رووداو- دهوك
القصة 26
هروب هدية كان أشبه بالركض في نفق لا أثر لنهايته، فقد أمسك المسلحون بها دون بذل أي مجهود يذكر، والأسوء من ذلك كان إعادتها إلى مالكها، أبو محجل العبوس والغضبان دائماً، انهال على جسدها ضرباً بالحزام، لقد كانت هدية معتادة على آلام الضرب والتعنيف، وكانت سعيدة بأنها استطاعت وضع ابنتها ذات الشهرين على البساط المُغبَر، قبل أن تتحول الأسواط إلى أفاعي تلتف حول جسدها الهزيل.
أبو محجل: من الذي ساعدكِ ووضع لكِ خطة الهروب؟
هدية: هربت بنفسي، لقد هربت من ظلمك.
أبو محجل: يجب أن تتوبي.
هدية: سأهرب مجدداً إذا سنحت الفرصة لي ألف مرة، أريد أن أتحرر، سأشتري حريتي حتى إذا كان الثمن روحي.
أبو محجل: أيتها الساقطة العاهرة، هل تهربين مني أنا؟
هدية: ليس منك فقط؛ بل من كل الذين ستبيعني لهم غداً أو بعد غد، كلكم سواسية، لقد دمرتم حياتي وحياة الآلاف مثلي، لماذا لا تقتلني وتخلصني مما أنا فيه؟
ظلت هدية تذوق أقسى أنواع العذاب في ذلك البيت لـ20 يوماً، وكانت تنتظر فرصة أخرى للهروب، وقد كان أبو محجل وزوجته يقيمون في الطابق العلوي وهم في الطابق الأرضي.
هدية: مريم؛ تعالي لنهرب.
مريم: اسكتي، لا تزال آثار السياط باقية على جسدكِ.
لكن هدية كانت مصرة على الفرار.
"لقد حزمنا الملابس ومستلزمات طفلتي وخرجنا من منزل أبو محجل، لقد طرقنا باب أحد البيوت وأخبرناهم بكل شي، قال رب المنزل إنه لا يستطيع إيواءنا، لكنه أشار علينا بالذهاب إلى مرآب الحسكة، وأعطانا أجرة السيارة وبعض الطعام".
كانت السماء تمطر، يبدو أن أبو محجل وعائلته كانت تغط في النوم في ذلك الوقت، لأنه لم يكن هنالك أحد يتعقب خطى هاتين السيدتين الإزيديين، لوحتا لسيارة أجرة بالوقوف لإيصالهما إلى مرآب الحسكة، لكن السائق أخبرهما أن عليهما العودة غداً قبل طلوع الشمس لأنه لا توجد اليوم رحلة تنطلق إلى الحسكة، كانت سيارة الأجرة التي أوصلتهما ما زالت في المرآب، فسألتا السائق إن كان بإمكانه إعادتهما، فأومأ بالموافقة.
أنا والطائرات
"ما هي الوجهة التي نقول للسائق أن يوصلنا إليها؟"، كررت هدية هذا السؤال على مريم عدة مرات، فيما تحدثت مريم مع السائق باللغة العربية وطلبت منه أن يأخذهما إلى منزله، بزعم أنهما من أهالي الحسكة وأنهما لم تتمكنا من العودة لعدم وجود سيارة تقلهم.
وافق السائق، وقد قضتا ليلتهما في منزل سائق سيارة الأجرة دون خوف، وفي الصباح الباكر أخذهما إلى المرآب، ويبدو أنه كان أذكى من أن تخدعهما السيدتان المختطفتان، تقول هدية: "لا أعلم إن كان قد زود داعش بالمعلومات أم لا، لكننا رأينا مسلحين من داعش واقفين هناك بملابس مدنية وقاموا بمناداتنا".
وهناك زجوهما في سيارة لم تتوقف حتى عتبة منزل أبي محجل، كانت هدية تنتظر أن يضربها بـ"الكيبل"، لكن على عكس المرة السابقة لم يحرك ساكناً، واكتفى بإخبارهما ببرود بأنه سيبيعهما، وبعد ظهيرة ذلك اليوم باع مريم، وفي اليوم التالي باع هدية لمسلح مصري يدعى أبو حمزة المصري.
كان أبو حمزة يحجز فتاة إزيدية تدعى "زيرين" في شقة مكونة من طابقين في الرقة وبعد 24 يوماً نقل هدية وزيرين إلى مكان آخر، وبعد أربعة أيام، باع زيرين، وأهمل هدية وابنتها: "كان حليبي ينقطع بين الحين والآخر، وكان أبو حمزة يتفقدنا مرة كل أربعة أيام".
لم يكن أبو حمزة يرغب بالبقاء مع هدية، بل كان يريد أن يكسب منها المال، لكنها لم تكن قادرة على رعاية نفسها حتى، ليبيعها لمصري آخر، يدعى أبو علاء، وأغلق عليها الباب.
كان أبو علاء يسترزق من الصواريخ التي كانت الطائرات تلقيها، فبعد انقشاع غبار القصف وانهيار مبنى آخر، كان يستقدم هدية لإزالة الأنقاض والحصول على المال في المقابل، رغم عدم قدرة جسدها النحيل على القيام بهذا العمل الصعب.
"لقد قتلتني بالكامل؟ انظر، لا أقوى على الوقوف، هل تريد قتلي بهذه الطريقة؟"، أراد أبو علاء إسكاتها، فقال: "ستذهبين غداً إلى إحدى القرى، هنالك منزل نظفيه، هناك القصف أقل".
في تلك القرية أجبرها على تنظيف منزلين، وحينما أدرك أنها خائرة القوى تماماً، قال لها: بقي منزل واحد فقط نظفيه لنقيم فيه، "وما إن انتهيت حتى أغلق علي باب المنزل وذهب".
بجانب دجلة
كانت حياة هدية وطفلتها أشبه بالجحيم، حيث لم تكن المياه صالحة للشرب، ولم يكن حليب ثدييها كافياً لإرضاع الطفلة، لذا كانت تبحث عن العصائر كبديل.
"بعد 12 يوماً، انقطع عنّا الطعام، وفي اليوم التالي تعرض مبنى لداعش بالقرب منا للقصف وسويّ بالأرض، وأدى القصف لكسر نوافذ وأبواب المنزل الذي كنا نقيم فيه، لقد بكيت كثيراً لشدة وحدتي أنا وابنتي".
جاء مسلح من داعش إلى هدية فجأة وقال إنه من طرف أبو علاء، وأعطاها عصيراً لإطعام ابنتها.
وفي اليوم التالي ظهر أبو علاء، لكنه كان قد غير اسمه إلى عبدالسلام، وأعاد هدية إلى الرقة، وأخبرها أنه يفكر في بيعها، لأنه سيذهب إلى العراق، توسلت هدية به كي لا يبيعها ويأخذها معه إلى العراق، أملاً في فرصة للاتصال بأحد وإخبار أهلها بأنها ما زالت على قيد الحياة.
وصلا إلى الموصل، وتحديداً إلى مضيف لداعش قرب نهر دجلة مكتظ بمسلحي داعش وأناس آخرين، وفي اليوم الخامس لوصولهم، اصطحب عبدالسلام معه رجلاً ضخم البنية أسمر اللون يرتدي زياً عربياً، فطلب من هدية نزع الخمار لرؤيتها بشكل أفضل، كان الغضب يتطاير من عينيها: "وما شأنك بوجهي؟"، ضحك الرجل وطلب منها أن تأتي معه إلى البيت، إنه بشير الجزراوي، سعودي الجنسية.
زوجة الجزراوي كانت ترفع المائدة، حينما تساءل زوجها: "هل تستحق هذه دفع المال لشرائها؟"، وحينما استوعبت ما ينوي زوجها فعله، استشاطت غضباً.
رفضها داعشي كوردي
حينها طرد الجزراوي زوجته من الغرفة، وأزاح قناع البشاشة عن وجهه، ليمسك عصا غليظة ويضرب بها هدية حتى انكسر العصا في يده.
"جاء بأحد لي، نظر إلي لكنه لم يشتريني، ثم أتى الثاني وكان كوردياً سورانياً، تحدث معي بعض الكلمات بالكوردية لكنه لم يشتريني أيضاً، ثم جاء عراقي يدعى علاء، اشتراني وأخذني إلى مكان فيه ثلاث فتيات إزيديات هن: لبنى، نازو، سيفانا، لقد روين لي قصصهن، وبعد ذلك وحينما نزع عني ثيابي ورأي جسدي المليء بالرضوض والكدمات قال إنه لا يريدني".
"لا أحد يريدكِ، سأعيدك إلى الرجل الذي جاء بكِ من سوريا"، توسلت به أنه لا يفعل ذلك: "مستعدة للقيام بأي شيء من أجلك، بدون ممارسة الجنس معي"، لكنها لم تلقَ آذاناً صاغية.
وبعد يومين أخذها عبدالسلام إلى شقة وبقوا فيها ثلاثة أيام، قبل أن تمطر طائرة، ستة صواريخ عليهم، وتغرق المنطقة في أهوال القصف.
عندما فتحت هدية عينيها شاهدت الضوء المنبعث من شاشة هاتف عبدالسلام: "ظننت أنه قتل، لكن حينما اقتربت منه رأيته يتحرك، خرجنا على ضوء الهاتف، وهناك رأيت عدة جثث ملقاة على الأرض".
أوصلتهم سيارة إلى أقرب مستشفى، وبعد تلقي العلاج، نقل عبدالسلام هدية وابنتها إلى منزل مهدوم، نظفته وبقوا فيه ليومين.
"لنعد إلى سوريا"، قالها عبدالسلام بنبرة يائسة، لم تكن هدية قد وجدت فرصة للاتصال بأقاربها، عادوا إلى الرقة، وأقاما في منزل بالقرب من مستشفى "في اليوم التالي، حول القصف المستشفى إلى ركام، ودمر منزلنا، بالكاد أوصلنا أنفسنا إلى حي آخر، ذهبنا إلى منزل أحد رفاقه، كانت وجوه كل من هم هناك مخطوفة من الخوف".
ابني لا يعرفني
أحدهم اقترح الذهاب إلى قرية كسرى، وفي المنزل الذي كان فيه رجلان، عرض عبدالسلام بيع هدية، لكنها توسلت إليه أن يقتلها بدلاً من أن يبيعها.
في ذلك المنزل صدمها مشهد لم تتحمل رؤيته، كان طفل أمام باب الدار يرتدي ملابس داعش السوداء وينظر أمامه بصمت، حدقت هدية فيه، فصرخت في داخلها: "هذا ابني، هذا فلذة كبدي الذي أبعدوه عني"، فاحتضنه، كانت هدية كما هي لم تتغير لكن ابنها كان يحمل نظرات مختلفة، لم يكن يشم منها رائحة أمه ولم يكن قادراً على الحديث باللغة الكوردية.
"لقد حركت دموعي قلبه، فقبّل يدي، وطلب مني ألا أبكي، فرح بأنه أصبح لديه أخت جديده، لكنهم لم يسمحوا لنا بالبقاء معاً لمدة أطول وأخذوه مني".
رؤية ابنها مرة أخرى، نكأت جراح هدية وجعلت دموعها تسيل بغزارة، أخبرها عبدالسلام بأنه سيأخذها إلى امرأة إزيدية حتى لا تحزن أكثر، وبعد البقاء في المنزل لـ10 أيام، اصطحبها إلى مكان فيه "سبيتين" من سنجار.
وخلال تلك الفترة التقت بابنها مرتين "لكنهم لم يسمحوا لنا بالحديث لوحدنا".
باع عبدالسلام، هدية إلى رجل تونسي، الذي أخذها إلى معدان، وبعد أن ظل معها شهرين، سألها: "هل تريدين أن أعيدك إلى مالككِ الأول؟"، لكن هدية التي استنشقت فرحة رؤية ابنها، ردت بالنفي، فأخذها إلى منزل داعشي آخر يدعى "أبو بكر"، كان كوردياً من السليمانية ويتحدث بالسورانية، كان في منزل أبو بكر "سبية" أخرى من سنجار، بقيت هدية في منزله 15 يوماً، فاشتراها مسلح آخر، وما أن خرج من المنزل، سألها:
- هل تعرفين لبنى؟
+ نعم أعرفها.
- إنها الآن في دهوك. لقد ذهبت.
+ كيف نجت؟
- سأنقذكِ أنتِ أيضاً بشرط أن تطيعيني فيما أقوله لكِ.
+ أتوق للحرية بفارغ الصبر.
ذهبا إلى منطقة الباب في حلب، وفي اليوم التالي جاء شخصان فطلب منها أن ترافقهم، فأخذاها إلى منزل وبقوا فيه أربعة أيام، ومن ثم نقلوها إلى منبج وقال لها سنأخذك إلى منزل لكن عليكِ ألا تتفوهي بكلمة واحدة، في الليل قصفت الطائرات محيط المنزل بكثافة، فنقلوها إلى مقر ومن ثم أمام منزل آخر قالوا لها: "اطرقي باب هذا البيت وما أن يفتحوه ادخلي فيه، إنهم بانتظارك"، وفي اليوم التالي أوصلها صاحب المنزل إلى الحسكة بالسيارة، وفي مقر وحدات حماية الشعب بدلت ملابسها وأعيدت إلى خانة سور في سنجار.
ترجمة وتحرير: شونم عبدالله
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً