معد فياض
كان مقدرا له، منذ طفولته، ان يكون نحاتا.. بالضبط منذ ان ارتبط في علاقة عميقة بالطين، يقول: "كان بيتنا في مدينة العمارة، التي انتقلنا اليها من بغداد حسب عمل والدي، قرب النهر، وكنت غالبا ما امضي وقتي عند جرف الشط لاصنع اشكال مختلفة من الطين.. الطين اساس الإبداع، وهو من جعل مني نحاتا، وما زالت علاقتي به متواصلة وحميمية". لكن هذه العلاقة، ما بين الفنان التشكيلي، النحات عبد الحميد الزبيدي، والطين لم تروق لوالده الذي اراده ان ينتسب للجيش، وهذا ما اعترض عليه عمه، جاسم الزبيدي، المصوّر الفوتغرافي المبدع، الذي عارض رأي شقيقه وقاد ابن اخيه الى معهد الفنون الجميلة في بغداد.
في قسم الفنون التشكيلية بمعهد الفنون الجميلة، انفتحت امامه اربع ابواب دراسية: النحت والرسم والسيراميك والغرافيك، وبعد المقابلات والاختبارات حملت قوائم القبول اسمه وامامه ملاحظة وضعت من اجله فقط" يدرس في قسم النحت حصريا"، وهذا ماكان، حيث تخرج نحاتا عام 1977، وكانت المفارقة الأولى هي انه في ذات العام كان قد شارك في "معرض الرسامين العراقيين في (بيروجا) بايطاليا التي سافر اليها لاكمال دراسته، لكن حنينه لبغداد اعاده الى العراق، اما المفارقة الثانية فكانت رئاسته لفرع النحت الذي درس فيه في معهد الفنون الجميلة واستمر بموقعه هذا حتى عام 2021.
الزبيدي الذي افتتح امس الثلاثاء (19 أيلول 2023)، معرضه الاستعادي في غاليري ميديا وسط اربيل، كان قد اقام 4 معارض شخصية، وشارك بعشرات المعارض الجماعية داخل العراق وخارجه، وحاز، ايضا على عشرات الجوائز الوطنية والعربية والغربية، وامضى بضعة سنوات كاستاذ في الجامعة اللبنانية الاميركية في مسقط، غير هذا فان اعماله، منحوتات وجداريات ولوحات، تتوزع على خارطة واسعة تمتد من بغداد مرورا بدول الخليج العربي، عُمان خاصة، حتى بلجيكا ودول اوربية اخرى.
في حديثه لرووداو، قال الفنان التشكيلي عبد الحميد الزبيدي: "انا نحات وانحاز لفن النحت بالتأكيد، ولكني لم ولن اتخلى عن الرسم منذ دراستي في معهد الفنون الجميلة، واحيانا ارسم شكل المنحوتة قبل تنفيذها لكني سرعان ما اترك التخطيط واشتغل مباشرة على الطين قبل صبه بالبرونز، وهناك منحوتات نفذتها بصورة مباشرة على حجر المرمر او الخشب"، منوها الى ان "في هذا المعرض هناك اكثر من 50 عملا نحتيا و20 لوحة تشكيلية، وهذا ما تتسع له القاعة لأن عندي رصيد من 120 منحوتة ولوحات مرسومة كثيرة لم استطع عرضها".
الأعمال النحتية تنوعت اسلوبيا وتقنيا ما بين البورتريت، مثل: المعمارية زها حديد ومظفر النواب وعلي الوردي والعديد من الشخصيات العراقية الادبية والاجتماعية، وله عشرات المنحوتات لشخصيات عربية من مقتنيات شخوصها خاصة في عُمان، الى جانب منحوتات تعبيرية، وغالبيتها تصلح لان تكون نصب كبيرة، اعمال نصبية، وهو يوضح "انا متأثر بالتأكيد بالنحت السومري والآشوري، وغالبية المنحوتات السومرية، حتى المصغرة، طابعها نصبي وتصلح لان تكون نصب كبيرة وقد راعى الفنان السومري هذه الميزة في اعماله، ونلاحظ اننا حتى اذا كبرنا المصغرات النحتية السومرية فانها لن تفقد اهميتها وجماليتها واسلوبها، اما النحت الآشوري فقد تجسد ابداعيا بالثور المجنح وهو عمل فكري بالدرجة الاولى وينطوي على رموز دينية واسطورية مهمة، ويعد الثور المجنح سابقة في تاريخ الابداع النحتي الانساني على مر التاريخ".
يذكر الزبيدي بانه تتلمذ "في معهد الفنون الجميلة، بدراسة النحت على يد النحاتين ميران السعدي وصادق ربيع، اما عالميا فانا متأثر بالنحات الفرنسي رودان، وفي الرسم تتلمذت على يد محمد علي شاكر، وكانت الدراسة وقتذاك جادة للغاية حيث الاساتذة كانوا يحرصون على تعليم تلامذتهم ووفر المعهد الموديل خلال دروس الرسم والنحت ". يستطرد بقوله:" لكن هذا لا يعني اني متأثر بمن درسني سواء النحت او الرسم مع انهم فنانون مهمون جدا وتعلمت منهم تقنيات النحت وليس الاساليب، انا لا اهتم كثيرا بموضوع الاسلوب لانه يقيد الفنان ويحنطه في منطقة واحدة بعيدا عن الابداع ويحوله الى ماكنة انتاج نموذج واحد، لهذا تشاهد هنا في المعرض اعمال اكاديمية واقعية وبورتيه واعمال تجريدية وتعبيرية". تتوسط صالة العرض مسلة زرقاء تحكي قصة نضال حياتية، اللون الفيروزي يعيدنا الى بابل، بل ان فكرة المسلة هي عراقية بامتياز، يقول:"المسلات اسلوب ينتمي الى بلاد ما بين النهرين، مسلة حمو رابي مثلا، وهناك مسلات كثيرة لملوك سومر وبابل وآشور، و في ركن القاعة هناك مسلة الشهيد، وفكرة المسلة بانورامية وتروي قصة او احداث متتالية".
اذا كان الفنان التشكيلي عبد الحميد الزبيدي قد حسم، منذ طفولته، اتجاهه للنحت، الا انه متشبث ايضا بالرسم، ويقول: "العلاقة بين الرسم والنحت متلازمة ومتلاحمة، لا يمكن ان تكون نحاتا اذا انت لست رساما، لكن العكس ليس صحيحا، اي ان الرسام ليس بالضرورة هو نحات، لكن النحات بالتاكيد رسام وهذا يعتمد على مهاراته وابداعه"، في صالة عرض اللوحات بقاعة ميديا للفنون التشكيلية، عرض الزبيدي 20 لوحة يعودتاريخ انجازها ما بين نهاية التسعينيات وحتى 2008، منفذة بالاكريليك والزيت ومواد مختلفة على القماش او الورق"، ينبّه الى ان "حتى اعمالي في الرسم هي منحوتة من حيث الأسلوب والتقنية والموضوع، بل قل ما تجد لوحة تخلو من تمثال او ان الشخوص ذاتهم في اوضاع تصلح للنحت.. انا عندما ارسم كاني انحت، وعندما انحت ادخل في مزاج الرسم.. هذا تداخل طبيعي لازمني منذ سنوات دراستي المبكرة"، رافضا فكرة تلوين المنحوتة، حالياً في الاقل، لانه يعتقد ان "اللون يفقد المنحوتة كتلتها ويحدد فكرتها لدى المتلقي".
وفي رده عن سؤال: لماذا اخترت اربيل لتقيم فيها معرضك الاستعادي؟ يجيب مباشرة: "اربيل المدينة التي كنت اتمنى ان اعيش واستقر فيها منذ زمن طويل.. حتى اني كنت اتحدث مع ابني احمد، وهو رسام يعيش في بجيكا، قلت له هذا المكان الذي كنت اتمناه، وما تحقق ونعيشه هنا لن يتحقق ببغداد بعد سنوات طويلة.. هنا وجدت الامان والحياة الاجتماعية التي كنت اعيشها في بغداد قبل عقود من السنين.. الناس طيبون والحريات هنا محمية بقوانين يحترمها الجميع، اضافة الى طبيعة هولير الساحرة، لهذا اخترت ان استعيد في احدى قاعاتها (ميديا) مسيرتي الابداعية في النحت والرسم، وقررت ان انقل مشغلي واستقر في هذه المدينة التي تعتبر واحة للمحبة والسلام".
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً