أهلها يعتزون بهويتها الثقافية..السليمانية المدينة التي لا تنام

07-06-2022
معد فياض
معد فياض
الكلمات الدالة السليمانية اقليم كوردستان معد فياض
A+ A-
معد فياض

في السليمانية، ثاني محافظة في إقليم كوردستان، والتي يتباهى أهلها بتسميتها العاصمة الثقافية للإقليم، لم أذهب إلى أي مسؤول حكومي أو أمني أو سياسي ليحدثني عنها، ذلك لانني أفضل أن أستعرض آراء الناس، وكذلك اختصاراً للوقت، ولأني أعرف مسبقاً بأن المسؤولين يمتلكون إجابات جاهزة تبرر الأخطاء وتشيد بإنجازاتهم، هذا يحدث في غالبية محافظات العراق وليس امتيازاً حصرياً لأي مسؤول سواء في السليمانية أو غيرها.
 
بحكم عملي الطويل في مهنة الصحافة تعلمت أن أتجنب اللقاء بالمسؤولين قدر الامكان للحديث عن أي موضوع يخص واقع المدينة، عملاً بالمثل الشائع "أهل مكة أدرى بشعابها"، والناس، وأعني سواق التكسيات ورواد المقاهي والباعة على الأرصفة وصباغي الأحذية وأصحاب الدكاكين والحلاقين هم أدرى بكثير بأمور مدينتهم، وهذا ينطبق على أي مدينة في العالم وليست السليمانية فقط، وأتذكر نصيحة أول سائق تكسي نقلني من مطار هيثرو إلى وسط لندن، عندما عرف بأني أزور العاصمة البريطانية للمرة الأولى، قبل سنوات عديدة، عندما قال لي:
 
وترجمتها: "سيدي.. لا تثق بثلاثة أمور في لندن تبدأ بحرف الـ (W)، النساء والعمل والطقس".. وهكذا تعودت أن أسأل سائق التكسي ونادل المطعم والحلاق والبائع في أي مدينة أزورها عن أحوال المدينة فينفتح بالحديث عن كل ما يعرفه من أمور اقتصادية وسياسية واجتماعية. أذكر هذه الأمثلة للتأكيد بأن معلومات الناس هي الأكثر صراحة ودقة، وهم يذكرونها حتى بدون أن يعرفوا مسبقاً بأنني صحفي أو سائح اعتيادي.
 
مدينة النهار
 
دخلنا إلى مدينة السليمانية مع ساعات الظهيرة الأولى، حيث يمتاز مدخلها بسعته كما تستقبل هذه المدينة زوارها بأهم واجهتين حضاريتين، الجامعة الأميركية على اليمين، تقابلها من جهة اليسارجامعة السليمانية، قبل أن نصل إلى مدخل مطار السليمانية الدولي، ويحق لإقليم كوردستان ومدينة السليمانية أن تتفاخر بتلك الجامعتين ومرافقهما العلمية والإدارية والاجتماعية..وما ان نقترب باتجاه مركز المدينة، حتى يبدأ الاختناق المروري ويبلغ أشده في بداية شارع سالم، الذي تتوسطه بناية مؤسسة سردم للترجمة، التي أنشأها الشاعر الكوردي الراحل شيركو بيه كس، وهو أهم شوارع المدينة، وحالة الازدحام هذه تتواصل ليلاً ونهارا.. والمعروف أن غالبية أسماء شوارع السليمانية تستمد عناوينها من أسماء شعراء كورد وعرب، مثل سالم ومولوي والجواهري.
 

 

يوضح سائق التكسي أهم أسباب الازدحامات في شوارع المدينة، قائلاً: "لم يتم فتح شوارع جديدة ما عدا شارع 60 الذي تم افتتاحه قبل سنوات، وبقيت شوارع السليمانية القديمة مثلما هي بدون أية توسعات بينما ازدادت أعداد السيارات أضعاف ما كانت عليه". مضيفاً "نحتاج إلى طرقات سريعة حول المدينة مثلما حصل في أربيل مثل شارعي 120 و150 اللذين خففا من ازدحامات المدينة"، مشيراً إلى ان "غالبية السواق من الشباب لا يعرفون قيادة السيارات ويتصرفون بطريقة بعيدة عن اللياقة التي أساسها الذوق والفن".
 
السليمانية التي كان قد زارها عام 1820، وبعد 26 عاماً من بنائها، الرحالة البريطاني، ريخ، وقدّر عدد سكانها بأكثر من عشرة آلاف وأنها تحتوي 2000 بيت من المسلمين الكورد و130 بيتاً من اليهود و9 بيوت من المسيحيين و5 بيوت من المسلمين الترك، ووفقاً لوثائق الحكومة العراقية لعام 1947 زاد عدد السكان ليصل إلى 23475 أما في عام 1998 وصل إلى 548747 وفي عام 2015 بلغ نحو 656100، بينما يزيد عدد سكانها اليوم على المليونين ونصف المليون، خاصة بعد أن نزحت إليها الكثير من العوائل العراقية العربية القادمة من مدن وسط وجنوب العراق لشعورهم بالأمان والاستقرار فيها.
 
أسواق بعبق الماضي
 
يتصل شارع سالم في نهايته بشارع مولوي، الذي غابت عن واجهته صورة كبيرة لمام جلال، كانت مثبتة هناك منذ سنوات، وهو سوق شعبي أكثر منه شارع، حيث تزدحم أرصفته في أوقات ما بعد الظهر بالباعة الجوالين إضافة إلى دكاكينه.. في هذا الشارع تكاد أن تجد كل شيء، ملابس أجهزة كهربائية موبايلات خضار وفواكه، محلات السندويشات والعصائر، صرافين، محلات الحلويات، صيدليات، ومن هناك بإمكانك أن تختار الاتجاه نحو السوق القديم (القيصرية) أو الجامع الكبير.
 
في السوق القديم ستجد ما تبحث عنه، فهو مجموعة أسواق تحت سقف واحد، أسواق الذهب والاقمشة والسجاد والملابس والاكسسوارات والخضار واللحوم والصناعات الخشبية اليدوية التقليدية.. ومثل هذه الأسواق تذكرك بأسواق بغداد وأربيل وكركوك، حيث ما يزال عبق الماضي يطفو في أثيرها ودكاكينها ووجوه الباعة والزبائن.. صديقتي القادمة من الموصل كانت تبحث عن خيوط صوف للحياكة اليدوية، قلت: لا اعتقد ستجدينها هنا، ابتسمت وقالت "هنا تجد كل ما تبحث عنه"، وبالفعل اتجهنا يميناً نحو سوق يزدحم بدكاكين بيع الخيوط ولفات الصوف والأزرار وكل ما يتعلق بأدوات الخياطة.
 

 

الناس والسياسة
 
بالرغم من شكاوى البائعين وبعض الزبائن عن تراجع الأوضاع الاقتصادية بسبب تأخير دفع الرواتب للموظفين والتي تؤثر على القدرة الشرائية، إلا أن الأسواق مزدحمة جداً بالمتبضعين، صاحب محل لبيع الموبايلات في شارع مولوي يلخص الوضع الاقتصادي بانه "متعلق بالأوضاع السياسية وعلاقة الحزبين الكورديين، الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني، ببعضهما"، مشيراً إلى أن ثمة تفاؤلاً بالانفراج بعد زيارة رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني للسليمانية واجتماعاته بقادة الأحزاب السياسية وعلى رأسها الاتحاد الوطني (اليكتي).. فكل ما حدث انفراج سياسي انتعشت أسواقنا والعكس صحيح".
 
رئة المدينة
 
المتنزهات (البارك) في جميع مدن العالم تشكل رئة المدن التي يتنفس الناس من خلالها الاوكسجين والهواء النقي بعيداً عن التلوث، ومدينة السليمانية لم تحافظ على متنزهاتها فقط، وأقدمها ( الحديقة العامة)، ثم متنزه الحرية (بارك آزادي)، بل أضافت أكبر متنزه في السليمانية، جنة المدينة (هواري شار) الذي هو عبارة عن مناطق خضراء شاسعة مع منشآت سياحية تلجأ اليه العوائل للترفيه عن نفسها بأجواء بيئية نقية، وفي الاماسي هناك مصيف سرجنار الذي لا يبعد سوى 5 كيلومترات عن مركز المدينة والذي يضم أفضل المطاعم والمقاهي، فالقاعدة الصحيحة التي أعمل بموجبها هي الابتعاد عن مطاعم ذات الخمسة نجوم والاستمتاع بما تقدمه المطاعم الشعبية ذات النجمتين أو النجوم الثلاث.

الزي كهوية ثقافية
 
نساء السليمانية الكورديات اكثر اعتزازاً بتراثهن والحفاظ عليه من الرجال هناك، فالمرأة الكوردية في السليمانية، كما في غالبية المدن الكوردية، حريصة على ارتداء ازيائها الكوردية التي تظهر جمالها وتعبر عن اعتزازها بهذا الزي، وهذا الامر لا يقتصر على نساء القرى أو الاعتياديات، بل حتى الاكاديميات، والمثقفات يتمسكن بهذا الزي، كونه "يعبر عن انتمائي القومي وهو جزء من هويتي"، حسب ما توضح الدكتورة ابتسام اسماعيل، عميدة كلية العلوم الانسانية في جامعة السليمانية، والتي ظهرت في غالبية أيام فعاليات مهرجان كلاويز الثقافي، الذي تتصدى لإدارته، بأزياء كوردية تقليدية، مضيفة: "هذه مناسبة ثقافية بحتة وتتحمل ارتداء مثل هذا الزي كونه جزءاً من ثقافتنا، لكننا بالتأكيد لا نستطيع ارتداءه خلال عملنا الذي يتطلب الحركة والمتابعة، ومع ذلك هناك مناسبات نتحينها لارتداء زينا الكوردي". معبرة عن اعتزازها بمدينتها السليمانية وبمهرجان كلاويز الثقافي، قائلة "مهرجان كلاويز كان أحد اهم الأسباب لتسمية السليمانية مدينة الأدب من قبل اليونسكو، كما أنها تعتبر العاصمة الثقافية لإقليم كوردستان ومحط اهتمام غالبية من المثقفين والمبدعين الكورد والعرب والتركمان ومن جميع ألوان الفسيفساء العراقية والإقليمية".
 

 

الدكتورة شيلان فتحي، استاذة في جامعة السليمانية ظهرت خلال أيام مهرجان كلاويز مع شقيقتيها، أريان وسازان، بأزياء كوردية استقطبت اعجاب الضيفات المصريات واللبنانيات والسوريات علاوة على العراقيات، مما دفع بالشاعرة والكاتبة المصرية فاطمة ناعوت لاقتناء زي كوردي اعتزازاً به.
 
تقول شيلان فتحي: "باعتقادي ليس هناك أجمل من الأزياء التقليدية النسائية الكوردية، من حيث تصميم الزي أو ألوانه، وهذا الزي أوحى للكثير من مصممي الأزياء العالميين بتصميم قطع جميلة اعتماداً على الزي النسائي الكوردي"، مشيرة إلى أننا كنساء كورديات نحرص على ابرازه كجزء من هويتنا القومية والثقافية".
 
وتصف شيلان فتحي مدينتها قائلة: "أنا سافرت لدول ومدن عدة لكنني أجد السليمانية هي الاجمل وتتوفر فيها فضاءات ثقافية رائعة".
 
الملاحظة التي لا تغيب عن أي زائر لمدينة السليمانية هي اقتحام المرأة، وبجرأة، لمجالات عمل معينة لم تقربها نساء أخريات في باقي مناطق العراق، مثل امتلاكها لـ(شايخانة) على شارع سالم بمحاذاة الحديقة العامة، تقول صاحبتها: "أنا انهيت دراستي الثانوية ولم أستطع مواصلة الدراسة الجامعية وفكرت بخوض غمار عمل أديره بنفسي وكان (الشايخانة) كوني أجيد صنع الشاي على الفحم وقد لاقى المشروع نجاحاً جعلني استمر فيه ويغطي نفقاتي الحياتية".
 

 
في وسط شارع مولوي تجذب انتباهنا مكتبة كبيرة تديرها شابة تعرف الكثير من المعلومات عن الكتب الكوردية والعربية التي تضمها مكتبتها وعناوين الكتب ومؤلفيها، ذلك ان السليمانية تزدحم بالمكتبات منذ عقود بعيدة. وللنساء، الشابات منهن خاصة، في السليمانية مشاريعهن ومساهماتهن في ميادين العمل، فاذا تمشيت في شارع أورزدي، القريب من دار الحاكمية القديم، لا بد من أن تشرب العصير الطبيعي في محل يقدم كوكتيل من العصائر الطبيعية تملكه شابتان، كما نجد الشابات صاحبات محلات ملابس أو احذية نسائية أو نادلات في المقاهي والمطاعم.
 
"نفرتيتي" الكوردية
 
الشاعرة والكاتبة المصرية فاطمة ناعوت، التي فاجأت ضيوف مهرجان كلاويز بارتدائها الزي النسائي الكوردي كتبت تحت عنوان "هنا السُّليْمانية … الكُردية ... البهيّة"، وهي تتغزل بالمدينة وأهلها قائلة: "من جديد في هذه البقعة الجميلة من العالم، وبين ذلك العِرق النبيل الذي كافح من أجل الحفاظ على هُويته ولغته وأصالته رغم الويل الذي واجه، والعذابات التي خاضها.. من جديد في كوردستان، بين أصدقائي الأدباء والشعراء الكورد، الذين يتقنون فُصحى العربية على نحو يفوق كثيرين من الناطقين بها، وهي بالنسبة لهم لغةٌ ثانية، تالية للغة الكُردية الأم. أكتبُ إليكم من مدينة السُّليمانية العراقية، وسَلْ كلَّ مَن تعامل مع الشعب الكُردي، يخبرك عن مدى تحضُّرهم وموسوعية ثقافتهم، إلى جانب امتلاكهم ناصيةَ اللغة والإبداع".
 

 

 
مضيفة: "مدينة السليمانية هي محطُّ الشعراء والعلماء والفنانين والمؤرخين. ولا عجبَ وقد جمعت موهبة كُردستان وعراقة العراق. ولهذا فعشقي للكُرد ليس وحسب لأصالتهم، بل كذلك لكفاحهم ضد الاندثار والذوبان ودفعهم من دماء شهدائهم لاسترداد الهوية وإقرار حق الوجود، مع حفاظهم على طاقة المحبة والسلام. وتلك معادلةٌ صعبة. وليس هذا وجه الشبه الوحيد الذي يربط بين المصريين والكُرد، بل ثمة روابطُ تاريخيةٌ أخرى. فيخبرنا التاريخُ أن نفرتيتي من أصول كُردية، وكذلك عائلات خان والتيمورية، وأيضاً أمير الشعراء أحمد شوقي، والعقاد كانا من أصول كردية".
 
مدينة الليل
 
مقاهي السليمانية التي تنتشر في شارع سالم وتمتد حتى الجامع الكبير، هي الجسر الذي يوصل أوان النهار بأوان الليل، حيث تتنوع هذه المقاهي حسب زبائنها وتشجيع روادها لناديي (ريال مدريد)، و(برشلونة)، وكانت مناسبة فوز (ريال مدريد) بكأس أبطال أوربا، لانطلاق مهرجان عفوي قطع حركة السير ليلاً في شارع سالم، من قبل جمهور النادي.
 

 

مع ساعات الليل الأولى نتجه إلى جبل أزمر الذي تبدو مدينة السليمانية من فوق قمته مثل ثريا متألقة باضوائها.. وعندما تتجاوز الساعة منتصف الليل لا بد من الذهاب إلى منطقة الجامع الكبير، وسط مدينة السليمانية، فالحياة هناك تبدأ في مثل هذا الوقت وحتى الفجر، إذ تنتشر عربات تقديم اللحوم والكباب الشهير المشوي على الفحم والذي يعد احدى العلامات السياحية للمدينة التي لا يغفو أهلها.
 

 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب
 

آخر الأخبار

شعارا العراق وحكومة إقليم كوردستان

أربيل تأسف لـ "التستر والتهرب" من المسؤولية تجاه "التجاوزات الأمنية" بحق إقليم كوردستان

أعربت وزارة داخلية إقليم كوردستان عن أسفها لما وصفته بوجود نوع من "التستر والتهرب" تجاه التجاوزات الأمنية التي تستهدف الإقليم، في وقت يُعوّل فيه على الحكومة الاتحادية اتخاذ الإجراءات اللازمة عند تعرّض إقليم كوردستان أو أي منطقة أخرى في العراق لأي تهديد.