عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين
تنشر رووداو على حلقات كتاب "عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"، فهذا الدبلوماسي الذي مثل العراق في الامم المتحدة لاكثر من 50 عاما، وتبوأ منصب وزير الخارجية في الستينيات، ولد في بدايات القرن الماضي، ورحل في الربع الاول من القرن الحالي، وبهذا يكون بالفعل قد عاش بين قرنين مزدحمين بالاحداث العراقية والعربية والدولية.. كما التقى الملك فيصل الاول، مؤسس العراق الحديث، وعاصر كل رؤساء حكومات العهد الملكي ورؤساء الجمهوريات العراقية وصولا الى صدام حسين وما بعده.
هذا الكتاب ليست مذكرات بالمعنى التقليدي، لم يكتبها الباجه جي بنفسه، بل هو صفحات بارزة من حياته، وتطلب انجازه المرور بمراحل عدة وعلى مدى اكثر من سبع سنوات، وعبر محطات بدأت في لندن عام 2010 وانتهت في ابو ظبي عام 2017.. انا اسأل وهو يسرد بدقة.. كنا نتناقش، ونحلل، ونبحث، ونمضي خلال ازمنة ودروب وازقة تنطلق من حي السنك في شارع الرشيد، حيث ترعرع الباجه جي، ونذهب الى مدن بعيدة، نجتاز بحار وقارات لنتتبع قصص واحداث وشخوص وتواريخ.. تحدثنا عن السياسة والمدن والازياء واسلوب حياة المجتمع العراقي خلال مائة عام تقريبا.
الحلقة (1)
خرائط الأمكنة لا تختلط عنده، وتقاويم الأحداث لا تتداخل أو تتغير، الأسماء والصور محفوظة في أرشيف حي وبدقة متناهية، وكلها تشير إلى انجازات وأفعال تاريخية ترتبط بأزمنة ومدن ومن ثم شوارع ومسارح ومدارس وجامعات، فالجغرافيا والتاريخ مساران لا يفترقان مهما امتدا أو تعمقا في الأرقام والأوقات، خطوط لا تتشابك، ولا تختلط في ذاكرته الصورية على الاطلاق.
الجغرافيا واضحة عنده تماما، تبدأ من بغداد وتعود إليها، والزمن دقيق للغاية، منضبط على ساعة القشلة في بناية السراي الحكومي ببغداد أيضا. بغداد التي وُلد وترعرع فيها، وينتمي إليها مهما ابتعد عنها جغرافيا.. ومهما اخذته منها الاحداث.
عدنان الباجه جي الذي نبضت ذاكرته الحيوية والمتدفقة بأحداث وصور عاشها على مدى اكثر من 96 عاما، وأخرى لم يعشها لكنها تناهت إليه عن والده، مزاحم الباجه جي، رئيس الوزراء في العهد الملكي.
ذاكرة لم تسترِح، لم تغفل أي مشهد حياتي، لم تنسَ أو تتناسَ أي تفصيل في الوقت والزمن، لم تهمل أي اسم، لم تتكاسل إزاء أي حدث.
في الحقيقة هي ذاكرة ملونة، يمكن أن تُرى وأن تُسمع، وأيضا - وهذا مهم للغاية - أن تتحدث، أن تسرد وتحلل، ذاكرة تمنحك الشعور بإمكانية تنفس رائحتها، رائحة المحلات والشوارع والأسواق التي انتعشت فيها، ذاكرة محايدة ومنصفة وصادقة وثرية، تلك هي ذاكرة شاب في منتصف العقد التاسع من عمره، حيث وعى الحياة في بداية بناء الدولة العراقية الحديثة، وشهد، متأسفا وحزينا، سقوط هذه الدولة، فهو من قدر له أن يلتقي، عندما كان عمره ثماني سنوات، أول ملك للدولة العراقية الحديثة، فيصل الأول، وأن يلوم، متسائلا، صدام حسين وجها لوجه، آخر قادة هذه الدولة عند سقوطها مُحتلة يوم التقاه وهو في العقد الثامن من عمره عما سببه للعراق من مصير.
.jpeg)
هذا الكتاب ليست مذكرات بالمعنى التقليدي، لم يكتبها الباجه جي بنفسه، بل تطلب انجازه المرور بمراحل عدة وعلى مدى اكثر من سبع سنوات، وعبر محطات بدأت في لندن عام 2010 وانتهت في ابو ظبي عام 2017، لكن الجزء الاهم كان في العاصمة البريطانية، وعلى مدى اكثر من شهرين كنت التقيه في شقته في حي (نايتس برج) الراقي وسط لندن لنتحدث صباح كل يوم لاكثر من ساعتين.. انا اسأل وهو يسرد بدقة.. كنا نتناقش، ونحلل، ونبحث، ونمضي عبر ازمنة ودروب وازقة تنطلق من حي السنك حيث ترعرع الباجه جي ونذهب الى مدن بعيدة، نجتاز بحاراً وقارات لنتتبع قصصا واحداثا وشخوصا وتواريخا.. تحدثنا عن السياسة والمدن والازياء واسلوب حياة المجتمع العراقي.
بقي مشروع اصدار هذه المذكرات ككتاب مؤجلا لاعتقادي انها ستكون ناقصة دون ان اضمنها ذكريات الباجه جي عن مرحلته ومساهمته المهمة في تاسيس وبناء دولة الامارات العربية المتحدة، وهذا ما دفعني لزيارته بداية عام 2017 في ابو ظبي.
ولي ان اشير هنا باننا جلسنا لساعات عدة في شقته في عاصمة دولة الامارات، وكان في بعض الاحيان يشعر بالتعب دون ان يخبرني بذلك، لكنني كنت اشعر به ونؤجل الحديث، وكان يحيلني في بعض المواقف الى مذكراته التي صدرت ككتاب عن دار الساقي (في عين الاعصار)، خاصة ما يتعلق بمرحلة ابو ظبي، توخيا للدقة ومن ثم تمت صياغة هذا الكم من السرد الحي باسلوب هو اقرب الى الريبورتاج القصصي (الحكائي) مع الحفاظ تماما وبدقة متناهية على مصداقية كل ما قاله وذكره واحد من اشهر اعمدة الدبلوماسية العراقية منذ تاسيس دولة العراق الحديثة.. في الواقع ان ذاكرة الدكتور عدنان الباجه جي هي ذاكرة العراق الحديث.

المفارقة هي ان الدكتور الباجه جي، مع كل الخدمات النبيلة التي قدمها للعراق عبر جهوده الدبلوماسية الطويلة، سواء في الامم المتحدة او كوزير للخارجية الا انه وعبر كل مراحل حكم العراق: الملكي والجمهوري منذ انقلاب 14 تموز 1958، وحتى تغيير نظام حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في 2003 لم يُنصف كما يستحق لاخلاصه ونزاهته وصراحته ووضوحه.
وسنرى هنا في هذا الكتاب ان نوري السعيد، رئيس الوزراء في العهد الملكي، وهو اقرب الناس اليه، باعتباره من الاصدقاء المحببين لوالده، حرمه عام 1958 وقبيل انقلاب من اطلقوا على أنفسهم "حركة الضباط الاحرار" من ان يكون في طاقم حكومة الاتحاد الهاشمي بين العراق والاردن مع ان الباجه جي هو من عمل مع طاقم الخارجية العراقية على وضع نظام وقوانين الاتحاد وذلك بسبب اعتراضه على ان يكون عدد الموظفين الاردنيين في حكومة الاتحاد مساويا لعدد اقرانهم من العراقيين، باعتبار ان العراق هو الاكبر حجما وعدد نفوسه الاكثر وميزانية الاتحاد كانت ستعتمد على الخزينة العراقية.
وفي العهد الجمهوري حرمه الزعيم عبد الكريم قاسم، رئيس وزراء العراق وقتذاك، بل وحرم العراق من ان يتبوأ الباجه جي منصبا رفيعا للغاية في الامم المتحدة وهو نائب او مساعد الامين العام للمنظمة الدولية وذلك بسبب ضغط الاتحاد السوفياتي على قاسم كون الباجه جي، عندما كان في المنظمة الدولية، انتقد سياسات موسكو وتدخلها في شؤون الدول الاخرى في مناسبات عديدة.
وقد يكون رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز هو اكثر من انصفه في عهدي رئاستي الشقيقين عبد السلام وعبد الرحمن عارف عندما اسند اليه حقيبة وزير دولة لشؤون الخارجية ثم وزيرا للخارجية، بينما قسى عليه البعثيون في آواخر خدمته كممثل دائم للعراق في الامم المتحدة وقبيل استقالته حيث طالب مجموعة من العاملين بصحيفة (الثورة) الصادرة عن حزب البعث بسحب الجنسية العراقية منه عام 1969 وهو في نيويورك.
بعد عام 2003 كان الباجه جي متفائلا بحدوث تغييرات لصالح العراق والشعب العراقي بعد سنوات من كبت الحريات وتراجع مكانة البلد دوليا وعربيا، واراد ان يسخّر خبراته الدبلوماسية المهمة وعلاقاته الدولية لصالح العراق، الا انه واجه اكثر من مؤامرة لابعاده وتهميشه وحرمان العراق من ان يترأسه الباجه جي، وشعر بخيبة الامل من غدر اقرب من عمل معهم.
وليس غريبا ان نعرف ان الشخص الوحيد الذي انصفه واعتمد كفاءته واستفاد من خبراته وتجاربه هو الشيخ زايد آل نهيان، في مرحلة تاسيس وبناء دولة الامارات العربية المتحدة.
في ابو ظبي كنت ازور الدكتور عدنان الباجه جي، وحسب مواعيد مسبقة، ليس من اجل الحديث لاستكمال الكتاب فحسب، بل للقاء به والاطمئنان على صحته ولتبادل احاديث عامة تتعلق بالعراق، وفي احيان كثيرة كنا نهرب الى الحديث عن الموسيقى فهو من عشاق الموسيقى الكلاسيكية والاوبرا، وغالبا ما كنا نلتقي مصادفة في قصر الامارات بابو ظبي في حفل موسيقي.
في نهاية عام 2017 تعرض الباجه جي لحادث نتيجة سقوطه من على سلم شقته مما ادى الى اجراء عملية جراحية معقدة في رأسه، والحمد لله تعافى من الحادث، لم استطع زيارته وقتذاك بسبب وضعه الصحي لكنني كنت اطمئن عليه من خلال ابنته المخرجة السينمائية ميسون الباجه جي والتي التقيتها في ابو ظبي وتحدثنا كثيرا عن والدها ووالدتها سلوى، ابنة رئيس الوزراء في العهد الملكي علي جودة الايوبي.
في فترة نقاهته اتصلت بابنته الثانية ريم، او ريمة كما يحب ان يسميها، وكنت قد التقيتها لاول مرة في شقة والديها بلندن عام 2010، وطلبت زيارته ورحبت بي.
عندما ذهبت الى مستشفي (ولنغتون) الضخمة والمتطورة في ابو ظبي، تحدثنا، ريم وانا، عند باب غرفته قبل ان ادخل اليه قالت "ارجو ان لا تستغرب اذا لن يتعرف عليك بسهولة فالعملية الجراحية كانت صعبة للغاية"، ابتسمت وقلت لا بأس المهم ان اسلم عليه ولن اتاخر، وما ان دخلنا، وجدته كما هو، الدكتور عدنان الباجه جي، بابتسامته وحضوره الجميل، كانت طبيبته تقف قريبا منه وقد انتهت من فحصه توا، بادرني "اهلا معد، شلونك"، استغربت ابنته وسالته "بابا عرفته هذا منو؟"، اجاب مبتسما: "نعم،هذا صديقي معد فياض"، وبعد الاطمئنان على صحته سالني عن الكتاب، ثم التفت الى طبيبته وقال لها بالانجليزية"، معد كاتب وصحفي وهو صديقي، يؤلف حاليا كتابا عن حياتي "، قالت، الطبيبة،"هذا رائع"، استطرد قائلا: "هل تعتقدين ان هناك من يهتم اليوم بقراءة كتاب عن حياتي؟" ردت الطبيبة "بالتأكيد، انت شخصية مميزة وتجربتك مهمة للاخرين"، ثم التفتت لي وقالت: "اتمنى ان تكون قد ركزت على الجوانب الانسانية في حياة السيد الباجه جي وليست السياسية فحسب"، فبارد الباجه جي قائلا: "نعم لقد ركز معد بالحديث معي على الجوانب الحياتية، وهذا ما اعجبني".
في العاشر من ابريل (نيسان) 2018، وبعد خروجه من المستشفى، زرته مساء، في شقته في ابو ظبي، احد المقربين منه نبهني الى ان ذاكرته صارت ضعيفة للغاية، وطلب مني عدم اطالة اللقاء، كان جالسا، كعادته، في صالة الشقة وهو ينظر عبر زجاج النافذة العريضة الى البحر، صامتا، متأملا، غارقا فيه، ومعه ممرضته الفلبينية وخادمه والطباخ الهندي الذي يعمل عندهم منذ سنوات طويلة، استقبلني بابتسامته، قائلا: "اهلا معد.. اشلونك"، وهذا ما فاجأني، ذلك ان ذاكرته كانت ما تزال يقضة جدا، ثم سالني عن الكتاب واخبرته انه في مراحله الاخيرة، ثم قال: "كانت فكرتك جيدة في ان تتصل بي وتاتي لابو ظبي لاستكماله"، ثم تحدثنا عن الموسيقى والاوبرا ونيويورك.. ثم فجأة بدأ الحديث عن رفيقة حياته، زوجته سلوى علي جودة الايوبي، وكأنه كان يعرف ان موعد لقائه معها في العالم الآخر قد بات قريبا جدا، وقال: "انا كنت دائما محظوظا بحياتي، واهم حدث كان زواجي من سلوى، لقد احببتها واحبتني وعشت معها اسعد سنواتي، وكنت محظوظا بدراستي وعملي واصدقائي"، ايقنت حينها ان هذا اللقاء سيكون الاخير بيننا، وأنه يريدني ان اثبت هذه المعلومات وان لا اغفل ذكرها، سلوى، في هذه الذكريات او المذكرات إذ غالبا ما يذكر وفي عدة مناسبات قائلا: "انا كنت محظوظا"، و"انا محظوظ".
قبل ان اتركه سالته: ماذا تسمع هذه الايام؟،اجاب: "باخ، موسيقى باخ، مؤلفاته الكنسية"، تاملته وهو في هذه المرحلة الهادئة من حياته، وتاكدت ان لا موسيقى تتناسب مع ذائقته راهنا سوى مؤلفات يوهان سباستيان باخ الكنسية".
قبل ان اتركه قلت له: دكتور، تعرف انا محظوظ جدا لاني التقيتك طوال هذه السنوات، وتحدثت معك وتعلمت منك الكثير،ابتسم وقال: "شكرا".
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً