زياد الرحباني أحدث تغييراً في الموسيقى والغناء العربي.. رحل ونظرات امه فيروز تقول "اشتقت لك"

29-07-2025
معد فياض
معد فياض
الكلمات الدالة زياد الرحباني فيروز
A+ A-
رووداو ديجيتال

لم يكن زياد الرحباني، المولود ببلدة أنطلياس، محافظة جبل لبنان، في 1 كانون الثاني 1956، مجرد موسيقار فحسب، بل امتد الى التأليف المسرحي والغناء والتعبير الموسيقي بصوته الخاص.
 
حيث قدّم مجموعة من الأغاني التي لاقت رواجاً كبيراً، مثل "أنا مش كافر"، و"إسمع يا رضا"، و"بما إنّو"، إلى جانب ألبومه "هدوء نسبي" الذي يُعد تجربة استثنائية في المزج بين موسيقى الجاز والطابع الشرقي، مما جعل منه علامة فارقة في الموسيقى العربية الحديثة.
 
نشأ زياد في منزل عُرف بكثافة الإنتاج الفني والعمل الإذاعي والمسرحي اليومي، فهو نجل الموسيقار عاضي الرحباني والمطربة فيروز (نهاد حداد) وكان محاطًا بكُتّاب وموسيقيين وممثلين منذ سنواته الأولى. 
 
تلقّى تعليمه الابتدائي في مدرسة "جبل أنطلياس" الكاثوليكية، ثم انتقل إلى مدرسة "اليسوعية" في بيروت. لاحقاً، درس الموسيقى الكلاسيكية والجاز على البيانو بشكل غير أكاديمي، وتعلّم التأليف الموسيقي بمجهود ذاتي معتمداً على ما شاهده من عمل والده وعمه، منصور الرحباني، فضلاً عن تأثره بموسيقى الجاز الأميركية.
 
وليس غريباً ان تبدأ موهبته مع التلحين مبكراً، كان عمره 15 عاماً عندما لحن عام 1971 الأغنية الشهيرة "سألوني الناس"، التي أدّتها فيروز ضمن مسرحية "المحطة" وأحدثت صدى واسعاً فور صدورها، إذ مثّلت أول ظهور حقيقي لزياد كملحن ضمن أعمال العائلة الرحبانية. وقد شكّلت هذه الأغنية بداية مرحلة جديدة في مسيرته، وأظهرت ملامح أسلوبه الخاص، المختلف عن نهج والده وعمه، وفتحت أمامه باب التعاون الموسيقي مع فيروز الذي امتد لعقود لاحقة.
 
وفي عام 1973، حين كان لايزال في السابعة عشرة من عمره، حين لحن أغنية لوالدته فيروز، وذلك في ظل دخول والده عاصي الرحباني إلى المستشفى وتغيبه عن العمل الفني. كانت فيروز حينها تستعد لبطولة مسرحية "المحطة" من تأليف الأخوين رحباني، فكتب منصور الرحباني كلمات أغنية تعكس الغياب المفاجئ لعاصي، وأسند مهمة التلحين إلى زياد.
 
لكن اول ظهور له على المسرح كممثل كان في مسرحية "المحطة"، مجسداً دور الشرطي، وهو الدور ذاته الذي كرره لاحقاً في مسرحية "ميس الريم"، حيث قدّم مشهداً حوارياً موسيقياً مع فيروز، سائلاً إياها عن اسمها وبلدتها في قالب ملحّن. إلا أن مشاركته لم تقتصر على التمثيل، فقد قام أيضاً بتأليف موسيقى مقدمة "ميس الريم"، والتي أثارت إعجاب الجمهور لما حملته من تجديد في الإيقاع والأسلوب، كاشفة عن لمساته الشابة المختلفة عن أعمال والده وعمه.
 
مع مرور الوقت، أحدث زياد تحولاً كبيراً في شكل المسرح اللبناني، إذ ابتعد عن النمط المثالي والخيالي الذي تميز به مسرح الأخوين رحباني، واتجه إلى مسرح سياسي واقعي يعكس حياة الناس اليومية، خصوصاً في ظل أجواء الحرب الأهلية اللبنانية. فكانت أعماله تعبيراً مباشراً عن هموم المجتمع اللبناني، بلغة نقدية لاذعة وسخرية ذكية.
 
سلك زياد الرحباني بعد وفاة والده عاصي الرحباني عام 1986 مساراً فنياً أكثر نضجاً وتجديداً، وترك بصمة لا تُنسى في عالم الموسيقى والمسرح العربي الحديث. رسّخ حضوره كواحد من أبرز المجدّدين في المسرح اللبناني والعربي، من أبرز أعماله المسرحية في هذه المرحلة، مسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟" التي عُرضت عام 1978، والتي تُعد مرآةً للأزمة اللبنانية وتتناول قضايا الخيانة والانتماء بأسلوب ناقد وساخر. 
 
ثم جاءت "فيلم أميركي طويل" في عام 1980، وهي من أكثر مسرحياته شهرة، حيث تدور أحداثها في مستشفى للأمراض العقلية، وتتناول بأسلوب رمزي الواقع العبثي في ظل الحرب. في عام 1983 قدّم مسرحية "شي فاشل"، التي انتقدت النظام التعليمي والفساد الإداري، كما تابع خطّه النقدي في "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" عام 1993، و"لولا فسحة الأمل" عام 1994، حيث واصل عبرهما توجيه النقد السياسي والاجتماعي بلغة ساخرة وغير مباشرة. 
 
تجدر الإشارة أيضاً إلى أن بدايات زياد المسرحية المستقلة تعود إلى أوائل السبعينيات من خلال أعمال مثل "سهرية" عام 1973 و"نزل السرور" عام 1974، والتي مهّدت لأسلوبه الفني الخاص في المزج بين الموسيقى والمسرح والكوميديا السوداء. وبالإضافة إلى ظهوره في مسرحياته الخاصة، شارك زياد الرحباني ممثلاً في فيلم طيارة من ورق (The Kite) للمخرجة رندة الشهال صباغ عام 2003.
 
ارتبط اسم زياد الرحباني بصوت والدته فيروز، خاصة بعد وفاة عاصي، حيث لحن لها مجموعة كبيرة من الأغاني التي أصبحت جزءاً من الذاكرة الفنية اللبنانية والعربية. من بين هذه الأغاني "سألوني الناس" التي كانت نقطة تحول فارقة في مسيرته، إلى جانب أغنيات شهيرة أخرى مثل "كيفك إنت"، "بعتلك"، "عودك رنان"، "البوسطة"، "عندي ثقة فيك"، "ضاق خلقي"، "سلملي عليه"، "قديش كان في ناس"، "يا جبل الشيخ"، "مش كاين هيك تكون"، "إيه في أمل"، "اشتقتلك"، "ولا كيف"، و"صباح ومسا". وقد أثمرت هذه الأعمال عن ألبومات بارزة مثل "كيفك إنت" (1991)، "ولا كيف" (2001) و"إيه في أمل" (2010).
 
إلى جانب تعاونه مع والدته، تعاون زياد مع مجموعة من الفنانين الآخرين. كان من أبرزهم المغني جوزيف صقر، الذي شكّل معه ثنائياً مميزاً، خصوصاً في ألبوم "بما إنّو" ومجموعة من أغاني المسرحيات الشهيرة. كما لحّن لبعض الفنانين مثل مادونا اللبنانية، ولطيفة التونسية، في عدد من الأغاني الفردية والحفلات الخاصة.
 
تميز أسلوب زياد الرحباني بالسخرية والعمق في معالجة الموضوع، كما أنه يعتبر طليعيا شيوعياً وصاحب مدرسة في الموسيقى العربية والمسرح العربي المعاصر.
 
أمس شيعت لبنان، بمظاهر مهيبة فقيدها وفقيد الموسيقى العربية والعالمية، زياد الرحباني. شارع الحمرا في وسط بيروت احتشد بمئات الالاف من المشيعين الذين صفقوا بايقاع احتفالي مميز بينما كانت السيارة السوداء التي تقل جثمانه تمضي به الى وداعه الاخير. اغلقت المحلات ابوابها وتركت انساء بيوتها وتوقفت حركة العمل في كل مكان. امراة محجبة مسنة كانت تقف على رصيف شارع الحمرا صاحت بجمهور المشيعين عندما مر الجثمان قربها "وين ماخذينو. هذا ابنا. وين رايحين بابنا".
 
حضور والدته فيروز، المفاجئ، حيث كانت قد احتجبت بمنزلها ولم تخرج منه منذ سنوات، اضافت الى مشهد التشييع والوداع مهابة مضافة، إذ جلست في الكنيسة صامته مثل شجرة ارز لبنانية عتيقة، تضع نظارة سوداء تحجب رؤيتها للعالم، وبجانبها ابنتها ريما. اللافت كان دخول الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي وركوعها عند فيروز وهي تقبل يديها لتخفف عنها هذا الفقدان المفجع، بينما كان هناك طابور طويل من الفنانين والكتاب والشعراء والسياسيين لتقديم العزاء.
 
زياد الرحباني الذي رحل فجر امس الاول، الاحد، 28 تموز 2025، كان وسيبقى صوتنا وموسيقانا واغانينا التي ابدعها ليس لنسمعها فقط بل لنعيش معها. كانت قصصنا في فرحنا واحزاننا وهمومنا. زياد الرحباني كان جيلاً كاملاً مختصراً بابداعه.

 

 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب