يهرب من الوقت إلى الوقت.. يتمرد على عقارب الساعة ويعود متشبثاً بها.. "الوقت" هو عنوان المعرض الشخصي الأول للفنان التشكيلي، النحات، أحمد البحراني، وبعد أكثر من 32 سنة من تركه العراق يكتشف أن "الوقت يبدأ هنا"، فيحط رحاله ويعرض أعماله: نحت، رسم، حياكة (سجاد)، وطباعة (سلك سكرين) في واحدة من أكبر وأهم صالات العرض التشكيلي (ذي كاليري) في منطقة الكرادة برصافة بغداد.
معرض البحراني (الوقت) بلا شك هو الأهم فنياً منذ عقود طويلة في العراق، وجمع جمهوراً غفيراً من فنانين ونقاد ومهتمين لم تتسع لهم الصالة، فكانوا يدورون حول الأعمال، يتأملونها، يلتقطون معها ومع الفنان صوراً تذكارية ثم يتركون المكان ويعودون إليه بعد أن يخفت الزحام.. الذي لم يخفت.
"رووداو" زارت المعرض والتقت بالفنان التشكيلي أحمد البحراني الذي امتزجت في تعابيره وحديثه ملامح الفرح والقلق وكأنه يقيم معرضه الأول، مع أنه – وحسب إيضاحه – "هذا المعرض يشكل بالنسبة لي انعطافة كبيرة في حياتي بعد أكثر من 32 سنة في الغربة، كان عندي حلم إقامة معرض في بغداد وتعمدت أن أطلق عليه المعرض الشخصي الأول ببغداد بعد 17 معرضاً شخصياً أقمتها خارج البلد، وهذا رقم كبير بالنسبة لفنان تشكيلي خاصة في فن النحت الذي يتطلب مستلزمات تقنية ووقتاً طويلاً لإنجاز القطع الفنية، في عواصم مختلفة بدول العالم وسفر وانتقالات، واليوم يتحقق حلمي وأقيم هذا المعرض ببغداد".

وأضاف: "ولا أخفيكم سراً بأني مع كل معرض يراودني قلق الفنان، ولكن هذه المرة القلق مضاعف جداً لأن هناك جمهوراً كبيراً أنتظر ماذا سيقدم أحمد البحراني، خاصة وأن بغداد بالنسبة لي هي المحطة المهمة جداً في حياتي لأن الجمهور هنا ذواق ونقاد، والنقد يكون أحياناً متعباً، لذلك إقامة معرض في بغداد تحتاج جهوداً إبداعية حقيقية وأن أقدم إنجازات جديدة، ولكن في النهاية أنا أنجز ما أؤمن به.. وبإيمان مطلق بما أنجزته وأحترم من خلاله جمهوري، ويبقى على المتلقي كيف سيستقبل هذه الأعمال وأنا لست مسؤولاً عن رأيه، والتاريخ سيكون هو المسؤول عنه، والنقاد.. حاولت جهدي تقديم تجربة فيها عناصر تتوفر على نجاح العمل الفني، أما كيف سيستقبلها الجمهور فأنا في الانتظار".
الجمهور العراقي كان بالفعل في انتظار مثل هذا المعرض لما تنطوي عليه تجربة البحراني، المقيم ما بين السويد وقطر، من اكتشافات وإنجازات إبداعية، خاصة وأنه يعود في هذا المعرض إلى التجريد بعد أن أنجز أعمالاً واقعية أو كؤوساً وميداليات لبطولات في كرة القدم، كأس الخليج العربي أحدها، وتسع منحوتات بما في ذلك تشارلي شابلن، الأم تيريزا، ومايكل جاكسون، في حديقة بايفرونت، ميامي، فلوريدا، عام 2014، ومنحوتات كبيرة في مطار حمد الدولي، وفي قاعة لوسيل بالدوحة، وأعمال أخرى تتوزع على دول العالم.

لكنه، البحراني، يخرج من الوقت الساكن، من الأعمال النحتية البرونزية في صالات المطارات والفنادق ليعود إلى الوقت المتحرك والمتفاعل مع الأحداث في معرضه البغدادي الذي ضم: 24 عملاً نحتياً (برونز)، وأكثر من 30 عملاً طباعة (سلك سكرين)، و8 أعمال رسم كبيرة قياس (180 × 180) سم، و5 قطع حياكة (سجاد)، كلها تكمل بعضها مع اختلاف موادها: برونز، ورق، حبر، خيوط، في حكاية تتواصل لتروي قصة البحراني مع الوقت والتي يلخصها بكتابة تحت عنوان "منبّهٌ صدئ… وغربة لا تزال (تلمع)"، نجتزئ منها هنا: "من سوق (الهرج) من بائع يفترش الأرض في بغداد اقتنيت ساعة بسيطة (منضدية سوداء) أصبحت رفيقة رحلة لم أخترها ظلّت معي وجهاً لوجه.. تبدّلت المدن: (بغداد، عمّان، صنعاء، الدوحة)… ضاع الكثير، هلكت التفاصيل وتلاشت الأشياء إلا تلك الساعة (المنضدية السوداء)، بقي صوت عقاربها يثقب أذني يقظةً ومناماً كأنها شاهد صامت على غربتي وعلى عمر يتآكل في المدى.. (ساعة) أعدت رسمها مراراً ليس لأنني أريد التكرار بل كي أثبّت ملامحها في الذاكرة الجمعية فلا تذهب عقولكم إلى ساعاتكم بل إلى ساعتي أنا… إلى منبهي الذي صدئ، وإلى غربتي التي لا تزال تلمع".
بالرغم من أن الوقت، الزمن، فكرة فلسفية مجردة، ولا يُلمس أو يُمس، ويمر سواء من خلالنا أو حولنا، يشغلنا، إلا أنه تحول في أعمال أحمد البحراني إلى كائن ممكن محادثته أو مناقشته أو تجسيده تجريدياً في أعمال فنية. يقول البحراني: "الزمن لا يمر كما يتهيأ لنا بل يستقر، يسكننا، يحول ملامحنا ويتكاثر وينتشر في أرواحنا، يدخل ويتسرب إلى أدق التفاصيل في حياتنا إلى أن نصبح أبناء تلك اللحظات التي لم نعشها كما كنا نتمناها".

البحراني مهتم بالسينما، وهذا الاهتمام قد يقترب من اهتمامه بالمنجز التشكيلي، يفسر هذه العلاقة بين السينما والفن التشكيلي قائلاً: "ما يجمع بين السينما والفن التشكيلي هي الصورة، السينما والفن التشكيلي يسيران بخط مشترك ولا يتقاطعان من أجل خدمة الشاشة، وأنا أتخيل اللوحة عبارة عن شاشة سينمائية، ومثلما يشكل الفنان لوحته كذلك المخرج السينمائي يفعل بفيلمه مستعيناً بالممثل والإضاءة والكادر وتوزيع الكتل.. بالتأكيد هناك علاقة وطيدة بين السينما والفن التشكيلي".
وأردف: "قبل أن أتخصص بالفن التشكيلي كنت عندما أشاهد فيلماً أقول فيه صورة جميلة وتكوينات فنية، حتى المتلقي الاعتيادي الذي ما عنده فكرة عن الفن التشكيلي يفسر الفيلم الجيد بأنه صورة جميلة، وهذا يعني أن المخرج قدم عملاً له علاقة بالتشكيل، والكثير من المخرجين يعتمدون على مساعديهم الذين يكون أحدهم فناناً تشكيلياً لرسم كوادر الفيلم والمناظر والمشهد، وهذا معروف على مستوى السينما عالمياً".

قلق المبدع أحمد البحراني لا يتبدد بسهولة، بل ينمو مثل نبتة تتسلق داخله مع كل رأي نقدي، يقول: "أنا فخور بما حققه المعرض من صدى كبير وحضور لافت ونوعي، فنياً واجتماعياً، فالجمهور العراقي العظيم الذي حضر من كل مدن العراق الحبيب، أهلي وإخوتي، ومن بعض الدول العربية، حملني فضلاً ومحبة ومسؤولية أكبر مما توقعت، أن يجتمع هذا العدد الكبير وأن يتكبد عناء السفر ليكون حاضراً هو دليل على أن الفن حين يقدم بصدق قادر أن يلامس القلوب ويستفز الذاكرة، وأن يجعل من اللقاء مناسبة إنسانية قبل أن يكون فنية".
وأضاف : "أنا واثق أن التجربة لم تمر دون نقد، وهذا طبيعي وشيء صحي، فالفن الحقيقي لا يكتمل إلا بوجود الرأي المختلف والحوار المفتوح على أن يرتقي إلى المستوى المطلوب من ثقافة الحوار الخالي من (الشخصنة)"، ملخصاً فلسفته في العمل الفني: "أنا أعيش بروح الهواية وأمارس الفن بأدوات المحترف بشغف".
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً