رووداو - أربيل
الناشطة العراقية زينب السلبي، ناشطة دولية ومؤسسة ورئيسة منظمة النساء للنساء الدولية، مهمتها الأساس توفير أجواء مناسبة للعيش والاستقرار والطمأنينة للنساء الناجيات من الحرب.
تنتمي السلبي إلى عائلة عراقية معروفة، كانت لها مكانة خاصة لدى النظام السابق، فقد كان والدها طيار صدام حسين الخاص. هربت السلبي من قبضة النظام في العام 1990 وقصدت الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك ألفت كتابها الموسوم "بين عالمين: الهروب من الطغيان: العيش في ظل صدام" الذي يحكي مأساة النساء العراقيات. القصة تروي أحداث فترة سبقت وصول صدام إلى سدة الحكم، وكيف كان العراق حينها بلداً متحضراً منفتحاً، ثم تحول بعد ذلك إلى بلد متخلف.
الحوار الآتي أجرته الصحفية (عائشة آرمان) ونشرته جريدة (حُرييت) التركية، مع زينب السلبي، بعد ترجمته إلى العربية:
آرمان: كيف تشعرين وبماذا تفكرين عندما تستعيدين ذكريات عهد صدام وتتراءى لك تلك الذكريات؟
زينب السلبي: أشعر بالخوف! الخوف من السلطة تمتد آثاره إلى أعماق الإنسان، ثم يلف المرء ويقتاده نحو الفناء. ينهك حياة المرء وأسلوب معيشته. يجعل المرء يمرض من جميع الجوانب.
آرمان: كانت عائلتك ذائعة الصيت، تحدثي عنها...
السلبي: جميع أفراد عائلتي ذوو شهادات عليا، يتقنون عدداً من اللغات. درس والدي الطيران في سكتلندا وتخرج فيها، كان الطيار الخاص لصدام. والدتي مثقفة جداً. عموماً، كانت عائلتي اجتماعية جداً ومعروفة على مستوى البلد.
آرمان: كيف تعرفت إلى صدام؟
السلبي: كنت أراه عماً لي، وأناديه عمي. كنت أظن أن صدام هو الملاك الوحيد على الأرض، وأنه ينفع العراقيين كثيراً. هكذا هو الدكتاتور أينما كان، لا يقترف السيئات وحسب، فقد كان يدعم العلوم والفنون، وجعل التعليم إلزامياً، وكان كل من يمتنع عن إرسال أولاده إلى المدارس يعاقب بالحبس ستة أشهر. وأسس صدام هذا نفسه إمبراطورية للخوف.
آرمان: كيف تصفين هذا الخوف؟
السلبي: لم يكن شيئاً تمكن رؤيته، كان مثل غاز سام يتسرب إلى كل بيت وكل عائلة. كان يقتاد البشر نحو الموت رويداً رويدا.
آرمان: ألم يكن ثم من يتصدى له؟
السلبي: كانت ثم اعتراضات بسيطة، لكنها لم تكن مجدية، لأن صداماً كان يعتبر نفسه المالك لكل شيء: الدولة، المواطنين، النساء والأطفال.
آرمان: كيف تقيّمين شخصية صدام حسين؟
السلبي: شخصية كاريزمية. كان له تأثير مباشر على كل من يعرفه عن قرب. كانت لديه موهبة عجيبة في السيطرة على مشاعر الناس لصالحه، لكنه قتل أقرب أصدقائه وابن أخيه. كان يعاملك اليوم ببشاشة وفي الغد يعمل على قتلك. كانت كلماته وخطاباته بخصوص المرأة براقة، لكنه لم يعمد إلى أي إصلاح في القوانين المرتبطة بالمرأة. كان يحب أن يمنحك حقوقك على أنها مكرمة منه وليست حقاً طبيعياً لك. كان يتدخل حتى في المشاكل الاجتماعية، من طلاق وتوريث للمرأة. كان يرى نفسه أعلى من كل القوانين. كان مقتنعاً بأن الحل لكل شيء يجب أن يأتي من عنده.
آرمان: ألّفت كتابك لتبيّني للرأي العام كيف تكون الحياة في ظل نظام دكتاتوري؟
السلبي: الأمر ليس بهذه البساطة، فقد كانت علاقات عائلتي معه سراً أبدياً، ولم نكن نتحدث أبداً عن تلك العلاقة، وقد أبلغوني بأن هذا السر لا يجوز البوح به أبداً.
آرمان: لكن الجميع كان يعرف ذلك!
السلبي: نعم، كانت صور والدي مع عدد من كبار رموز ذلك النظام، تظهر بارزة كل يوم في العناوين الرئيسة للجرائد. كنا كعائلة كبيرة، وكان علينا الحضور في كل اجتماع ومناسبة، كان علينا أن نمثل العراق.
آرمان: لماذا؟
السلبي: خرج صدام من رحم ماض معقد جداً وخطير. كان قد تعرض للاعتداء، وكان قد تعرض باستمرار للضرب والطرد من البيت من جانب زوج أمه، ولم يلتحق بالدراسة إلا عندما بلغ التاسعة من عمره. لم تكن أسرته تتمتع بخلفية عسكرية أو سياسية رغم أنها كانت عائلة أصيلة. كان صدام يرى أننا عائلة ذات أصول عريقة وأننا نعكس الوجه المشرق القوي للعراق، وكان هذا السبب الرئيس الكامن وراء بقائنا واستمرارنا معه. كنا نظهر إلى جانب صدام ممثلين لشريحة العوائل العراقية النبيلة الرصينة، لكن السبب الذي دفعني لتأليف هذا الكتاب أعمق من هذا بكثير.
آرمان: وما هو؟
السلبي: كناشطة، وخلال فترة عملي مع الناشطات الدوليات، كنت أدعو دائماً إلى "أن لا تخفي إحداهن أسرارها"، بينما كنت أكتم أسراري. وبينما أنا في الكونغو تعرفت إلى سيدة وإبنتها تعرضتا للاعتداء، فقالت لي السيدة وهي تبكي بحرقة: "لو أني أستطيع ذلك، لحدّثت العالم كله عن قصتي، ولفعلت ذلك بكل تأكيد، لأنه سيكون سبباً قد يحول دون تعرض نساء أخريات لما تعرضنا له أنا وابنتي". ما أن نطقت السيدة بهذه العبارة، حتى انتابني شعور غامر بالخجل، فأنا لست أمية كما أني لست معدمة، وكل شيء متوفر لدي، كما أنني معروفة وذات مكانة اجتماعية، ومع ذلك تنقصني الشجاعة لأروي قصتي، لأنني كنت أخجل. تزوجت شخصاً لم يكن يروق لي أبداً، والدتي هي التي زوجتني، كما أني كنت قد تعرضت للاعتداء. كنت في العشرين من العمر، أحمل مبلغاً بسيطاً جداً، فقد نسيت مالي في البيت وشعرت بحرج كبير، لكني أخفيت تلك الحقيقة سنوات عدة. بينما كانت تلك السيدة تروي حقيقة ما حصل. كان أمامي خياران، أن أظهر بمظهر مختلف وأخفي حقيقتي تحت لباس جميل، أو أن أرفع صوتي وأروي ما مرّ بي من أحداث أسوة بهذه السيدة المنكوبة.
آرمان: فوقع اختياركم على الثاني من الخيارين!
السلبي: نعم. لكنه كان صعباً جداً! فقد كانت عائلتي تضغط عليّ باستمرار كي لا أفعل ذلك. لذا ظهر كتابي وكأنه عرض لكافة الأحداث والوقائع والتجارب التي شهدتها أو شعرت بها. كسرت جدار الصمت، وقصصت قصتي وقصة عائلتي، وثم أمر آخر، لو أنني لم أقدم على ذلك، لكان التاريخ سيروي القصة وفقاً لهواه وإرادته. فبينما كنا أناساً نخاف صداماً، ما كنت لأتحررت أبداً لو لم أكتب هذا الكتاب.
آرمان: إذا ما عدنا بك إلى تلك السنين، ما هي التغيرات التي طرأت على والدتك؟
السلبي: كانت والدتي صلبة جداً. وكانت تقول لي باستمرار "زينب، ابتسمي دائماً، لكي تبتسم لك الدنيا". في السبعينات والثمانينات، كان بيتنا يشهد حفلات تقام باستمرار. كانت والدتي تتميز بكاريزما قوية، لكنها كانت منهارة من الداخل، مع الأسف. كانت تميل للانتحار باستمرار وقد حاولت ذلك عدة مرات. كانت كسجين في قفص من ذهب. كنا نعيش حياة باذخة ذات مستوى عال، لكننا كنا نعيش قلقاً وخوفاً مستمرين! فصدام قتل بدون تردد أقرب أصدقائه لمجرد مخالفته إياه الرأي. كان قربنا من صدام يجعل الناس يروننا مثله، وهذا ما جعلنا معلقين بين العالمَين.
آرمان: وماذا عن والدك؟
السلبي: كنت غاضبة على والدي فترة طويلة، لأننا كنا نسافر باستمرار، وكانت والدتي تتوسل إليه لكي نهرب وننجو بأنفسنا، إلا أنه كان يرفض طلبها باستمرار. لم يرضخ لطلبها أبداً. لكن، تبين لي بعد سنوات أن هناك أسباباً كثيرة ومبررات تمنعه من الهرب ومن إنقاذنا.
آرمان: كيف كانت عودتكم إلى العالم العربي؟
السلبي: بعد مرور حوالى عشرين سنة، قررت العودة. افتتحت مكتباً في العراق، واجتمعت بالنساء العراقيات وكانت لي لقاءات مستمرة. كنت أنظم لقاءات تلفزيونية مع النساء العراقيات، وكنت دائماً أشجع النساء ليصبحن رأس الحربة في التغيير والتقدم في المنطقة. كانت أوبرا وينفري تدعمني، واستضفتها في برنامجي.
آرمان: أشرت في كتابك إلى أن بداية الحياة مع صدام كانت في السبعينات، وأن الثمانينات كانت فترة الاضطرار لمعايشة صدام، وكانت التسعينات فترة دفع ضريبة قاسية بسبب صدام. هل شهدت هذه العقود جميعاً؟
السلبي: نعم، وقد دفعت ضريبة قاسية. كانت السبعينات فترة حرية، وغابت تلك الحرية مع حلول الثمانينات، لكن الرخاء كان قائماً بعد. كان صدام يكافئ الناس بالمال، البيوت والسيارات... إلخ. في التسعينات، غاب الرخاء أيضاً لأن النظام كان يمضي نحو نهايته. فظهرت الأفكار الدينية والأحزاب السياسية. وبعد سنوات من الغيبة، لما عدت إلى العراق وجدته يتراجع نحو التدين والتمذهب بدلاً عن أن يتحول إلى العلمانية. وجدت الناس منقسمين على جبهتين، وكان صدام يظهر كوصمة سوداء تلطخ قلب كل شخص.
آرمان: وماذا تقولين عن الهجوم الأمريكي على العراق؟
السلبي: في البدء، ظن الجميع أن أمريكا ستداوي كل الجروح، وحينها أجريت لقاء صحفياً مع سيدة في مدينة كربلاء، وسألتها "الحياة الآن أسوأ، أم الحياة في ظل صدام؟" كان جواب تلك السيدة درساً كبيراً لي، حيث قالت: "كان صدام يوفر لنا الأمن والأمان، لكنه كان يحرمنا من الحرية. أمريكا منحتنا الحرية، لكن لم يعد هناك أمن ولا أمان. ولو خيرت بين الأمان والحرية، فلا شك أني سأختار الأمن والأمان".
آرمان: ماذا حدث بعد صدام؟
السلبي: انهار البلد تماماً. كان العراقيون يتحسرون على أيام صدام. وفي تلك الأثناء ظهر داعش ليزيد الطين بلة. مع ذلك لا أزال غير متشائمة. عراق اليوم يختلف كثيراً عن عراق أيام صدام. العراق له خطابه الآن، وهناك محاولة لتشكيل كيان ذي قيمة.
آرمان: ما الذي جعل والدتك تريد تزويجك في سن مبكرة؟
السلبي: رفضت لسنوات قبول اعتذار والدتي. كانت أمي مثال المساواة بين الجنسين. فقد دفعتني وأنا صغيرة دفعاً لمطالعة أكبر عدد من الكتب عن المرأة العصرية وعن المساواة بين الجنسين. كانت تمسك بذراعي وتهزني وتقول "لا تسمحي أبداً للرجل أن يؤذيك، لا تدعيه يعتدي عليك بنية الانتقاص من كرامتك". كانت في نفس الوقت تمنعني من تعلم الطبخ وتنظيف البيت. لم تكن تؤمن بأن عليّ أن أقوم بتلك الأعمال لمجرد كوني امرأة. لكنها في نفس الوقت ضغطت عليّ وأنا في التاسعة عشرة لأتزوج شاباً عراقياً يعمل في مصرف أمريكي. بكت، توسلت، استخدمت كل ما أوتيت من وسائل حتى حققت هدفها. أسرعت في تزويجي واستقر بي المقام في أمريكا.
آرمان: وبعد ذلك؟
السلبي: بعد انتهاء مراسم الزواج، عادت عائلتي، واحتل صدام الكويت في تلك الفترة وأغلقت الحدود. انقطعت اتصالاتي مع عائلتي تسع سنوات. كنت غاضبة جداً على أمي. لقد دمرت حياتي. كان زواجي على الورق فقط. الشخص الذي تزوجته كان يؤذيني ويعذبني يومياً ويعتدي علي، وكان عنيفاً عند ممارسة الجنس.
آرمان: كيف نجوت بنفسك؟
السلبي: هربت! كنت أرتدي أزياء غالية الثمن، لكني لم أكن أحمل أية أموال معي. راجعت مكتب الهجرة وقدمت جواز سفري لهم، وسألت عن طريقة للعودة إلى بلدي، وأبلغتهم بأني فقدت الاتصال ببلدي. طلبت منهم مساعدتي وإرشادي. السيدة التي كنت أحدثها، تعاطفت معي وساعدتني من خلال منحي إجازة عمل. هكذا بدأت حياة جديدة من الصفر وأنا في العشرين من العمر. تزوجت للمرة الثانية.
آرمان: ماذا عن أمك؟ هل التقيتها مرة أخرى؟
السلبي: نعم. جاءت إلى أمريكا بعد تسع سنوات. سألتها "لماذا فعلت بي هذا؟" وكانت حينها مريضة جداً. كانت قد فقدت صوتها، فكتبت لي "فعلت ذلك كي أحميك". بعدها حدثتني عن الضغوط التي كانت تتعرض لها، فسامحتها، لكنها للأسف توفيت بعد ذلك بأيام.
آرمان: كانت والدتك قد نصحتك بعدم النظر في عيون صدام مباشرة، لماذا؟
السلبي: كانت والدتي تقول "امسحي كل شيء من ذاكرتك، كل شيء، لأن صدام حين ينظر في عينيك يقرأ كل مشاعرك".
كانت والدتي تنصحني باستمرار بعدم النظر في عيون صدام مباشرة. كان ثم خوف كبير من صدام يسيطر على والدتي، وكانت تنصحني دائماً وهي تقول "إذا ضحك صدام اضحكي، وحتى إذا بكى ابكي معه".
آرمان: كيف كانت أمك تستطيع إقامة الحفلات والرقص وهي تعاني كل ذلك الخوف والقلق؟
السلبي: على العكس تماماً. كانت تفعل ذلك لدفع الظنون عنها، وكانت تفعل ذلك كرد فعل على سطوة الرجال. كانت تقضي أغلب وقتها مع النساء. وكان هناك عدد من المومسات في كل واحدة من تلك الحفلات، وكانت أمي تتعمد ذلك لينشغل الرجال بالمومسات ويبتعدوا عن ممارسة العنف ضد زوجاتهم.
آرمان: متى أسست منظمة "النساء للنساء"؟
السلبي: في السنة الثالثة من سني إقامتي في الولايات المتحدة. عندما كنت في العراق، كنت ألتقي النساء العراقيات. وعندما كنت في أمريكا، طرق سمعي للمرة الأولى الحديث عن معاناة النساء البوسنيات في المخيمات. فكرت في أن الوقت قد حان لأقدم شيئاً للمرأة. لم أكن حرة وأنا في العراق، وكان علي أن أفيد من الحرية التي توفرت لي. في العراق لم أكن حرة، لكنني في أمريكا أتمتع بحرية التعبير، وكان عليّ أن أستغل هذه الحرية. عندما أسست هذه المنظمة، تعرضت للسخرية من الجميع، لأنني لاجئة عراقية في أمريكا، وكذلك مسلمة والانجليزية هي لغتي الثانية. إضافة إلى ذلك كنت لا أملك من المال ما يكفي لإدارة المنظمة. جمعت أول الأمر المال لـ32 امرأة وذهت إلى الحدود الكرواتية ووزعت المال على اللاجئات البوسنيات. لكن بعد اثنتي عشرة سنة بت أستطيع توفير مساعدة بمليون دولار ساعدت بها الآلاف من النساء المنكوبات، من رواندا، كونغو، كوسوفو، العراق، أفغانستان والعديد من الدول الأخرى. ولم تقتصر مساعدات المنظمة على توزيع المال، بل تعدت ذلك إلى توفير فرص العمل وزرع الأمل في النفوس.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً