رووداو ديجيتال
أحالني الفلم الايراني (لا يوجد شر) قصة وسيناريو واخراج محمد رسولوف، الى مشاهد اعدام الجنود العراقيين خلال الحرب العراقية الايرانية (1980-1988)، عندما كانت قيادات فرق الاعدام تجبر الجنود على توجيه بنادقهم نحو صدور رفاقهم واصدقائهم واخوتهم المتهمين بالتخاذل في ساحات القتال واعدامهم، ومن لا ينفذ هذا الامر تصل عقوبته حد الوقوف في الصف الاخر، اي المتهمين بالتخاذل. والى فصول اعدام الكورد في معتقلات الامن بمدن اقليم كوردستان، حيث كانت تنفذ بشباب الكورد عقوبات الاعدام بالجملة في عهد النظام السابق.
فلم (لا يوجد شر) او حسب اللغة الفارسية (شیطان وجود ندارد) أي "الشيطان غير موجود"، وبالانكليزية There Is No Evel، وتعني الاسمين، الشر غير موجود، أو الشيطان غير موجود، كتبه وأخرجه محمد رسولوف ولعب بطولته كل من: باران رسولوف، زيلا شاهي، محمد صديقي مهر، محمد فاليزاديغان، كافيه أهنجر ومهتاب سيرفاتي، موسيقى أمير مولوكبور، تصوير اشكان اشكاني، انتاج 2020، ويعرض حاليا على شاشة نيتفليكس، مدة عرضه 150 دقيقة.
الفلم يتكون من اربع قصص منفصلة، اي يضم اربعة افلام مختلفة في قصصها وممثليها، لكن ما يجمع بينها موضوع او ثيمة واحدة، فعل الاعدام، أو تنفيذ عقوبة الاعدام، حيث عالجها رسولوف من وجهة نظر اخلاقية وسايكولوجية في آن واحد، موضحا أن الفيلم يدور حول "أشخاص يتحملون المسؤولية" عن أفعالهم، وأن كل قصة "تستند إلى تجربتي الخاصة".
تظهر القصص، او الافلام الاربعة، الحالة النفسية لاشخاص يأمرون بتنفيذ عقوبة الاعدام بأخرين لا يعرفونهم لكن السلطات تقنعهم بانهم مجرمون وارتكبوا افعال فضيعة ضد الوطن، وعلى العكس من بقية الافلام التي عالجت موضوع الاعدام والتي تسلط الضوء على المحكوم بالاعدام ذاته ومشاعره النفسية قبل التنفيذ فاننا هنا لا نشاهد اي من هؤلاء خلال تنفيذ الاعدام بهم، بل سلط رسولوف الضوء على الحالة النفسية لمن سينفذ او نفذ العقوبة، والموضوعات برمتها هي ادانة لنظام حكم شمولي وتعسفي يضطهد كلا الطرفين، المحكوم بالاعدام ومن ينفذ الحكم.
"لا يوجد شر"
القصة الاولى "لا يوجد شر" تختلف كلية عن مسار القصص الثلاث الاخر، وكذلك في معالجتها للموضوع، حيث تتطلب من المشاهد الصبر والتأني طويلا في متابعة تفاصيل يومية لرجل اربعيني، حشمت (احسان مير حسيني)، متزوج من راضية (شاغيغ شوريان)، وله بنت، وهو يتنقل ما بين مكان عمله، والواضح انها مؤسسة أمنية شديدة الحماية، وبين انشغالاته بنقل زوجته المعلمة من مكان عملها والذهاب الى البنك لاستلام راتبه، ثم نقل ابنته الصغيرة من مدرستها والتسوق قبل الذهاب الى امه المقعدة وكيف يسعى للتعامل مع امه ومداراتها بحنان وصبر، بل ان المخرج يقدمه لنا كشخص طيب ومتعاون بحيث انه لا يتردد عن مساعدة جارته واولادها لاخراج قطة صغيرة من تحت خزان الماء في قبو البناية، وقبل ان ينفقد صبرنا كمشاهدين لهذه المشاهد الروتينية الاعتيادية يفاجأنا رسولوف باللقطات الختامية التي ستربطنا بقوة بالحدث، حيث يصحو هذا الرجل (الطيب) الساعة الرابعة فجرا ليأخذ حمامه تحت سيل مياه الدوش (الشور) ويتعطر قبيل خروجه من منزله الى مكان عمله، وكأنه ذاهب الى صالة فنون او بهو فندق راقي، لكننا سنشاهده وهو يدخل الى اسوار مقر امني مشدد بحراسته، متجها، بعد وصوله، الى المطبخ ليهيئ االشاي لفطوره المبكر ويغسل االخضرة، الطماطة والخيار بتروي، قبل ان تضاء انوار برتقالية صغيرة مثل علامة المرور فوق شباك صغير زجاجه معتم، ينظر خلاله ويكمل بلا اي اهتمام غسل الخضار حتى تظهر اضوية خضراء ، يعاود النظر من خلال الشباك الصغير المعتم ثم يضغط على زر أخضر بروتينية اعتيادية تعود عليها، لنشاهد، نحن، جثث مدلاة، نفذ بها حكم الاعدام بطريقة جماعية وبضغطة زر، حيث ما زالت الارجل تتحرك وترفس قبل ان تستسلم للموت.
"افعلها فقط"
في القصة الثانية، او الفلم الثاني، يضعنا رسولوف في حمأة الحدث، ينقلنا هنا من رتابة احداث القصة الاولى ودهشة االحدث المأساوي المفاجئ، الى نقاش ساخن بين خمسة من افراد الامن المجندين (جنود) محجوزون في غرفة هي اشبه بزنزانة داخل السجن المركزي ومهمتهم تنفيذ احكام الاعدام، حيث نجد المجند أمير (كافيه ابراهيم)، المكلف تلك الليلة بتنفيذ اول حكم باعدام شخص في حياته، قلقا ومترددا، فهو لا يعرف المحكوم بالاعدام وفيما اذا كان مجرما بالفعل ام بريئا، لان السلطات لا تخبرهم بالحقيقة وتقول لهم انه خائن او قاتل دون اية ايضاحات او براهين، لكن رفاقه في الغرفة- الزنزانة، يخبروه ان مهمته هي مجرد سحب الكرسي من تحت المحكوم، فهو مجند وعليه ان يطبق القوانين دون نقاش، لكنه لا يقتنع بكل هذه الاقاويل، ويصل الى حافة منح 3 ملايين تومان، هي كل ما عنده الى مجند آخر يريد خمسة ملايين لمساعدة اخته لاجراء عملية في كليتيها، من اجل ان ينفذ زميله الحكم بدلا عنه. انها عملية بسيطة، ان تسحب الكرسي من تحت اقدام شخص لا تعرفه وينتهي الامر، هكذا يخبره احد زملائه المتمرس بتنفيذ احكام الاعدام، مضيفا"نحن هنا لتنفيذ القوانين والاوامر، وليس لمناقشة القرارات القضائية"، لكنه لا يقتنع، خاصة وان احد زملاء الزنزانة مددت فترة تجنيده الى ثلاث سنوات عقوبة لعدم تنفيذه حكم اعدام احدهم. بين كل ما يقلقه من مشاعر يتلقى اتصالات عبر موبايل احد الزملاء من حبيبته (داريا مقبيلي) التي تفشل كل جهودها لاقناع شقيقه الذي يتمتع بنفوذ في السلطة لنقله من هذا المكان، لكنها تخبره بان لا ييأس ، وعندما يستسلم اخيرا وقبل ان يخرج لتنفيذ حكم الاعدام، يمنحه زميله، صاحب الموبايل، ورقة مكتوب فيها بعض التعليمات ويقول له"فقط نفذ ما في الورقة"، وسوف نكتشف فيما بعد ان الرسالة عبارة عن خطة اعدتها حبيبته لهروبه من السجن بعد ان يلتقي وجها لوجه مع المحوم بالاعدام، حيث يقوم بسلب سلاح الحارس ويقيده مع المحكوم بالاعدام ليتمكن من الهروب من بوابة السجن ليجد حبيبته تنتظره هناك بسيارتها الصغيرة. آخر مشهد في هذه القصة نشاهد فيه الحبيبان منطلقان خارج طهران وهما يرددان الاغنية الايطالية الشهيرة"بيلا تشاو" وداعا ايتها الجميلة، وهي اغنية ثورية من الفلكلور الايطالي ابان الحرب العالمية الثانية، اشتهرت من قبل حركة المقاومة ضد النازية.
"عيد ميلاد"
القصة الثالثة، او الفلم الثالث حمل عنوان "عيد ميلاد"، تتناول ذات الموضوع، تنفيذ حكم الاعدام، حيث المشاهد الاستهلالية للفلم تعرض لنا جواد، الجندي الشاب (محمد فاليزاديجان) وهو يعبر بملابسه نهر صغير ليعبر الى الضفة الاخرى متجها الى بيت حبيبته نانا (مهتاب سيرفاتي) لحضور عيد ميلادها والتقدم لخطبتها، بعد ان حصل على إجازة قصيرة بسبب تنفيذه حكم باعدام احد الاشخاص، لكنه سيفاجأ ان الاجواء في بيت نانا مشحونة بالحزن والغضب لموت شخص مععارض كان قد لجأ الى القرية وانشأ مدرسة واحبه الاهالي، خاصة نانا وعائلتها. لكننا سنشعر بتوتر جواد الذي لا تعرف نانا مصدره، ممزوجا باجواء عاطفية قلقة، بسبب تحول حفلة عيد الميلاد الى ندوة خطابية لاستذكار الاستاذ الغائب الذي سيرى جواد صورته فيزداد توترا ليعترف لحبيبته بانه من نفذ حكم الاعدام به، هو من سحب الكرسي من تحت قدميه وتركه معلقا، مشنوقا، ليحصل على اجازة حضور عيد الميلاد، وتنتهي القصة بالتأكيد بافتراق الحبيبين، بالرغم من انه يبرر لنانا بان لا يد له في اصدار حكم الاعدام وان واجبه العسكري يقضي بالتنفيذ فقط.
"قبليني"
تأكيد رسولوف، كاتب ومخرج الفلم، على انه عرض اشخاص "يتحملون مسؤولية افعالهم"، يتجسد أكثر في القصة الرابعة "قبليني"، اذ نجد بهرام (محمد صديقي مهر)، قد اتخذ من مكان نائي في الصحراء مسكنا له مع زوجته زمان (جيلا شاهي)، مبتعدا عن كل من يعرفه لارتكابه عمليات تنفيذ احكام الاعدام. يستهل الفلم بانتظار بهرام وزوجته زمان لابنة صديقه داريا (باران رسولوف)، ابنة المخرج، في مكار طهران، وهي القادمة من اوربا التي تقيم فيها مع والدها، في اجازة قصيرة وللتعرف على بيئتها الاصلية، لكنها تتفاجأ بالمسكن النائي وعدم توفر شبكة اتصالات وانترنيت، وتستغرب من اختيار بهرام لهذا المكان، قبل ان تكشف لها زمان بانها (داريا) هي ابنة بهرام، وقد ارسلها مع احد اقاربها للاستقرار في اوربا بعيدا عن مشاكله وحياته المنعزلة. بهرام وفي احدى حواراته يقول" إنه لو عاد به الزمن لكرر نفس ما فعله"، وبانه اختار هروبه الى منفاه طائعا وليس مجبرا، فهو هروب من ذاته ومن ماضيه الذي لن يتخلى عنه، هروب الى العزلة التي يصر عليها في آخر مشهد من الفلم وهو مستلق لوحده في الصحراء.
اسلوب اختيار مواقع التصوير لا يختلف عن بقية المخرجين الايرانيين في الاعتماد على المشاهد والفضاءات الخارجية، اكثر من الاستوديو خاصة وان محمد رسولوف صور مشاهد افلامه الاربع بصورة سرية لمعرفته بعدم حصوله على الموافقات الرسمية. وجاءت المشاهد الخارجية والطبيعة، شوارع وابنية طهران، الجبال، النهر، الغابة، الصحراء، لتكمل هذا التعاكس الذي تقصده المخرج، بين الاسود والملون، بين الماساة التي تسببها مواضيع القصص الاربع، الاعدام، والانعتاق نحو الحياة، وبالرغم من ذلك فان اجواء الضيق النفسي تبقى مسيطرة على اجواء الافلام.
فلم، او افلام "لا يوجد شر" منع من العرض في ايران، كما ان مخرجه محمد رسولوف ممنوع من السفر منذ 2017، وبالرغم من ذلك كان الفلم قد شارك في مهرجان بمهرجان برلين السينمائي الدولي بنسخته الـ 70 وفاز بجائزة الدب الذهبي التي تسلمتها نيابة عن المخرج ابنته باران، التي مثلت في القصة الاخيرة من الفلم، وقالت "إنني مرتبكة وسعيدة جدا بهذه الجائزة، ولكن في الوقت نفسه حزينة لأنها لمخرج لم يستطع الوجود هنا الليلة".
وقال جيريمي أيرونز رئيس لجنة تحكيم مهرجان برلين بدورته الـ 70، وهو يصف الفيلم إنه يحكي "أربع قصص تظهر كيف يلقي نظام مستبد شباكه على المواطنين العاديين بغرض جرهم نحو الوحشية".
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً