رووداو ديجيتال
صدرت حديثاً عن منشورات رامينا في لندن، السيرة الذاتية للروائيّ الكوردي السوري هيثم حسين بعنوان "هكذا عشتُ الجحيم"، وهي عمل أدبيّ يسرد فيه تجربته الحية في مواجهة حادثة الاحتراق الذي تعرّض لها خلال خدمته العسكرية الإلزامية في سوريا نهاية القرن المنصرم، والذي خلّف آثاراً جسدية ونفسية امتدت لعقود، وشكّلت منعطفاً حاسماً في حياته الشخصيّة والأدبية.
يتألف الكتاب من 220 صفحة من القطع المتوسط، ويُعدّ الثالث من مشروع أوسع للكاتب، سبق أن عبّر عنه في كتابين سيرين سابقين، هما "قد لا يبقى أحد" و"العنصريّ في غربته". تصميم الغلاف والتنسيق الداخلي: جونا ليونارد. يهدي الكاتب كتابه إلى كل من سانده وقدم له الرعاية، إلى عائلته وأصدقائه وإلى "كل من عانى ويعاني من آثار الحروق".
وفي تصريح خاص لشبكة رووداو الإعلامية يحدثنا الكاتب هيثم حسين عن عمله الجديد الذي يتناول حادثة حريق حقيقية حصلت معه عام 2000 أثناء تأديته الخدمة العسكرية الإجبارية: "عدت في "هكذا عشت الجحيم"، إلى بداية الاحتراق، إلى ربع قرن، إلى نهايات الشهر الثاني عشر سنة 2000 في حمص حين كنت أخدم الخدمة العسكرية الإلزامية برتبة رقيب.. مضى الحادث لكنّه حيّ بكلّ تفاصيله في داخلي ووجداني. لم أختر الجحيم كعنوان رمزيّ، وضعته كمكان حقيقيّ عشت فيه وعبرته".
"لا شيء سوى أثر الحريق"
يتنقل السرد بين مشاهد القطعة العسكرية، المستشفيات، المواجهة مع العائلة والأصدقاء والمجتمع، وبين تأملات شخصية في العزلة، في النظرات، في تطهير الجروح والندوب، في المرآة التي لا تكفّ عن إعادة إنتاج ما ظنّ أنه اندثر. لا يعرض حسين نفسه كضحية ولا كبطل، إنما ككائن معلّق بين حريق لم ينطفئ، وصوت لا يريد أن يُدفن. يقول حسين لرووداو: "حاولت أن أرصد التغيّرات التي لحقت بي، لا فقط في شكلي أو صحّتي، إنّما في علاقتي بالزمن، بالآخرين، بالشفقة، بالصمت، بالإشارات التي تصدر ممّن أحبّوني ولم يعرفوا كيف يتعاملون مع النيران التي شوّهت جسدي. لم أضع نفسي في موقع الضحية، ولا في موقع البطل الذي تجاوز المحنة، كتبت وأنا أتساءل عمّا يحدث للإنسان حين لا تعود له ملامحه، حين يُعاد تكوينه أمام مرآة لا تُظهر شيئاً سوى أثر الحريق".
يمتزج في هذه السيرة الخاص بالعام، ويتقاطع الجسد المحترق مع جسد الوطن المقهور. يحضر القمع العسكري، التمييز، المراقبة، وكأن السيرة الفردية ما هي إلا صورة مكبّرة لمأساة سورية مستمرة حتى اليوم. وبينما يتأمل حسين في الحروق الجسدية، نراه يتأمل في الوقت نفسه في احتراق المعنى، وتشوّه القيم، وتآكل اللغة التي لم تعد قادرة على التستّر. يقول هيثم في هذا الصدد: "حين قرّرت كتابة سيرتي "هكذا عشت الجحيم"، لم أكن أستعيد الحريق بوصفه حادثاً ماضياً، كنت أستجوبه بصفته يقيناً حيّاً يسكنني. الكتابة كانت مواجهة مع الذات والتاريخ والذاكرة والندوب، مع الأسئلة التي لم أملك ترف طرحها حين كنت داخل اللهيب، ولا حين كنت ملفوفاً بالشاش في المستشفيات، ولا في المراحل اللاحقة التي ظللت منشغلاً بمكابداتي ومحاولاتي للاستشفاء والاعتياد على الحياة بجسد محترق".
يضمّ الكتاب بين دفتيه مشاهد تفصيلية عن الحادثة: كيف اشتعلت الخيمة، كيف التصق جسد الكاتب هيثم بالحديد والنار، كيف كان الجنود يجرون مذعورين، كيف كان الصراخ يُخنق تحت وطأة الرعب، وكيف لم يكن هناك من "نظام إنقاذ"، إنما فقط غريزة نجاة عارية في وجه الإهمال واللامبالاة والبيروقراطية العسكرية: "ما كتبته لم يكن توثيقاً لمعاناة فرد بقدر ما كان مواجهة مع نظامٍ اعتاد تحويل الجنود إلى وقود لمواقده، وتعامل مع الإنسان كغرض فائضٍ عن الحاجة. في الخدمة العسكرية، كان الفساد أمراً معتاداً، والإهمال قاعدة لا استثناء. لم تكن حياة المجنّد تساوي شيئاً، ولم تكن الخيام تتوفّر فيها أبسط معايير السلامة. لا وجود لطبابة حقيقية، ولا احترام لكرامة الإنسان، إنّما إذلال يوميّ، واحتقار للمجنّدين، وكأنّ المطلوب هو قهر العسكريّ بفجاجة ورخص. كتبتُ لأن النسيان لم يكن شفاءً. كان خيانةً لذاكرةٍ ما تزال تئنّ. الحروق الجسدية التحمَت، وآثارها على الجسد، على الروح، على اللغة، على الهوية، ظلت مفتوحة كجروح لا تريد أن تندمل. أردت أن أحرّر الصوت من محاولات الطمس، أن أدوّن ما لم يُكتب عن الجحيم البيروقراطيّ العسكريّ، عن النظرات التي تُحوِّل الناجين إلى كائنات ممسوخة، وعن العطب الذي يعيد تشكيل الإنسان من رماده، لا من نجاته".
"من يحترق لا يعود كما كان"
ويسرد هيثم حسين هدفه من تدوين حريقه الشخصي وحريق الوطن برمته: "لم أبحث عن بطولة، ولم أساوم على وجعي لأُؤسطره. أردت فقط أن أقول: إنّ من يحترق لا يعود كما كان، لا يعود إلى جسده الأوّل، ولا إلى زمنه الأوّل، ولا إلى نظرته الأولى للعالم. شيء ما يُكسر في التكوين والذهنية، وكتابة السيرة كانت محاولة للتعامل مع هذا الكسر، محاولة للتعايش معه لا لرتقه. كنت أعيش لحظة التحوّل التي أرادها النظام السوريّ السابق انتقالاً سلساً للسلطة من الأب إلى الابن، فيما كنّا نحن المجنّدين نُجرّ إلى مسالخ الولاء الإجباريّ. طُلِبَ منّا أن نبصم بالدم تأييداً للوريث. كان المشهد سرياليّاً، حيث دمٌ على ورقة، وصورٌ تُرفع لمن مات وأخذ البلاد معه إلى مقبرة مفتوحة، وآخرون يتدرّبون على تقديس الرئيس المنتظر الذي قُزّم الدستور حينها على مقاسه".
من أجواء الرواية - شنشار
نقتبس هنا مقطعا من أجواء الرواية في الفصل المعنون (شنشار) وهي بقعة صحراوية منسية تتبع لمدينة حمص وسط سوريا: "سكب غازي بعضا من البنزين على النيران، ولم ألمح بعدها إلا والنيران تملأ الخيمة وتحرقنا.. حاولت الهرب، لكن النيران كانت أسرع مني.. النيران تلتهم ثيابي ولحمي.. بعدها بوقت قصير سقطت بطانية عسكرية على جسدي فخمدت النيران. والنيران التي انطفأت ظلت مستعرة في روحي.. تجمد الزمن حولي. تحولت حياتي إلى جحيم حقيقي.. بعد تلك الساعة لم أكن كقبلها أبدا.. أحلامي الكبرى انهارت، وأصبحت رهين جسد محترق مهترىء".
هيثم حسين
هيثم حسين روائيّ كرديّ سوريّ، من مواليد عامودا 1978م، مقيم في لندن، عضو جمعية المؤلفين في بريطانيا، مؤسّس ومدير موقع الرواية نت. ترجمت أعماله إلى الإنكليزيّة والفرنسيّة والتشيكيّة والكرديّة... من أعماله الروائية والقصصية والنقدية حتى الآن:
في الرواية:
- "آرام سليل الأوجاع المكابرة"، دار الينابيع – دمشق 2006.
- "رهائن الخطيئة"، دار التكوين – دمشق 2009. ترجم إلى اللغة الكوردية من قبل الباحث والمترجم خالد جميل محمد.
- "إبرة الرعب"، منشورات ضفاف – بيروت، والاختلاف – الجزائر 2013. ترجمت إلى اللغة الكوردية من قبل معد هذا التقرير.
- "عشبة ضارة في الفردوس"، منشورات مسكيلياني – تونس 2017.
- "كريستال أفريقي"، دار عرب – لندن 2025.
في السيرة:
- "قد لا يبقى أحد.. أغاثا كريستي تعالي أقل لك كيف أعيش"، منشورات ممدوح عدوان – دمشق 2018.
- "العنصري في غربته"، منشورات رامينا – لندن 2023.
- هكذا عشت الجحيمَ"، منشورات رامينا، لندن 2025.
في القصة:
- "حين يمشي الجبل"، منشورات رامينا – لندن 2025.
في الدراسة والنقد:
- "الرواية بين التلغيم والتلغيز"، دار نون – حلب 2011.
- "الرواية والحياة"، منشورات الرافد – الشارقة 2013.
- "الروائي يقرع طبول الحرب"، دار ورق – دبي 2014.
- "الشخصية الروائية: مسبار الكشف والانطلاق"، دار نون – الإمارات 2015.
- "لماذا يجب أن تكون روائيّاً؟"، دار خطوط وظلال – عمّان 2020.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً