصص لحياة ماضية لكنه يجعلها باسلوبه الحكائي معاصرة وكاننا نعيشها اليوم، خاصة وانها تتعلق بتاريخه وتاريخ والده، مزاحم الباجه جي، ومن عاصرهم، بل تتعلق باحداث وتاريخ العراق. ولأن والده ومجايليه هم من بناة العراق الاوائل والمناهضين للحكم العثماني، تغدو هذه الحكايات التي ترتقي الى مصاف الوثائق، جزءا من اهتماماتنا. التأريخ عند عدنان الباجه جي كائن حي، يعيش معه ويتعامل معه بدقة ومصداقية، خاصة وانه يعشق التأريخ وكتبه التي شدته اليها وجذبت انتباهه واهتمامه منذ اول قراءاته عندما كان في السادسة من عمره، وبقيت الاحداث التأريخية تشكل جزءا من متعته وعمله، لكنها لم تصادر حاضره او مستقبله، بل افادته كثيرا في اختصاصاته الدراسية والمهنية، ليتحول الى ذاكرة حية، ذاكرة العراق، إن شئنا ان نصفه بدقة. هنا في الحلقة الثالثة من كتاب"عدنان الباجه جي..رجل بين قرنين، يستكمل الباجه جي سرد رحلة والده الهارب من متابعة وبطش السلطات العثمانية في رحلة نهرية من بغداد الى البصرة مستنجدا بواحد من ابرز اشرافها، السيد طالب النقيب، الذي كان يخطط لاعلان"إمارة البصرة" وليكون هو اميرها، أسوة بامارة المحمرة وإمارة الكويت.
 

رحلة صعبة 
علينا أن لا نتخيل ان السفينة التي صعد إليها مزاحم الباجه جي في 23 ديسمبر (كانون الأول) 1913، بانها تشبه البواخر التي نراها في الافلام او شاهدناها في البحار،او انها مثل تلك السفن النهرية المريحة التي تضم غرفا للمسافرين، بل هي زورق خشبي كبيرة تنقل المسافرين والحيوانات والبضائع، وكانت تتوقف في محطات للمدن والقرى أحيانا، التي تقع على ضفاف النهر لينزل منها أو يصعد إليها بعض المسافرين. كان يوماً بارداً للغاية، وكانت السفينة تنزل مع مجرى مياه نهر دجلة جنوباً إلى البصرة لترسو في شط العرب، وكان مزاحم يتأمل تلك القرى والبساتين العامرة بأشجار النخيل والفاكهة التي تزدحم عند ضفة النهر الغزير بمياهه وهو يبكي بصمت لتركه مدينته الأثيرة إلى نفسه، كما أنه كان يتفحص عن بُعد هؤلاء المسافرين، مقتنعاً بأن تنكره بملابس ريفية فقيرة سوف ينجيه من ورطة التعرف عليه والوشاية به إلى السلطات العثمانية والوقوع بأيديها. الوصول الى البصرة لكن وقع ما لم يكن في الحسبان، يقول عدنان الباجه جي: "قبل وصول والدي إلى البصرة تعرف عليه أحد الأشخاص، على الرغم من تنكره، فقال له: أنت مزاحم الباجه جي، وأصر هذا الشخص على أنه يعرفه جيداً أمام نكران والدي حقيقة هويته، وحتى لا يحصل ما لا تحمد عقباه فقد بقي يحسب الوقت بفارغ الصبر للوصول إلى المنطقة التالية التي توقف بها المركب مؤقتاً، فاضطر إلى أن يتركه ليذهب إلى بيت عمه الذي كان مديراً لدار الأيتام في البصرة". بعد عام بالضبط من تركه بغداد كتب مزاحم في مذكراته: "في مثل هذا اليوم فررت من بلدي ومهجتي بغداد، بعد أن ذرفت الدموع الغزار والحسرات الكثار، وذلك لشدة عداء الاتحاديين للعرب".

 

إمارة البصرة
 
في البصرة كان على مزاحم أن يجد من يدعمه ليلجأ إليه، لهذا ذهب إلى طالب النقيب الذي كان يتظاهر بأنه يؤيد القضية العربية وتبرع بثلاثين ليرة ذهب للمنتدى الأدبي الذي كان يديره مزاحم الباجه جي، ولا يزال عدنان يحتفظ بأصل هذه البرقية التي يقول فيها النقيب: "أعلمكم بأني بلغت البنك العثماني بتحويل 30 ليرة ذهب بكل ممنونية". كان طالب النقيب وقتذاك منشغلاً بأن يجعل من البصرة إمارة مستقلة مثل الكويت والمحمرة، حيث كان كل من الشيخ مبارك آل صباح والشيخ خزعل (أمير المحمرة) من أصدقائه المقربين. لجأ مزاحم إلى النقيب، يقول عدنان: "أبلغ النقيب والدي بأن لا أحد سيقترب منه في البصرة كونه (النقيب) كان مسيطراً على المدينة، حدث ذلك في نهاية 1913، وبقي متخفياً بالبصرة، حتى أن نوري السعيد نفسه أيضاً بدأ يتخفى، قبل أن يذهب إلى البصرة بمساعدة من النقيب، ثم التقى (السعيد) الشيخ خزعل، أمير المحمرة". تبع ذلك حدوث الحرب، حيث اندحرت الدولة العثمانية واستولت القوات البريطانية على البصرة. وبدأ منذ ذاك العهد الجديد للعراق. زواج مزاحم الباجه جي هذه الأحداث حصلت قبل أن يتزوج مزاحم الباجه جي، ففي نهاية أبريل 1922 "عاد إلى بغداد مع زوجته السيدة بهيجة، الابنة الكبرى لحسن الباجه جي، التي اقترن بها في نوفمبر (تشرين الثاني) 1921"، وهذا يعني أن عدنان سليل الباجه جي من الأب والأم، وهذا ما يوضحه هو ذاته، متحدثاً عن والدته: "هي ابنة عمة والدي، ووالدها حسن الباجه جي كان من أشهر المحامين في العراق، وعندما ألف السير برسي كوكيس الحكومة العراقية المؤقتة برئاسة عبدالرحمن النقيب تم تعيينه (حسن الباجه جي) وزيراً للعدلية (العدل)، فرفض وقال أنا لا أدخل الحكومة، فقد كان رجلاً متديناً، وقال إن الحكومة تقوم بأعمال تخالف معتقداتي الدينية، ورفض العمل بها. وبعد تشكيل الحكومة العراقية عرض عليه الملك فيصل الأول عضوية مجلس الأعيان ورفض أيضاً، فقد كان محامياً ناجحاً، وأنا أتذكره، فعندما توفي كان عمري 6 سنوات. 
 

أول ولادة قيصرية
 
في خضم الصراعات السياسية في السنتين اللتين أعقبتا الاحتفال بتتويج أول ملوك العراق، فيصل الأول، ولد عدنان، فقد قضى والده مزاحم النصف الأول من سنة 1923 يراقب الأحداث السياسية، ويتصل بأصحابه من رجال السياسة، ويقابل الملك فيصل الأول من وقت إلى آخر ليبحث معه شؤون العراق، "وفي شهر مايو (أيار) من العام نفسه حدث ما يكدر صفو حياته، فقد سقطت زوجته وهي في الشهر الأخير من حملها، التاسع، من عربة تجرها الخيل في عرض الشارع (كانت العربات التي تجرها الخيول وسيلة النقل الوحيدة وقتذاك) فأصيبت بكسور خطيرة". ولادته لم تكن طبيعية، بل قيصرية وعسيرة، فهو أول طفل عراقي يولد بعملية قيصرية، "أنا ولدت في 14 مايو (أيار) 1923، وعمري الآن 87 سنة (عند تسجيل هذه الأحداث في لندن) حسب التقويم الميلادي، وصادف تاريخ ميلادي يوم 28 رمضان 1341 بالتقويم الهجري". ترتسم على وجهه ابتسامة رضا، ويستطرد: "يعني بالهجري عمري 90 سنة". يقول: "على إثر سقوط والدتي تم نقلها إلى مستشفى المجيدية على الضفة الشرقية من نهر دجلة ببغداد، والذي صار في ما بعد المستشفى الملكي، وكان المستشفى الوحيد الموجود في العاصمة العراقية، وكان هذا المستشفى عثمانياً وموجوداً منذ عهد الأتراك، وعندما جاء الإنجليز قاموا بتحسينه، لكنه كان مستشفى بدائياً، وقد أعيد إعماره، وكان قد افتتح تواً (قامت في مكانه واحدة من كبرى المؤسسات الطبية باسم مدينة الطب)، فقرر الأطباء إجراء عملية ولادة قيصرية. وهي أول عملية قيصرية في تاريخ العراق الحديث، وأنا أول طفل يولد بواسطة عملية قيصرية في العراق، والطبيب الإنجليزي الذي أجرى العملية لوالدتي هو الدكتور بريهم، ومعه أطباء عراقيون مثل صائب شوكت، وهاشم الوتري، وبإشراف الطبيب الإنجليزي سندرسن، طبيب العائلة المالكة ومؤسس كلية الطب بجامعة بغداد والذي يلقب بسندرسن باشا، حيث كانوا يشاهدون ما يجري، إذ أنها العملية الأولى من نوعها في البلد". في مذكرات والده، مزاحم الباجه جي، نقرأ ما كتبه باقتضاب تام عن هذا الحدث، قائلاً: "اليوم الساعة إحدى عشرة ونصف، عملت عملية لبهيجة وولدت مولوداً في مستشفى الملوكي – الجراح بريهم"، ونلاحظ مدى الحزن الذي كان يشعر به حتى إنه لم يذكر اسم المولود. 
أثرت هذه الحادثة على مزاحم تأثيراً كبيراً، بسبب معاناة زوجته نتيجة الآلام القاسية التي تحملتها، وأصبحت لا تقوى على السير دون مساعدة أو عكازة، وبسبب هذا الحادث وعملية الولادة القيصرية لم تستطع السيدة بهيجة الإنجاب ثانية، وهذا ما يشرحه عدنان نفسه: "نعم، بسبب الحادث الذي تعرضت له والدتي لم تستطع الإنجاب بعد ولادتها لي، فأنا الابن الوحيد لعائلتي وليس لي أي إخوة، لا أولاد ولا بنات، لهذا كنت مدللاً وعشت في بيت عز وثراء وترف. ووالدي لم يتزوج بامرأة أخرى، إذ بقي يحب أمي ومخلصاً لها".

 

 

 
الابن المدلل
عندما يتحدث عدنان عن "الدلال" وكيف أنه كان مترفاً، يضحك بخجل واضح ويقول: "مفهوم الدلال قبل 90 سنة يختلف عنه اليوم، فمن الطبيعي أن تسعى كل عائلة إلى توفير ما يُفرح الطفل بتحقيق كل ما يحبه من ملابس جديدة ولعب، لكن الدلال كان بالنسبة لوالدي هو أن أتعلم القراءة مبكراً، وكان عمري ست سنوات عندما بدأت أقرأ كتب التاريخ التي كان يقدمها لي حتى ولو لم أفهم بعضها، كنت أقرأ الكتب والمجلات وتعودت على القراءة وأحببتها، وخصوصاً كتب التاريخ، التي كان عندي ميل إليها منذ بداية نشأتي، كان والدي يجلب لي كتباً عن تاريخ العرب وأمجادهم، كما كان يحدثني عن تاريخ الدولة الأموية والعباسية وصلاح الدين الأيوبي وطارق بن زياد. العرب أمة عظيمة وتاريخها مجيد. كما كان يعطيني كتباً عن التاريخ العالمي، وهذه وفرت لي معلومات مهمة أفادتني في دراستي وعملي وحياتي".

 

  

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب