سبايا الخلافة.. خاننا السائق الذي كان يفترض أن ينقذنا

27-04-2019
نوزاد محمود
الكلمات الدالة سبايا الخلافة الكورد الإزيديين داعش
A+ A-

رووداو – دهوك

"طلب والدي من داعش مهلة ثلاثة أيام للتحدث إلى سكان القرية. هل تريد أن أخبرك عن حالة والدي النفسية؟" أنا أيضاً أتساءل كيف كانت الحالة النفسية لأب أمهل ثلاثة أيام فقط للحفاظ على حياته وحياة أولاده وأبناء قريته؟

"لم يفارق هاتفه الجوال أذنه طوال تلك الأيام الثلاثة، ولم يعرف الراحة لحظة"، إنها تتحدث عن رجل ستبقى ذكراه حية في ذاكرة كل الذين حوصروا خمسة عشر يوماً في قرية كوجو.

هدلة، ابنة مختار قرية كوجو المفقود الأثر، أحمد جاسو. الرجل الذي حاول كل محاولة على مدى ثلاثة أيام متواصلة لفتح منفذ يهرب من خلاله سكان القرية باتجاه جبل سنجار. كان قد أخبر أبا حمزة الخاتوني بأنه يريد تلك المهلة ليقنع خلالها أهالي القرية بالتخلي عن دينهم: "كان يتصل باستمرار بكوردستان وبالمسؤولين العراقيين ويطلب العون منهم، أذكر أنه اتصل ببغداد قبل أن تنتهي المهلة بساعتين، وطلب قصف القرية بالطائرات لكي يتسنى لنا الهروب من القرية، لكنهم لم يفعلوا".

قصة قرية كوجو تختلف عن قصة أي منطقة إزيدية أخرى، فقد فاوض مختارها داعش، بوساطة جيرانهم العرب، لمدة أسبوعين، كما كانت آلامها مختلفة، فقد انتهت تلك المفاوضات بإعدام رجال القرية رمياً بالرصاص.

تتذكر هدلة تلك الأيام، وتقول: "كانت وساطتهم سيئة"، فهي ترى أن أبا حمزة الخاتوني كان يستطيع بسهولة أن يفتح في وجههم ممراً يؤدي إلى جبل سنجار، "كان يفترض أنه ليس داعشياً، لكنه كان في كل يوم يحتج بحجة جديدة ويعقّد الأمور على أبي".

في الأخير، في الساعة العاشرة من صباح 18 آب 2015، جمعوا كل الأهالي في مدرسة القرية. شاهدت هدلة أباها بين رجال القرية الذين اقتيدوا إلى خارج القرية، وبعد ظهر نفس اليوم نقلوا النساء والبنات إلى سولاخ: "نقلونا إلى تلعفر، وبقينا 21 يوماً في مدرسة، وسُمح للإزيديين الذين أسلموا أن يضموا إليهم نساءهم وأولادهم".

أبو علي وقلبه الطيب

وردت أخبار تقول بأن الإزيديين المحتجزين سينقلون إلى سوريا. أصاب النبأ جميع الإزيديين بالذهول. جاءت سيارات وحُمّلت بالنساء والبنات وانطلقت بهن. امتلأ المكان بصراخ وضجيج البنات اللواتي كان يتم التفريق بينهن وبين أمهاتهن ويجبرن على الركوب في تلك السيارات عنوة. في تلك الأثناء ظهر (أبو علي) وهو داعشي كان مسيحياً في السابق، صاح بهم: "دعوا هؤلاء... إنهم أولاد أحمد جاسو"، كانت هدلة تريد أن تشكره ساعتها، عندما اقترب منها وقال لها: "إن أظهر أحدهم نية سوء، قولي إنك من أقارب أبي علي، لقد سمعت عن أبيك وأنه كان رجلاً طيباً جداً".

بفضل حسنة أبي علي تلك، بقيت هدلة وأولادها في تلعفر، في المساء التالي، همس إزيدي بضع كلمات في أذنها: "رسمنا خطة للهروب، هل سترافقوننا؟"، فكرت هدلة في كلمات ذلك الإزيدي، وهل سيظهر أبو علي وينقذها عندما تقع في قبضة داعش من جديد وهي هاربة منهم؟ رغم خوفها وقلقها الشديدين، وافقت على تسليم نفسها وأولادها للمجهول.

قامرت هدلة وعدد من قريباتها البنات والنساء بأوراحهن بركوب سيارة انطلقت بهن في ذلك المساء. ابتعدوا عن تلعفر مسيرة نحو ساعتين. كان الجميع في السيارة يحتضنون بعضهم بعضاً يلفهم غبار الطريق، بدون أن ينبس أي منهم ببنت شفة، كانوا يتبادلون سؤالاً عبر لغة العيون: "هل سننجو ونصل إلى كوردستان؟"

خيّم الليل وخففت السيارة سرعتها، وفجأة ظهرت سيارة تابعة لداعش، لحقت بهم بعد دقائق. حوصروا وأجبروا على الترجل وصوب مسلح فوهة بندقيته إليهم، لم يكن يفصلهم غير القليل من الثواني ليضغط على الزناد ويوقف ضربات قلوبهم المتسارعة: "فجأة قال أحدهم لذاك المسلح، لا تطلق النار، لأنه لا يسمح بقتل النساء والأطفال"، لا تعرف هي إلى الآن من أين برز الدكتور أحمد، الطبيب الذي كان يرافق المسلحين إلى جبهات الفتال لمعالجة الجرحى: "صحبَنا إلى سنجار ليضعنا في بيت لا كهرباء فيه".

عدن إلى سنجار، لكنهن كنّ يشعرن بالغربة في أرضهن وديارهن، وينتظرن خانعات ما قد يحل بهن. كانت هي مع ثلاث أخوات وزوجتَي أخ لها واثنتي عشرة أخريات. قبّلت أختها يد الدكتور أحمد وتوسلت أن لا يقتلن بسبب هروبهن: "في تلك الأثناء تعرضت سنجار للقصف الجوي، فنقلونا على وجه السرعة إلى قرية (كلزَرد) التي كان بها 30 من مسلحي داعش، أخذونا إلى الطالبق الأعلي في مقر لهم، حيث اتخذ مسلح يدعى أبو كرم، مني ومن أخت لي جاريتين له".

في الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي، خرجت هدلة لترى السائق الذي كان يفترض أن ينقذهن بسيارته في مواجهتها وقد ثبت عينيه في عينيها، اقتربت منه هدلة وأسدلت حجاباً على آلامها المكبوتة وقالت له: "لقد خنتنا، وكل ما يجري لنا أنت المتسبب فيه، وسيأتي يوم تنال فيه جزاءك"، لكن السائق لم يلتفت إليها ومضى في حال سبيله.

في منزل محافظ نينوى

جاء أبو كرم بسيارة حمل صغيرة وحمل فيها البنات والنساء، وغطاهن بغطاء بلاستيكي وانطلق. في نقطة السيطرة عند مدخل مدينة الموصل، سمعت هدلة أبا كرم يكذب على المسلحين في النقطة ويقول "السيارة محملة بأسلحة!"، أخذهن إلى دار (غانم بصو) محافظ نينوى في عهد صدام حسين. كان أبو ليث يقيم في الدار، رجل ضخم الجثة "أظن أنه ذبح مئة شخص بيديه"، بدأ أبو ليث يحاكمهن: "لماذا هربتن"، أجابت أختها: "كنا نخشى أن ينقلونا إلى أفغانستان".

بعد أيام، تغيرت تصرفات أبي ليث، وتقول هدلة إنه كان قد وقع في حبال جمال ابنة أخيها (عمشي)، كان عشقها قد نال منه. حتى أن أبا ليث كان في الأيام الأخيرة يتوسل إلى عمشي كل لا تذهب مع أحد وأن تبقى إلى جانبه، ولم يكن يريد إزعاج عمشي وفصلها عنا: "حتى أننا علمنا في ما بعد أن أبا ليث أوصى والديه بالاعتناء بعمشي بعد أن يُقتل هو ولا يدعا أي مسلح آخر يحظى بها".

تم تبليغهم في أحد الأيام بمغادرة المكان، لأن الطائرات ستأتي لتقصفه "فأخذونا إلى قبو كان عبارة عن مخزن كبير، كانت الغرفة التي إلى جانبنا ملأى بـ تي إن تي، وغرفة أخرى ملأى بالأسلحة، وفي الليل جاء مسلحون ونقلوا بعض الأسلحة، فشعرنا بأن خطباً جللاً قد وقع، ثم جاء أحد الحرس وقال هناك شيء يجب أن لا تعرفه عمشي وتحزن له، لقد قتل أبو ليث".

قصة عشق عمشي في قصر البغدادي

وصل نائب لأبي بكر البغدادي، يدعى أبو معتز، إلى الموصل، وكان قد سمع بقصة عشق أبي ليث لعمشي. عندما ذهب إليهن طلبت أختها أن يعيدوا إليهن الأولاد، "ورغم أنه تعهد بتلبية مطلبنا، جاؤوا بالأولاد بعد مغادرة أبي معتز وتركونا نراهم، لكنهم لم يعيدوهم إلينا، وقالوا هؤلاء لم يعودوا أولادكم".

كانت قصة عشق أبي ليث لعمشي من قصص الحب في أيام الحروب. كانت عمشي تعلم أن أبا ليث لا يختلف عن المسلحين الآخرين الذين قتلوا جدها رمياً بالرصاص، لكن أبا ليث كان قد فقد كل شيء في مواجهة عمشي. كان مستعداً، في حضرة جمالها، أن ينتهك كل قوانين وتوجيهات الخلافة. بعد مقتل أبي ليث، تغيرت الحياة في ظل الخلافة، حتى بالنسبة إلى ذويه، لتنقلب إلى اضطهاد وعنف.

تمت إعادتهن إلى تلعفر، وبقين هناك بضعة أيام، وفجأة في صباح أحد الأيام، علا صوت الضجيج والصخب: "رأينا طائرات تحوم في سماء تلعفر، بدأت أختي تلوح بمنديلها الأبيض، على الأقل كي ترانا الطائرات ولا تستهدفنا، لكن الطائرات عادت أدراجها".

بعد مصرع أبي ليث، بهت جمال عمشي، وبدأت شيئاً فشيئاً تحاول إخفاء جمالها بكل الصور، لكي لا تقع في يد من لا يرحم. جاءت سيارات محملة بالطعام للمسلحين، قادمة من الموصل، ولدى عودتها حملوهن إلى الموصل ليستقر بهن المقام في قاعة كبيرة هناك. هناك، ظهر أبو علي من جديد، ليقترح إعادتهن رفقته إلى تلعفر ليتولين رعاية الأغنام والمواشي، وكان ذلك أفضل خيار يومها لتجنب الوقوع في براثن مسلحي داعش. دفعت سابقة أبي علي الجيدة هدلة لقبول الفكرة بدون تردد "فعدنا إلى تلعفر من جديد".

تم ترحيل النساء اللواتي لا أزواج لهن إلى سوريا على وجه السرعة لاتخاذهن جواري. أما البقية القليلة التي أسلم أزواجهن، فكن من المحظوظات وكلفن برعاية الأغنام والماشية والحقول الزراعية. لكن خلافة داعش قررت في تلك الأيام التخفيف من النفقات التي عليها، "فتم تسجيل أسماء كل الذين يعانون من أمراض مزمنة، في تلعفر، ليتم ترحيلهم إلى كوردستان"، كان ذلك خبراً جعل المرضى ينسون آلام المرض ومعاناته، لكن يبدو أن داعشاً كان يريد اتخاذ خطوة تقليص النفقات تلك وسيلة للمساومة، وتبينت هذه الحقيقة مع وصول نائب الخليفة، أبو معتز، إلى تلعفر.

ما هي مطاليبك يا عمشي؟
 
ظلت هدلة ورفيقاتها ثلاثة أشهر في تلعفر على نفس الحال. كن يخدمن أغنام وماشية داعش وكانت الأنباء السيئة تتواصل، بحيث لم ترتسم البسمة على شفاههن يوماً، إلى أن وصلت سيارة تقل أبا معتز حاملة خبراً يبعث على الأمل.

أبو معتز: لماذا تبكين يا عمشي؟

عمشي: هذه ليست بحياة؟

أبو معتز: ماذا تريدين أن أفعل لأجلك؟ ولكن لا تطلبي أن أحررك.

عمشي: حسناً، دعك مني، ولكن حرر أقاربي.

أبو معتز: أبو علي، سجل أسماء أقارب عمشي جميعاً.

عاد أبو علي إلى أبي معتز بعد نصف ساعة، وأخبره بأنه سجل أسماء عشرين شخصاً من أقارب عمشي المقربين. أمر أبو معتز بإدراج الأسماء في قائمة الذين سيتم إرسالهم إلى كوردستان. لكن كان ثم أمر آخر مخفي. كان مساومة من جانب أبي معتز ليسجلها كجميل يمن به على عمشي. بدأ في الأيام التالية تسجيل أسماء كبار السن المرضى في قائمة لترحيلهم: "كانت اثنتان من أخواتي يعانين من داء السكري، وكنت قد خضعت لعملية جراحية قبل فترة، وهكذا تم تثبيت 220 اسماً وتم تسفيرنا".

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب